الصفحة الرئيسية | شروط الاستخدام | من نحن | اتصل بنا
|
هو الآن في قمة النضج والتوازن، حيث تتوافق المهارة مع الرؤية، وتلتقي المشاهدات وتختزل، فيستطيع أن يتخيل الموضوع ويحاوره ويجسده.
لكن التجريد الذي أوصله إلى أسلوب ومعايير، متصل بحرارة المشاهدات. قلما تجد ذلك في وضوح آسر كما تجده عند نذير نبعة. فالملامح محفورة في عمق صلته بالبيئة وشعوره بألوان المكان، ومعرفته مجتمع النساء. لكنه حر وشمولي، لا يستطيع أن يرى الواقع المحدد إلا في تعميمه الشاسع، في مستنبته من حضارة وزمان موغل في القدم، وفي مداه وخلوده الحي في المستقبل. لذلك لا يسجل الأمس كمن يكرر المنحوتات الكنعانية والتدمرية، بل يسجل استمرار الحياة، جوهر ما نلمسه أو نراه، ويقترح خلوداً وسعة لكل ما اصطفاه، فيدفعك إلى تبني أشكال حليه وملامح نسائه إذا عدت إلى ما يتخيل غليك أنه أصولها الموجودة حتى اليوم وتحمل من لوحاته تصحيح ما تراه واستعادة جوهره وآفاقه ولذلك لا يبدو التراث مغلقاً لديه.
كانت مرحلة الستينات في تاريخ مصر والعالم العربي من المراحل التاريخية المهمة بما حملته من انتصارات وانكسارات، وفي ستينات مصر قلب العالم العربي، أكمل الفنان نذير نبعة دراسته الأكاديمية الفنية التي اعتمدت في مفاصلها الأساسية على تجربة أوروبا الفنية والجمالية بموضوعاتها وتقنياتها.
وهنالك أيضاً شاهد وتأثر بأعمال الفنانين المصريين بمختلف أجيالهم وتوجهاتهم، سواء منهم اللذين انتموا إلى المدرسة الأكاديمية أمثال مختار وأحمد صبري، أم اللذين حاولوا تأصيل فن مصري يأخذ موضوعاته من التاريخ القومي واستلهام القيم الجمالية الشعبية أمثال محمود سعيد ومحمد ناجي، أم اللذين استهوتهم المغامرات الفنية الوافدة من سريالية وتكعيبية أمثال، سيف وائلي ورمسيس يونان.
ملاحظات وانطباعات نقدية شاعر الربابة والأصابع الأسطورية الفنان نذير نبعة ينتصر لحاضر الإنسان في ماضيه |
وليد إخلاصي |
لم يخب ظن نذير نبعة حين أمسك الريشة وقرر أن يفعل شيئاً له قيمة. أنا أكتب انطباعي الشخصي هذا وأكاد لا أعرفه إلا من خلال ابتسامة برزت حنونة من بين شفتيه وعينيه لتؤكد لي أن هذا الشاب من أصحاب العوالم الداخلية الرحبة.
هو شاعر من الداخل بدون شك، وأؤكد على أنه حاول أن يكتب شعراً قبل أن يرسم، فلم تستجب له الحروف لضيق أفقها، فتحدى السطح الأملس الأبيض ليقول شيئاً.
- أيها السادة أمامكم الآن فنان جديد، ولكنه لم يقل كل ما يريد.
اهتم نذير نبعة بعمارة الصورة وجعل هذه العمارة راسخة في بنائها كالهرم، واستهوته الأساطير فوجد فيها نبعاً غزيراً أثار أحاسيسه وفجر أبعاداً جديدة في أعماقه تمثلت في لوحة «الطلسم» ثم قصد ضياع الإنسان في لوحة «إسرافيل».
من هو نذير نبعه؟
ولد عام 1938 في المزة من عائلة متواضعة الحال. وعندما نزل دمشق للدراسة، تعرف إلى عدد من معلمي الرسم، منهم ناظم جعفري وصلاح الناشف، كما تردد على استوديو النحات فتحي محمد فترة من الزمن. واستطاع أخيراً أن يتخصص على حساب الدولة في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، التي حصل منها بعد ذلك على دبلوم الكلية بدرجة امتياز، وكان مشروعه عن «عمال الأحجار». حيث عين بعد تخرجه أستاذاً للرسم في دير الزور.
