فضاء نذير نبعة

عندما تفجر العالم بالألوان

فضاء نذير نبعة

من متع الخيال... السفر إلى الذاكرة، يشدنا إليها حنين دائم التجدد، لا يتأثر بالزمن، ولا يخبو مع مرور الأيام.


من أعمال نذير نبعة

نلتقي في حناياها بالذكريات نهدهدها، ونغرق في حنان العودة إلى المكان الأجمل في مسار العمر، إلى الخيال الحر والبراءة الصادقة، إلى الجذور والبدايات، ولدت سنة 1938 لعائلة متواضعة الحال، في بستان من بساتين المزة التي اختفت الآن وأصبحت أحد الأحياء الإسمنتية الجديدة لمدينة دمشق، كانت بعض الجبال الصغيرة تحيط بتلك القرية، تعلوها قلاع فرنسية قصفت منها مدينة دمشق عدة مرات خلال الثورة السورية عقب كل عملية ناضجة لثوار الغوطة، كما كانت تربض على سفوح تلك الجبال معسكرات الفرقة المختلطة للجيش الفرنسي.

أتذكر ذلك كخيالات غامضة تملأ بعض الذكريات البعيدة، فقد عاصرت خروج الفرنسيين من قريتي كطفل في بداية الوعي.

هذه الصورة القاسية لم تشوه جمال تلك الفترة من العمر، فقد كان بستان جدتي (أم محمود) هو جنتي الجميلة التي تعلمت فيها عشق الطبيعة، ومن هذا العشق الحميم كانت الدروس الأولى في تربية البصر والبصيرة، كما كان بيتها الغارق بين أشجار التين والجوز والتوت، وحكايا «الزير أبو ليلى المهلهل» و«أبو الفوارس عنترة بن شداد» و«الغولة» و«العصفور الأخضر» أول مرسم لي، بعد أن تركتنا تلك المخلوقة التي تحمل في قلبها حنان العالم، وذهبت إلى رحمة الله تعالى.

كنت أعيش تلك الدروس، أتلقاها، في تتالي الفصول وتتابع الليل والنهار، وفي حرارة النور ورطوبة الظلال، في رحلة الضوء الخالدة مع شروق الشمس عندما تنبثق الألوان والأشكال والأصوات والمخلوقات، من العتمة كما تنبثق الحياة من العدم.

هناك في البساتين الحياة نفسها متعة بصرية دائمة فسيحة الأرجاء تغمر العين بفيض دائم من المشهد الطبيعي المتنوع الجمال، الدائم التغير مع رحلة الشمس في السماء، بتبدل الظل والنور، وتتالي تدرجات اللون اللانهائية، وتتوالد الأشكال والصور خلال انعطاف الجذوع وتشابك الأغصان، مع الحوار الدائم بين الضوء والعتمة، بين البقع والخطوط، بين الوضوح والالتباس، بين الواقع والخيال، أتسلق شجرة الجوز بجزعها الأبيض الخشن، فتعلق الخشونة بكف يدي، ثم تنزلق على نعومة بدن شجرة الميس، فتمحى تلك الخشونة، بهذه البساطة أتعلم «ملمس السطح»، في تلك الجنة، أتعرف على التفاحة كشجرة، كزهرة، كرة خضراء، صفراء، حمراء، أتذوق طعمها في كل مراحل النضج، خلال تلك التحولات في اختلافها وتآلفها أتعلم حقيقة الأشياء الباطنة خلف صورتها الظاهرة، أتجول فتتنوع الورود والأزهار، وعندما تجذبني غريزة الحشرات وأكتشف سكر الرحيق في زهرة ما، تغمرني تلك الفرحة البكر وكأني أكتشف طعم اللون.

علاقة مع الخط
أظن أن أول علاقة عملية لي مع الخط كانت مبكرة جداً، لقد كانت رسوماً من الورود والعصافير، على صدور ثياب الفلاحات، كانت كل فتاة تطرز ثيابها بنفسها، وكنت أجد سعادة بالغة عندما أرى رسومي على صدر فتاة، ملونة بخيوط من الحرير.

