فضاء نذير نبعة

رحلة مع نذير نبعة

فضاء نذير نبعة

في المزة، القرية الصغيرة التي ترتاح على التلال الغربية لمدينة دمشق، ولد نذير نبعة، في فترة من أدق الفترات، وربما أصعبها، خلال هذا القرن، حيث ولد قبل الحرب العالمية الثانية بسنة واحدة، ليشهد في أول طفولته كيف تقصف مدينة دمشق من قبل الفرنسيين، لإخماد الثورة، وكيف تتحول الثكنة الواقعة على الرابية العالية في قريته الصغيرة إلى رمز للقهر والعدوان، ثم لتصبح سجناً.

في هذه القرية التي تغرق بالخضرة، وتتصل، عبر الوادي، بربوة دمشق، وتحيط بها المياه من أكثر الجوانب، كانت ألوان الطبيعة المتعددة تمتزج بألوان الأشياء والبشر، وكانت أول ما يتفتح عليه النظر، وأول ما يكتشفه الطفل. وتظل هذه الألوان تتزايد وتتكاثف ما امتدت مساحات الرؤية، خاصة حين تبلغ قمة جبل الشيخ البيضاء، التي تُرى من البعيد. فإذا أضيف إليها الدوي الآتي من وراء الجبل، باعتبار أن الطريق إلى الأرض المقدسة، فلسطين، لابد أن يمر في المزة، حيث كان المسافرون يستريحون في هذه القرية الصغيرة في طريقي الذهاب والعودة، عندئذ لابد أن تحتشد في ذاكرة الأطفال الألوان والحكايات والأحلام، ويصبحوا أطفالاً من طبيعة خاصة.

أن يولد الإنسان في هذا المكان إذن، وفي ذلك الوقت بالذات، وأن يكون على استعداد للتعامل مع اللون والفرشاة، فلا بد أن يكون إنساناً محظوظاً وشقياً في نفس الوقت. لأن المكان بمقدار ما يفتح الذاكرة البصرية، فإن الزمان، خاصة إذا كان استثنائياً، يلونها بألوانه المميزة، ويجعلها تكتسب سمات غير عادية. فإذا تداخل العنصران وتفاعلاً فعندئذٍ لابد أن ينعكس هذا في حالة مركبة ليس من السهل إعادتها إلى عناصرها الأولية.

فنذير الذي ولد في المزة تلك، وفي فترة ثلاثينيات هذا القرن، والمختلفة كلياً عما هي الآن؛ وفي وقت الاحترام ثم الانتقال، ويكون مع ذلك قادراً على أن يعبر الوادي إلى الربوة، لابد أن «يصطدم» في رحلة البحث والاكتشاف بواحد أو أكثر من أولئك الذين اختاروا المهنة الجميلة والصعبة في آن واحد: التصوير، خاصة في تلك المرحلة التي سيطرت خلالها الانطباعية، حيث كان الرسامون، في ذلك الوقت، أكثر شجاعة وأكثر حرية وهم يحملون ألوانهم وأدواتهم، ويحاولون تصوير الطبيعة في لحظاتها المتعددة، وكانت الربوة إحدى البقاع الموحية، والتي أغرت عدداً من الرسامين على تصويرها، وكان أحد هؤلاء مروان قصاب باشي.

يذكر نذير نبعة، في حديث خاص، أنه حمل الماء البارد من بيته والتين لهذا الشاب الذي أخذ يتردد على الربوة، ومعه أدواته، لكي يرسم. ويكون رد فعل مروان، والذي يكبر نذير ببضع سنوات، الارتباك، فيحمر وجهه، لأن فتى صغيراً يحمل إليه هذه الهدايا، والمقابل الوحيد الذي يريده، ولا يطلبه، أن يتابعه وهو يرسم!

هذه القصة البسيطة تدل إلى أي مدى تغلغل الفن في قلب وعيني هذا الفتى الذي يحاول اكتشاف العالم والتعرف على الحياة، وتكون وسيلته الوحيدة، أو إحدى وسائله، أن يرى الآخرين كيف يعملون، كيف يصنعون الجمال من المادة الصماء. ويقوى هذا التوجه ويترسخ حين يتردد على مراسم بعض الفنانين الكبار، مثل جلال والجعفري وشورى، وأيضاً فتحي محمد النحات، وكيف ستتبدى تأثيرات هؤلاء الفنانين، ونوعية الأدوات التي يتعاملون معها، وكيف ستكون الكتلة إحدى الملامح التي ستميز بعض أعمال نذير نبعة الفنان في وقت لاحق.