لا ندري ما إذا كانت ذاكرة نبعة البصيرية أكثر احتشاءً في أوقيانوس الخط منه في المقامات اللونية؟ ما هو أكيد أن ريشته ـ مثل فرشاته ـ تتسلل داخل حبيبات الورق، وذرات أديمه، تغرس تبصيمة مخلبها المحبّر في الأحشاء الدفينة تحت جلد السطح الأبيض، يتوغل المداد الأسود في مسام الأرضية الخشنة أو الصقيلة متدفقاً من رأس الريشة المعدنية بقوة التداعي، بدفقة «الحلم المتيقظ».
يوشم نذير الفراغ الأبيض بأثر أسود متعدد الأداءات، يعربد الأسود كل مرة في رحم الفراغ الأبيض، مستدعياً المعنى الشمولي لهذه الثنائية الكونية من ترميزات الشموس والدياجير، وتواترات الليل والنهار، متنازلاً عن البرازخ الرمادية المتوسطة بين المنزلتين، مقتصراً على الصراع الأقصى بين الحدين: الأسود والأبيض وإيلاج الواحد في الآخر.
أقام الفنان التشكيلي السوري نذير نبعة (دمشق، 1938) معرضاً تشكيلياً في غاليري أتاسي في دمشق تحت اسم «التجليات»، وفي هذا المعرض يرى نبعة نفسه من جديد كما يقول الفنان أحمد معلا في كلمته التي ضمها كراس المعرض، «في الصيغة الدسمة النافرة يعمر سطحاً تصويرياً مجرداً، غنائياً ومتأنقاً، أنشأه الامتنان للعبه الدور الثانوي مراراً إلى جانب حسناواته ومواضيعه الأخرى من طبيعة صامتة وفوانيس وحلي وأعضاء بشرية. وكأنما هو اعتراف بفضيلة المادة والحادثة الغرافيكية والعناصر التي آن أن تنتقل من الخلفية إلى المقدمة، من الغياب إلى الحضور ومن اللاوعي إلى الوعي. كأنه امتنان للماء والتراب» (أحمد معلا).
على كثرة ما كتب وقيل عن معرض الفنان الكبير نذير نبعة الذي استضافته غاليري أتاسي في دمشق، أريد أن أشير إلى مسألة جوهرية، وهي أنه لم يكن في أية مرحلة من مراحله الفنية ملتزماً ينمط أسلوبي محدد. فهو حين أنهى دراسته الأكاديمية في القاهرة، وعاد إلى دمشق، أقام معرضاً لأعماله خلال العام 1965، تضمن مجموعة لوحات بأساليب مختلفة، حتى أنه في اللوحة الواحدة كان يجري تحريفات شديدة في رسم الأجساد والوجوه في قسم من اللوحة تصل حدود التسطيح. ويعمل على إظهار نمنمة تفصيلية في القسم الآخر. وهذا يعني أنه كان ومنذ البداية يميل إلى الدقة ويميل إلى العفوية بآن واحد.
مما لاشك فيه، بأن الفنان التشكيلي السوري نذير نبعة هو علم من أعلام الفن التشكيلي السوري، وواحد ممن أسسوا وأرسوا جذوراً عميقة لولادة فن تشكيلي سوري معاصر عبر طلابه ومريدي فنه من مختلف الأجيال، تلك التي وجدت في كلية الفنون الجميلة ومرسمه بدمشق مجالاً حيوياً لمثاقفة معرفية وبصرية وأكاديمية وإنسانية بكل حنوها وشفافيتها، لاسيما في ميدان عمله كمدرس للفنون في إطار وزارة التربية أو الجامعة على مدار عدة عقود. وأمسى مرجعية معرفية وبصرية للعديد من التجارب الفنية التشكيلية السورية منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اللحظة الآنية المعايشة، لتفرده وخصوصيته التعبيرية والتقنية والفكرية المنحازة بطبيعة الحال لذاكرة المكان العربي بكل ما فيه من شمولية وتكامل حضاري وإنساني، وما تحمله تقاسيمه البصرية من تفاصيل الحكاية السورية منذ العصور المغرقة بالقدم وحتى وقتنا الراهن.