هذه بدايات اكتشافي لموهبتي التي تأكدت منذ السنة الثانية في المرحلة الابتدائية على يد أستاذ الرسم ثابت القباني، كان شخصاً متقدماً في السن، أنيقاً طيباً، يحمل روح الجد أكثر من كونه أستاذاَ، كان فرحاً بي وبموهبتي خلال دفاتر الرسم.

في بيته، رأيت أول صورة ملونة ومؤطرة، معلقة على الجدار، كانت صورة للوحة من لوحات الانطباعيين، وفي بيته، تعرفت على بعض المعلمين الأوائل، منهم صلاح الناشف الذي أصبح أستاذاً لي في المرحلة الإعدادية، ثم تعرفت إلى جاره الفنان الكبير محمود جلال من خلال صداقتي بابنه خالد جلال، وفي بيته، شاهدت لأول مرة لوحة زيتية، مازلت أذكر الغرفة الواسعة والضوء الخافت الذي يتسلل من ستائر النوافذ السميكة، كانت هناك عدة لوحات موزعة على جدران الغرفة، ولكن لوحة «الراعي» سحرتني في مكاني شاخصاً إليها، وفي ذلك البيت، شاهدت أنابيب الألوان الزيتية والفرش والقماش الخاص بالرسم، وعلبة الألوان المائية، كنت كمن اكتشف كنزاً من الكنوز المختبئة في قصص ألف ليلة وليلة.

في المدرسة الابتدائية (مدرسة حافظ إبراهيم)، وكانت المدرسة الوحيدة في المزة في ذلك الوقت، حصلت على الجائزة الثانية في المعرض السنوي للمدرسة، وكانت الجائزة رواية من أدب شكسبير، صاغها مع مجموعة من الأدب الكلاسيكي العالمي بلغة تصلح مفرداتها لقراءة الأطفال، طيب الذكر المصري كامل الكيلاني.

مع بداية الخمسينيات، كانت المديرية العامة للآثار والمتاحف قد ابتدأت تقيم بشكل دوري في المتحف الوطني بدمشق معرضاً للفنون التشكيلية، وفي عام 1952، وافقت لجنة المعرض على عرض لوحتي (السكير)، وهي لوحة صغيرة بالألوان المائية، وقبول هذه اللوحة كان فرحة لا توصف، وربما هو الذي أعطاني القناعة بأنه من الممكن أن أصبح رساماً في هذا الوقت المبكر من العمر.

وبعد حصولي على الشهادة الابتدائية التي كانت بمنزلة بطاقة الخروج من عالم القرية الريفي إلى عالم دمشق، طبعاً كان ذلك لمتابعة الدراسة الإعدادية والثانوية، وفي مدرسة التجهيز الأولى التي تعرفت في قاعات صفوفها وباحتها الواسعة على الصداقات، والأدب، والشعر والأفكار والانتماء والمظاهرات، وهناك في مرسم المدرسة عرفت الفنان ناظم الجعفري، وكان هو المعلم الأول الذي بدأت لديه بالتعرف إلى استعمال الخامات - القلم الرصاص ـ أصابع الفحم ـ الألوان المائية ـ أنواع الورق ـ الألوان الزيتية ـ القماش ـ تحضير القماش، كنت أتعلم الرسم بشكل علمي ومدرسي، وكان أستاذنا يشيع بشخصيته الصارمة جواً من الجدية والاحترام في مراسم المدرسة مما كان يساعدنا على استيعاب ملاحظاته وتعاليمه المكثفة، ويعلمنا درساً ثميناً في تقديس العمل واحترام الفن، ثم بعد فترة، سمح لي بدخول مرسمه الخاص في شارع بغداد، كنت أهبط الدرجات القليلة في مدخل المكان متهيباً كما لو أني أدخل معبداً، وكنت أحمل إليه ما أنجزه من رسوم ليبدي ملاحظاته القليلة والمهمة، وأحياناً يسعفني الحظ، فأرى لوحة جديدة على الحامل أنجزها الأستاذ حديثاً، وعندما يضبطني أنظر إليها خلسة، يدلني على ما حققه فيها من إنجازات فنية في التقنية واللون والتعبير.