إن معرفة المكان الذي ولد فيه الإنسان، والذي احتضن طفولته، ومعرفة طبيعة الزمن الذي عاشه، تتجاوزان، في بعض الأحيان، الحيز المكاني أو الزماني، من حيث هما وعاءان أو حدان، لأن طبيعة التلقي تختلف من واحد لآخر، خاصة إذا كان المتلقي فناناً، وبالتالي فإن ما ينعكس في الذاكرة، وما تفرزه هذه الذاكرة لاحقاً، لابد أن يأخذ أشكالاً متعددة لمن يمتلك وسيلة تعبير، وسيلة «قول» تختلف عن ذاك الذي لا يملك مثل تلك الوسيلة. ومن هنا نجد أن طفولة الفنان أحد «أقواله» الرئيسية في معظم ما ينتجه.

كان لابد من تأكيد هذه النقطة لكي نرى «آثارها» في الكثير مما أنتجه نذير نبعة، من حيث الألوان والأشكال والموضوعات، وربما حتى الأساليب، وكيف أن البعدين، المكاني والزماني، شديدا الحضور في معظم ما «قاله».

ليس ذلك فقط، أي أن البعدين الزماني والمكاني لا يتحدد تأثيرهما بالمكان الأول الذي ولد فيه الفنان، أو بالزمان الذي عاشه فقط، وإنما يمتدان ويؤثران في الرؤية والفهم والتعامل مع هذين البعدين. فالمكان الأول، ومع الإقرار بدوره وأهميته، إلا أنه يكون رؤية شاملة للمكان بمعناه العام، أياً كان هذا المكان. كما أن الزمان لا يتحدد بكونه تقويماً، وإنما وبالدرجة الأولى والأساسية، بكونه مفهوماً من ناحية، وحساسية من ناحية ثانية. فالزمن العاصف، الصعب، لا ينظر إليه هكذا في حينه فقط، وإنما بمدى تأثيره على الفنان، وأيضاً بما يتوصل إليه من مفهوم للزمن، وموقف منه، وبالتالي رد فعله تجاه كل ما يحدث حوله أو في الأماكن الأخرى.

ولذلك، فالمكان (المزة) الذي عاش فيه نذير نبعة أول ما اكتشف الحياة، رافقه، من حيث المطابقة أو المخالفة، ثم المقارنة، وهو يتنقل في الأماكن الأخرى. واستطراداً، لابد أن نشير، بشكل مبكر، إلى تأثير - ومن ثم انعكاسات - فترة إقامته في مصر، ثم في دير الزور، إذ حمل من هناك ألواناً جديدة، ونظرة جديدة إلى المحيط الجغرافي، ليس فقط بمعناه المادي وإنما بمعناه النفسي والفلسفي أيضاً.

كما أن الأزمنة الرجراجة، الانتقالية، العاصفة، التي تلازم طفولة الفنان، بالإضافة إلى ما تحمله من تأثيرات، تُكوّن رؤية وموقفاً، وهذه الرؤية أو هذا الموقف، لا يقاس من خلال الوعي نتيجة المقارنة، وإنما من خلال البعد النفسي بالدرجة الأولى، وبالتالي فإن رد فعله يختلف، وربما نوعياً، عن ذاك الذي ينظر ويحكم من خلال المقايسة والمقارنة وحدهما.

قد تبدو الأزمنة والأمكنة محايدة من خلال النظرة البسيطة، وذلك من خلال نظرة أعمق نجد أن الإنسان، خاصة إذا كان فناناً، منحاز بالضرورة، وبكل ما تعنيه هذه الكلمة. وبالتالي فإن ما يترسب في الذاكرة والعقل والقلب يشكل مقياساً، ثم تأتي الدراسة والثقافة وعمليات التدريب، وأيضاً التجارب والأيام، لكي تصقل وتصطفي، ولكي تضع ترتيباً تعتبره أكثر ضرورة أو أهمية، أو تجده أكثر إقناعاً، وربما أكثر خفاء نتيجة الخوف أو أسباب أخرى، في التعبير عما ترسب في الذاكرة، ولكي يأخذ هذ ه الصيغة من التبعية والشكل لا تلك.

هذه المقدمة ضرورية للتعامل مع نذير نبعة الفنان، من أجل فهم أفضل لما أبدعه، وأيضاً لما يتوقع وينتظر أن يبدعه في مستقبل الأيام.