ثمة قلق لزم نذير نبعة وهو يعيد قراءة مجموعة لوحاته التي أنجزها حتى عام 1995. في هذا التاريخ وبقوة الزلزال، تمثل نذير أسباب هذا القلق، فثار على الأدب المداهم لنص الفن، وقرر اللجوء إلى أقصى ضفاف الطبيعة المتحجرة على سطوح اللاذقية. هناك تسلق سطوح فن مجرد عن اللغة المحكية وعن الحروف، بأهداب تجاعيد هذه السطوح، باحثاً بين تلافيفها وأعصابها وشرايينها.
لقد انفجرت ضبابات القلق ومضى إلى الكهف لتولد فيه لوحة جديدة، خارجة عن عصر المشاهد الساحرة التي أخذت بلب القابعين وراء كوات صندوق العجائب المدهش، الذي حمل اسم فنان الصعب والمعجز (نذير نبعة).
من متع الخيال... السفر إلى الذاكرة، يشدنا إليها حنين دائم التجدد، لا يتأثر بالزمن، ولا يخبو مع مرور الأيام.
نلتقي في حناياها بالذكريات نهدهدها، ونغرق في حنان العودة إلى المكان الأجمل في مسار العمر، إلى الخيال الحر والبراءة الصادقة، إلى الجذور والبدايات، ولدت سنة 1938 لعائلة متواضعة الحال، في بستان من بساتين المزة التي اختفت الآن وأصبحت أحد الأحياء الإسمنتية الجديدة لمدينة دمشق، كانت بعض الجبال الصغيرة تحيط بتلك القرية، تعلوها قلاع فرنسية قصفت منها مدينة دمشق عدة مرات خلال الثورة السورية عقب كل عملية ناضجة لثوار الغوطة، كما كانت تربض على سفوح تلك الجبال معسكرات الفرقة المختلطة للجيش الفرنسي.
أتذكر ذلك كخيالات غامضة تملأ بعض الذكريات البعيدة، فقد عاصرت خروج الفرنسيين من قريتي كطفل في بداية الوعي.
لقد أثبت نذير نبعة في تجربته الجديدة قدرته على الوصول إلى الصيغة المبسطة والمعقدة في آن واحد، والتي تتلاءم مع رغباته في ربط الفن بالناس، وتقديم أفكاره عبر شكل من التعبير يتوافق مع قطاع كبير قادر على التفاهم مع اللوحة وتذوقها ببساطة لكنها ليست البساطة السهلة كما يبدو لأول وهلة بل هي البساطة المعجزة.
إذ أن الحوار الآن يجري مع الأشياء التي تحيط به، يستخلص منها أكثر الأفكار، ويعمق بحثه فيها حتى تنطق بكل ما يريد قوله وما يريد أن يعبر عنه.
مثل شمس تسطع بعد شتاء طويل أطلت لوحات الفنان التشكيلي السوري نذير نبعة، حاملة معها الحب والاختلاف في معرضه الجديد الذي تقيمه حالياً صالة الأتاسي بدمشق تحت عنوان «التجليات»، وحين سألت الفنان الكبير عن سر صمته وغيابه لأكثر من عشرين عاماً عن صالات العرض في سورية، قال: «حين أقيم معرضاً جديداً يجب أن أكون متأكداً من أنني لا أكرر نفسي بل أقدم تجربة جديدة». هكذا هو، وهكذا مارس الفن، ولهذا ارتبط اسمه بأولئك المجددين والمؤصلين للوحة في تاريخ التشكيل السوري المعاصر منذ أن أطلت تجربته في أوائل خمسينيات القرن العشرين.