من دمشقيات نذير نبعة

حركة تشكيلية غنية
ومن خلال الصديق خالد جلال الذي أصبح فيما بعد من النحاتين الشباب الواعدين، تعرفت على النحات الحلبي الفنان فتحي محمد، بعد عودته من روما، وكان ينجز تمثالاً لأحد الضباط الشباب الذي كان ضحية الصراع السياسي المحتدم في ذلك الوقت بين اليمين واليسار، كان هذا الضابط عدنان المالكي، كان فتحي محمد إنساناُ مليئاً بالطيبة والحيوية، ما إن تقابله حتى تأخذك بساطته وابتسامته الودود إلى صداقته وأجوائه الفنية، وكان رساماً قديراً إلى جانب كونه أحد رواد النحت الأوائل، كان النصف الثاني للخمسينيات زمن الصراع الفكري السياسي، وكان أيضاً زمناً خصباً لازدهار الحركة التشكيلية السورية ووضوح معالمها، تزامن ذلك مع نمو الإحساس الوطني بعد الاستقلال، ومع النهوض القومي بتحرر كثير من الأقطار العربية من الاستعمار، فلم يعد ذلك النشاط الفني يقتصر على معارض بعض الجمعيات الخاصة (الجمعية السورية للفنون)، أو نشاطاً رسمياً دورياً يقام كل عام كالمعرض السنوي، كما أنها لم تعد أسيرة لما تركه الاستعمار الفرنسي من ثقافة (المدرسة الانطباعية)، بل تبلورت وكشفت عن حركة تشكيلية غنية بمدارسها وفنانيها بإبداعاتهم المتميزة والمبتكرة.

بدأت أرى أعمال محمود حماد المستوحاة من الحرف العربي، ولوحات أدهم إسماعيل تعتمد في بنائها على الخط اللانهائي للرقش الإسلامي، ولوحات أخيه الأصغر نعيم إسماعيل الذي استلهم المواضيع والزخارف الفولكلورية السورية في تكويناته.

في لوحات هؤلاء، ابتدأ أفق الفن يبدو لي أوسع وأرحب، ثم ابتدأت الحداثة تأخذ مكانها وترسخ بأسماء مهمة مثل فاتح المدرس، ومروان قصاب باشي، وبرهان كركوتلي، بل بدأت أعمالهم تستحوذ على إعجاب النقاد ولجان التحكيم وتنال الجوائز والتقدير.

كانت هذه الفترة بالنسبة لي هي مرحلة التأسيس، فيها تعلقت بالفن، وفيها تكونت لدي القناعة بدراسة الفن واختياره كطريق في الحياة.

كانت كل منح الفنون قبل الوحدة بين مصر وسورية تتجه نحو روما وباريس، وبعد حصولي على الثانوية العامة أواخر الخمسينيات، أتيح لي الحصول على منحة لدراسة الفن في القاهرة.

مازلت أذكر ذلك الإحساس الذي غمرني بعد هبوطي من الطائرة في أرض مطار القاهرة، كان إحساساً غامراً بالنشوة والفرحة، مسحت كل المراحل الروتينية للخروج من المطار، فقط أذكر باب الخروج وذلك الفضاء الفسيح والأفق الواسع وشمساً مشرقة تغمر كل شيء في ذلك السهل المنبسط اللانهائي الامتداد، وكانت أشجار النخيل في الأفق تصل الأرض بالسماء.

من نافذة السيارة التي أقلتنا إلى المدينة تتابع المشهد، هاهو حي مصر الجديدة بعماراته الإسلامية الجميلة، يعلن أننا في ضواحي القاهرة، ثم ندخل القاهرة بعمارتها العريقة ومآذنها الشاهقة ونيلها العظيم، كل ما كان يذكرني بما سبق حقيبة متواضعة أحملها بيدي وأنا أتجه إلى إحدى شقق حي الدقي، لأقيم عند بعض الأصدقاء السوريين ممن كانوا يدرسون الموسيقى، كان ذلك بالنسبة لي ولادة ثانية.

