فضاء نذير نبعة

نذير نبعة

فضاء نذير نبعة

هو الآن في قمة النضج والتوازن، حيث تتوافق المهارة مع الرؤية، وتلتقي المشاهدات وتختزل، فيستطيع أن يتخيل الموضوع ويحاوره ويجسده.

لكن التجريد الذي أوصله إلى أسلوب ومعايير، متصل بحرارة المشاهدات. قلما تجد ذلك في وضوح آسر كما تجده عند نذير نبعة. فالملامح محفورة في عمق صلته بالبيئة وشعوره بألوان المكان، ومعرفته مجتمع النساء. لكنه حر وشمولي، لا يستطيع أن يرى الواقع المحدد إلا في تعميمه الشاسع، في مستنبته من حضارة وزمان موغل في القدم، وفي مداه وخلوده الحي في المستقبل. لذلك لا يسجل الأمس كمن يكرر المنحوتات الكنعانية والتدمرية، بل يسجل استمرار الحياة، جوهر ما نلمسه أو نراه، ويقترح خلوداً وسعة لكل ما اصطفاه، فيدفعك إلى تبني أشكال حليه وملامح نسائه إذا عدت إلى ما يتخيل غليك أنه أصولها الموجودة حتى اليوم وتحمل من لوحاته تصحيح ما تراه واستعادة جوهره وآفاقه ولذلك لا يبدو التراث مغلقاً لديه.

لا نعتبر توهج المادة التي اصطفاها الفنان واحتواها هواه، ولا تغير ملاحظته الواقع المفرد والمحدود. بل هو حساس ودقيق في متابعته وتقصيه، لكنه فنان يرصف كل ما رآه في رؤيته الواسعة، يجرده ويوصله إلى جوهره وشموله. ولذلك تتصل الحضارات في لوحته، وتجتمع ملامح النساء من ريف الشمال إلى مصر. ويخيل إليك أن المرأة التي تراها هي امرأة العصور، المرأة الريفية الراهنة المزينة بحليها وألوانها، والمرأة الفينيقية والآشورية، والكنعانية والآرامية القديمة. وكما تلمح المرأة الديرية المعاصرة في تماثيل تدمر، تلمحها في لوحات نذير نبعة لكنها أكثر سعة وألواناً لديه، وكأن الفنان وجد الجوهر الذي يتجلى في ملامح الحضارات وفي ملامح الواقع المنفرد واستقدمه.

منذ بدأ في دير الزور أول مجسداته إلى أن اكتملت ألوانه اجتمعت تفاصيله كعناقيد الشرق التي تنضج في الشمس. وهكذا فشعوره بالانتماء كشعور البيئة بالتراب والطقس. وهو كذلك من رؤية شاملة، عميقة، لا من تعصب يلزم نفسه به، من حرارة الأصول. ومن معرفة الثروة الفنية الهاجعة في التماثيل والقصور المحاصرة اليوم بالصحراء، والبسط والحلي والأقمشة المحلية، ومن ملاحظاته انسجام الملامح الإنسانية والأجسام مع الأشياء، التناسق الحضاري الذي مازال يحمي نفسه في ثنايا المدينة القديمة والريف البعيد، الكمال المفقود الهارب من قسوة المعاصرة.

ويتأمل صلة الفنان القديم ابن الحضارات القديمة، بألوان الشمس والتراب والأساطير.

وبمراقبة ما يخسره الإنسان حيثما خلع ما تلبسه بيئته من الألوان.

وهكذا بقي شرقياً يميز الروح في الألوان والأوراق والأقمشة وفي الحروف والأشياء كي يجمع نذير شتات الأشياء، وكما الرؤية في نسق، يوقف الزمن في برهة الأسطورة، يوقف زمناً انتقاه، مع زخارفه ومواكبه المفضلة الملونة.

نضجت أشكاله كما تنضج الأعمال الفنية الكبرى، بتدريب المهارة اليومي، بالعمل الجدي، في فيء الحضارة.

ولم يواته ذلك الخلق في أزمات، بل كأنما واتاه في هدوء، لأنه لم يستند إلى أفكار أقحمها على نفسه كي يكون فناناً معاصراً كبيراً. فظل يشعر بالتجريد والحياة معاً، ظل يراقب جديلة الصور والألوان في الصدف والسجاد والأقمشة وأثاث البيوت القديمة. ويلمس الرؤية الفلسفية والفنية الشرقية في المجسدات اليومية ويتبع تجريدها في إغناءة الحروف وألوان القماش وعقدة غطاء الثوب وتداخل خيوط النول، ويرى روح الكون الكلية المجسدة في كل ما هو مصنوع وما هو حي. ولعله من الحسي ومن الفلسفي معاً، تبني تواصل الحضارات السورية وجوهر الروحانية الحسية الشرقية التي ترى الحياة الشاملة في الوردة والمزمار والطيور والإنسان، وجعل تلك الفلسفة فنية مختصة بلوحاته.


د. ناديا خوست