في المزة، القرية الصغيرة التي ترتاح على التلال الغربية لمدينة دمشق، ولد نذير نبعة، في فترة من أدق الفترات، وربما أصعبها، خلال هذا القرن، حيث ولد قبل الحرب العالمية الثانية بسنة واحدة، ليشهد في أول طفولته كيف تقصف مدينة دمشق من قبل الفرنسيين، لإخماد الثورة، وكيف تتحول الثكنة الواقعة على الرابية العالية في قريته الصغيرة إلى رمز للقهر والعدوان، ثم لتصبح سجناً.
في هذه القرية التي تغرق بالخضرة، وتتصل، عبر الوادي، بربوة دمشق، وتحيط بها المياه من أكثر الجوانب، كانت ألوان الطبيعة المتعددة تمتزج بألوان الأشياء والبشر، وكانت أول ما يتفتح عليه النظر، وأول ما يكتشفه الطفل. وتظل هذه الألوان تتزايد وتتكاثف ما امتدت مساحات الرؤية، خاصة حين تبلغ قمة جبل الشيخ البيضاء، التي تُرى من البعيد. فإذا أضيف إليها الدوي الآتي من وراء الجبل، باعتبار أن الطريق إلى الأرض المقدسة، فلسطين، لابد أن يمر في المزة، حيث كان المسافرون يستريحون في هذه القرية الصغيرة في طريقي الذهاب والعودة، عندئذ لابد أن تحتشد في ذاكرة الأطفال الألوان والحكايات والأحلام، ويصبحوا أطفالاً من طبيعة خاصة.
باقتدار فنان مخضرم تمكن التشكيلي المعروف نذير نبعة من إحداث صدمة لدى كل من شاهد معرضه الأحدث المقام حالياً في غاليري أتاسي بدمشق حيث خيب آمال المشاهدين الذين تربطهم علاقة قربى بلوحاته السابقة، فأخلفت عشتار موعدها كجسد أسطوري تقمص لوحات نبعة لعقود خلت، ولم تحضر عشتارياته بتنوعها إلا بفعل الغياب الذي تساءل المتلقي عنهن. فإذ بالمقارنة تسحب لوحاته من أحلامها وتزج بها في معرض غير قوانين اللعبة بطريقة مدهشة إلى درجة الصعق، الأمر الذي يتطلب أدوات جديدة في التلقي يقودها نبعة بخبرة حاوي أخرج من أنامله معزوفة من مقام مختلف. هكذا تقود لوحات المعرض الاثنتا عشرة المتلقي إلى أجواء التجريد طالبة منه إحداث قطيعة في علاقته مع المرحلة السابقة في تجربة نبعة، ولعل الشيء الوحيد الذي تعلنه اللوحات مواربة هو طرد كل من يعجز عن إنجاز هذه القطيعة من عالمها، هكذا وبفعل القطيعة والتصادم، يؤسس نبعة لآلية جديدة في تلقي لوحاته، هذه القطيعة التي طال انتظارها بعد أن كادت تكون غير موجودة، حيث بدا نذير وقد «استقر» منذ سنوات كما ظن البعض محاطاً بأعمال تستلهم الأسطورة متكئاً على تاريخ من الأمجاد صنعته له لوحاته في ذاكرة المشاهد. ولأنه الفنان المسكون بالقلق غادر لوحته السابقة ـ ولا ندري إن كانت هذه المغادرة مؤقتة ـ ليصوغ رؤاه بأسلوب جديد بكل معنى الكلمة. لكن ما الجديد الذي يحمله هذا المعرض؟
لقد أصابني الانبهار، وأنا أشاهد أبهة الطبيعة البدائية في تجليات الفنان نذير نبعة، ضمن معرضه الأحدث، والذي افتتح قبل أيام في صالة أتاسي بدمشق، ربما الانبهار كلمة رثائية للشعور، فاللوحة بتأثيراتها العاطفية التي يكونها التوزيع اللوني والتداخل الكائن بين الشكل والفراغ المحيط به، يؤدي إلى ما يسمى بحالة «الاندماج العاطفي» التي تجرد المتلقي من ملكته النقدية والتحليلية. لذلك سأتناول تجربة «تجليات» للفنان الكبير نذير نبعة بدراسة نقدية فنية تمكننا من تقريب العلاقة أو الفهم لهذه المواضيع المشرعة على احتمالاتها اللانهائية، وليست الغائبة.