بعدها، بدأت بالتعرف على القاهرة والدخول إليها من بوابة كلية الفنون الجميلة بالزمالك، ذلك الحي الجميل القابع في أحضان خمائل النيل العظيم بأشجارها الباسقة وحدائقها التي كانت في ذلك الوقت جنة رومانسية تجسد أشعار علي محمود طه، وأحمد رامي، قابلت على باب الكلية «عم حسن» ذلك النوبي النبيل بعمته البيضاء وشاربه الأشيب جالساً على كرسيه بجلال تمثال فرعوني، ثم عم حسنين يعتمر البيريه الأزرق، ويوزع الرسائل كما يوزع شتائمه المحبة على الطلبة.

الجديد في الفن والثقافة
لم تكن الدراسة في كلية الفنون دراسة أكاديمية صارمة، بل كان أساتذتنا إلى جانب التعليم الأكاديمي هم الذين يأخذون بيدنا نحو الجديد في الفن والثقافة، وكان لي الشرف بأن أتتلمذ على يد فنانين كبار مثل حسين بيكار، وعبد العزيز درويش وعبد الهادي الجزار، وحامد ندا، كانت آفاق الفن ودنياه تتسع أمامي، فمن انطباعية حسني البناني الغارقة في عرس من الألوان والضوء ورشاقة اللمسة، إلى بنائية التكعيبيين في تعاليم عبد العزيز درويش العاشق للعم سيزان أبي التكعيبية كما كان يدعوه، ولم أشعر بالغربة أمام الأجواء السوريالية التي كان يبدعها أساتذة مثل عبد الهادي الجزار، وحامد ندا، وعندما رأيت أعمال الفنان السكندري محمود سعيد في مبنى البلدية في الإسكندرية، وفي مرسمه، أحسست بالهوية المصرية أكثر من كل ما رأيته من قبل من الأعمال، إن أشكاله تتنفس مصريتها من الروح البسيطة والصادقة التي تبدعها بعيداً عن النظريات والشعارات.

كانت فترة الستينيات في القاهرة تحفل بتلك الروح التجريبية الخصبة التي كانت تربة صالحة للإبداع، وكان من حسن حظي أني عشت ذلك الثراء الثقافي الذي عم كل الفنون والآداب.

كان برامج دار الأوبرا تحفل بإبداعات عالمية (مسرح البولشوي، أعمال خشادوريان)، وأعمال كلاسيكية مصرية (أبو بكر خيرت، عبد العزيز الشوان)، ولادة المسرح القومي، ولادة المسرح الغنائي، مسرح البالون، مسرح العرائس، بينالي الإسكندرية الذي كان احتفالية للفنون التشكيلية حول البحر الأبيض المتوسط، صالون القاهرة، معارض تشكيلية عربية وأجنبية، ازدهار الرواية والقصة القصيرة، ظهور مجلات خاصة بالآداب والفنون، انعطاف فكري مهم في الإنتاج السينمائي، وظهور مجلة خاصة (السينما والمسرح)، نهوض شامل في حركة النشر، وفي هذه الأجواء قابلت فنانين كباراً تعلمت منهم البساطة والتواضع قبل أن أتعلم منهم الفن، قابلت كتاباً كباراً كانوا يجلسون في مقاه شعبية ويقيمون حواراً مع الأجيال الجديدة بمحبة وسماحة نادرة.

كانت القاهرة هي الأم التي علمتني أن مسألة الفن والثقافة هي موقف وطريق قبل أن تكون مهنة، وأعترف بأن أعمق صداقاتي على مدى العمر ولدت في أحضان القاهرة الحميمة، وهذا ما يشدني للعودة إلى هذه المدينة باستمرار.

في بداية العقد الثاني من الستينيات، عدت من القاهرة بعد التخرج عام 1964 وكانت العادة في وزارة التربية التي كنت موفداً لصالحها أن تبدأ الخدمة الوظيفية في المحافظات البعيدة عن العاصمة، وكان أن عينت في محافظة دير الزور.

والدير مدينة غارقة في خصوبة الفرات ببساتينها وخمائلها ذات الأشجار المثمرة، وأشجار الغرب تكسو ضفتيه بجو احتفالي غامض مليء الأسرار وبإحساس أسطوري يزيد رهبة النهر الكبير الذي يسير بصمته وأسراره يقطع سهول الشمال نحو الشرق.

والناس هناك أقرب إلى طبع البداوة، حب مطلق أو كره مطلق، وقد تمكنت من أن أقيم معهم علاقة محبة واحترام، فكانت حقبة من الزمن غنية بالأصدقاء ومليئة بالعمل، ذلك أني أحببت المكان وأخذتني إيحاءاته الجديدة بالنسبة لي، فبساطة مدينة الدير المختلفة عن تركيب مدينة دمشق تجعلها أقرب إلى المدن الصحراوية في ذلك الوقت، وبعد مدة وجيزة ، وجدت نفسي غارقاً في الأجواء التراثية القديمة في مدن ماري وتدمر والرصافة، كانت المنطقة تحتوي في جنباتها على عبق الماضي العريق وجلال الطبيعة المليء بالأسرار والخيال، وهناك في فضاءات السهول الشاسعة لبادية الحزيرة وبادية الشام، كنت أجد نفسي وحيداً بين السماء والأرض، عرفت التوحد مع الكون، وبدأت علاقتي بالأسطورة، ذلك أن وادي الفرات غني بأساطيره الآتية من الميثولوجيا القديمة، كما هو غني بالملاحم والحكايات القادمة من أعماق الصحراء، مناخ غني وخصب دفعني للخوض في تجربة استلهام الأساطير والملاحم الفراتية، أبحث فيها وفي أجوائها عن طريقة التصور والتصوير، كيف ترسم صورة الشخصية ومعانيها بالكلمات والجمل، كيف تعبق المشاهد والأجواء بمضمونها الفكري والجمالي.

عشتار تزور سد الفرات
لنذير نبعة

مشاهد أسطورية
رسمت «ننليل» و«عشتار» و«كاهنة مردوخ» ورسمت «خسوف القمر»، إن هذه الشخصيات والمشاهد الأسطورية لم يكن يعنيني من رسمها صنع صورة الحكاية أو صورة توضيحية للنص الأسطوري أو الملحمي، بقدر ما كانت غايتي ابتداع شكل بصري لرموزها ومعانيها، وعلاقة ذلك بالحاضر المعيش، هذه الأعمال عرضت في المعرض الأول عام 1965 في صالة الفن الحديث بدمشق، كان يشغلني في ذلك الوقت البحث في توافق التقنية والمضمون والتآلف بين الأداء والمعنى، ثم اتجهت نحو جماليات النحت السومري، والتدمري، وجداريات ما بين النهرين، ورسوم الفخار والخزف، في هذه الفنون، كنت أستلهم الينابيع الأولى للجماليات الخاصة بالأمة التي أنتمي إليها، وكان هذا الهاجس (خلق فن محلي أو فن عربي)، قد امتد ليشمل كل الحركة التشكيلية على مساحة الوطن العربي، فكانت إبداعات الفنانين المصريين أمثال محمود سعيد وعبد الهادي الجزار وسيد عبد الرسول، والعراقيين جواد سليم، وفائق حسن، والسوريين محمود حماد، وأدهم إسماعيل، ونعيم إسماعيل وغيرهم من الفنانين العرب، كانت إبداعاتهم تصب في ملتقى واحد هو خلق هوية عربية للثقافة والفن.

في وسط هذا الحلم الجميل المتفائل، هبطت النكسة بعد حرب 1967 مثل صاعقة هائلة لتهز كل القناعات، وخيبة مؤلمة لتغلف النفس بالإحباط والحزن العميق.

لم يكن قراراً أني انتقلت إلى الموضوع السياسي في تلك الفترة، ولكني وجدت نفسي مشدوداً لشخصية الفدائي الفلسطيني التي ظهرت بعد الحرب (كمنقذ من الخيبة والإحباط)، مما جعل كل إنتاجي في تلك الفترة يدور حول هذه الشخصية، فكانت مجموعة الملصقات عن القضية الفلسطينية، كما قمت بإنجاز مجموعة من الرسوم عن شعر الأرض المحتلة، كانت مستوحاة من قصائد لسميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زياد، وسالم جبران، وراشد حسين، رافقت هذه الرسوم الشعر الفلسطيني الذي انتشر على صفحات الجرائد والمجلات في كل البلاد العربية، وصنعت «الماكيت» الأول والرسوم الأولى لمجلة فلسطين الثورة، وكانت في ذلك الوقت تصدر من دمشق، وعملت في تلك الفترة أيضاً في تصميم أغلفة ورسوم الكتب المدرسية، كما عملت في مجلة الطليعة السورية كرسام صحفي، وكنت أساهم أيضاً في الكتابة عن بعض المعارض التشكيلية، كما كنت أحد الذي أسسوا مجلة «أسامة» للأطفال، والتي أصدرتها وزارة الثقافة، وقد ساهم بها كبار الكتاب والرسامين أمثال زكريا تامر، سعد الله ونوس، نجاة قصاب حسن، ومن الرسامين ممتاز البحرة وطه الخالدي وأسماء فيومي وغيرهم، كما قمت بإنجاز الديكور لبعض مسرحيات المسرح القومي وتصميم ديكورات وعرائس بعض المسرحيات لمسرح العرائس. حتى الآن لا أستطيع الجزم بأن هذه الفترة المليئة بالتنوع كانت سلبية أم إيجابية بالنسبة لتجربتي التشكيلية، ولكنها ساعدتني بأن ألتقط أنفاسي وأستعيد توازني وأعود إلى اللوحة بنفس اختلط فيه الهم الفكري بالهم الجمالي.

ربما كان السفر إلى باريس في بداية السبعينيات فرصة أتت في محلها للخروج من تلك الصورة الكابية لفترة ما بعد النكسة، وقد شغلتني الدراسة الثانية التي كانت بمنزلة مواجهة ضرورية ومهمة مع الثقافة الغربية، فباريس كمدينة قدمت لي بسخاء الفن العالمي مباشرة من خلال المتاحف الفنية المليئة بالتراث الإنساني الكلاسيكي كمتحف اللوفر، أو المتاحف التي تحتوي على الفن المعاصر كمتحف الفن الحديث، أو متحف الانطباعيين،، ثم من خلال المعارض الشاملة لفنانين عالميين أمثال فان جوخ، ماتيس، ماكس أرنست، سلفادور دالي، فرنسيس بيكون وغيرهم، أن أرى هذه الإبداعات الإنسانية نفسها، وليس من خلال الكتاب أو المجلة أو الجريدة.

كان لذلك تأثير بالغ الأهمية، كان ذلك كما لو كان مجالسة لفنانين أنفسهم، فكنت غالباًُ ما أقوم بكتابة مقالة حول أي معرض أزوره، وقد نشرت هذه المجموعة من المقالات في مجلة الطليعة السورية ما بين 1971-1974.

ولعل من حسن حظي أني ذهبت إلى هذه المواجهة الثقافية، بعد أن اشتد عودي على أرضي وتبلورت تجربتي وأفكاري، فلم أكن طرياً فأنبهر وتبتلعني أضواء الغرب، كما لم أكن متعصباً لنفسي، فأفقد تلقي هذا الجو الفني والثقافي الغني والرائع الذي تزخر به أيام باريس.

القرب من التراث العالمي
أما بالنسبة للدراسة الثانية في المدرسة الوطنية العليا (بوزار باريس)، فقد كان مشواراً يومياً جميلاً بين الضاحية الغربية لمدينة باريس، حيث كنت أسكن في مودرن لافوري، وبين باريس نفسها، وهذا ما أعطاني فرصة لأن أقضي نهاري كله في العمل والتنقل بين متاحف وصالات باريس ومعارضها ومكتباتها، مشواراً حاولت أن أكون فيه مجداً في تحصيل ما نقصني في الدراسة الأولى، وكان ذلك نافذة واسعة الأفق للاطلاع والتأمل، كنت أرسم يومياً، وكان عملي يدور حول بحوث وأفكار تتعلق بالدراسة أحياناً، وأحياناً أخرى في تجاوز ما تمكنت أن أحققه سابقاً من إنجازات فنية خلال الفترة السابقة من تجربتي، وقد ساعدني في ذلك البعد عن الوطن وعن كل المكتسبات الإعلامية (الشهرة) التي حققتها تلك التجربة، هذا البعد عن الوطن والقرب من التراث الإنساني العالمي، علمني أن أقيم نفسي تقييماً حقيقياً وعادلاً، جعلني أعرف ما أنجزته وما علي إنجازه، ساعدني في أن أكوّن أرضية ثقافية شاملة بالاطلاع على ما يمكن من الفن القديم والحديث، والاستفادة من ك ما يمكن أن يعمق ويغني تجربتي الفنية.

تبقى حكاية التواصل مع الآخر (المتلقي)، وهي حلم كل من يعمل في مجال الفن، لأن مادة الفن والإبداع كونها حاجة الفنان والمبدع للتواصل مع الآخر، وأنا أعتقد أن أي صورة في مخيلة الفنان تظل أجمل من أي صورة مادية لها على سطح اللوحة، هذا بالنسبة للشخص المبدع.

كنت أحلم بلوحة تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفلة الافتتاح لأي معرض.

وبشكل عام، كان التشخيص هاجسي منذ البداية، ولكن منذ البداية أيضاً لم يستهوني تشخيص الموديل، وأعتقد أن الفنون القديمة (مابين النهرين ـ تدمر ـ الساحل السوري ـ الفن الفرعوني ـ الفن الإسلامي)، لم تحفل بفن الصورة بل بفن التصور، إن أمكن إطلاق هذه التسمية عليها، لذلك فهي فنون تعبر عن الأمة وجمالياتها وشعورها الجمعي، فكأنها بمنزلة إنتاج جماعي خال من التواقيع الفردية التي تنسبها إلى أفراد، كان ذلك حتى الفن الإسلامي وحتى ظهور لوحة الحامل عندنا في القرن التاسع عشر كشكل غريب للعمل الفني قادم من عصر النهضة، هذا الشكل سيطر على جل الأعمال الفنية في حركتنا التشكيلية المعاصرة حتى الآن.

عندما يستهويني وجه ما في الشارع أو في مكان ما ينطبع في ذاكرتي ويتحرك في المخيلة خلال العواطف الغامضة التي جعلته يثير اهتمامي دون غيره من مئات الوجوه التي مررت بها، وهناك في المخيلة ينتقل من حث يومي مباشر إلى فكرة للصورة ثم إلى شكل يعبر عن الصورة، وهنا يصبح أقرب إلى اللوحة، وأنا أعتقد أن أي لوحة أحققها هي حالة من حالات الصورة المتحركة في المخيلة، قد أنجح في إعطائها صورتها المادية على سطح اللوحة بواسطة الخط واللون والمساحة أو أفشل، فتعود اللوحة إلى الأبيض.

أبدأ باللون يملأ سطح اللوحة بنزق العاطفة الغامض، ثم أحاول استنباط التشخيص من تلك الفوضى اللونية المتحركة، بحذف الأشياء الأقل أهمية، وتأكيد الأهم لفكرة اللوحة البصرية، ثم هناك بعض التفاصيل والرموز التي غالباً ما تكون خاصة بي أو بأشياء حميمية في حياتي، أظل أعمل وسط هذا الصراع بين العقل والعاطفة حتى أشعر أن نسيج مكونات اللوحات قد اكتمل واقترب من صورة المخيلة، وصار من الممكن لتلك اللوحة أن تقدم نفسها للناس، عندها تنتهي علاقتي بها وتبدأ علاقتها بالآخر.


نذير نبعة