إن هذا الفنان الهام، الفني والمتنوع، لم يحظ بعد، بالدراسة التي تتناول مسيرته الفنية، بمجملها أو بأجزائها وتطوراتها، علماً بأن كل مرحلة في هذه المسيرة جديرة بوقفة متأنية، والتعامل معها ليس باعتبارها محطة رئيسية في تطوره فقط، بل ولأن هذه المحطات تحمل غنى مميزاً يمكن أن يؤثر ـ وقد أثر بالفعل ـ على المسيرة الفنية السورية بشكل عام. وأيضاً تدفع للتساؤل عن الأسباب التي دعت الفنان لأن يطوي صفحة فنية ويبدأ غيرها، في الوقت الذي يبدو واضحاً أن هذه المراحل والأساليب لم تستنفد، ولم تصل إلى السقوف التي تجعل الفنان يغادرها إلى مراحل وأساليب جديدة، وبعض الأحيان مختلفة تماماً.

بدأت علاقة نذير نبعة بالفن قبل أن يلتحق بكلية الفنون الجميلة في القاهرة أواخر الخمسينات، إذ اشترك ببعض المعارض التي أقيمت في دمشق، وكانت له علاقة ببعض الفنانين، كما كان يتردد على عدد من المراسم.

وأن يذهب إلى القاهرة في تلك الفترة بالذات، فترة النهوض والإقبال، وأن يحتك بأوساط الثقافة والفن هناك، على تنوعها وغناها، وأن «يصطدم» بالفن الفرعوني، بما يعنيه من كتلة وضخامة، خاصة وأن له علاقة سابقة بالنحت، وتحديداً من خلال معرفته بفتحي محمد، فلابد أن ينعكس ذلك على تكوينه وتطوره وخبراته، فإذا أضيف عنصر التفاعل مع المناخ الفكري الذي سيطر خلال تلك المرحلة، وهو مناخ ماركسي ـ قومي ـ وجودي في آن واحد، ثم إعجابه ومتابعته لجهود مجموعة من الفنانين المصريين في مجال الغناء، وهم يبحثون عن جذور أعمق لفنهم، والوصول إلى لغة أكثر صدقاً وصفاء، حين يذهبون إلى الأماكن القصية في ريف مصر، بحثاً عن لغة جديدة ومختلفة، فلابد أن ينعكس كل ذلك ويبدو تأثيره أوضح ما يكون في مشروع تخرج نذير من أكاديمية الفنون في القاهرة، حيث سيكون هذا المشروع «عمال المقالع».

إن هذا المشروع، وأعمالاً أخرى زامنته، تعبر عن توجه فكري، كما تبرز رؤية للإنسان والآلة، وموقفاً تجاه العلاقات السائدة، كل ذلك بأسلوب يحدد المساحات والألوان في نسيج متماسك، ليصدر من خلاله موقفاً وطريقة في التعامل مع الموضوع، وأخيراً شكلاً في التناول.

أما بعد أن تخرج نذير من القاهرة وعاد، ورغم أن دير الزور تعتبر من المناطق الصعبة لمن لم يألف العيش فيها، فقد اعتبرها فرصة هامة حين عين مدرساً لمادة الرسم في تلك المدينة، فقد اكتشف ألواناً جديدة لم تكن من مفرداته حين كان في البقعة الخضراء، في المزة وغوطة دمشق أولاً، ثم في مصر والدلتا التي فيها بعد ذلك. لقد اكتشف في رحلته الجديدة ألوان الصحراء، وهي بقدر ما تبدو بسيطة متشابهة، إلا أنها شديدة التغير، قوية التأثير حين تسبح تحت ضوء شمس من نوع جديد وغير مألوف للفنان من قبل، وهذا ما يبدو في أعماله اللاحقة، بما فيها معرضه الأول.

واكتشف في دير الزور أيضاً البعد التاريخي لإنسان هذه المنطقة، والمتمثل بهذا الفيض الهائل من الوقائع والأساطير والحكايات، وسوف يتناول جزءاً من ذلك في لوحاته التالية، وستبرز المعالجة الوجودية في التناول، وهي إحدى سمات الجيل في فترة الستينات.

إن مرحلة دير الزور هامة جداً في تطور نذير نبعة، ليس فقط لأنها كانت الفترة التي حضر خلالها معرضه الأول، والذي أقيم عام 1965، وإنما لأنه عبر عن نفسه بمفردات أساسية: لقد برزت الموضوعات الكبيرة من حيث الإيحاء والدلالة، إذ انبثقت فجأة في الفن التشكيلي السوري حزمة من الأضواء يمكن أن تقود إلى الجذور، ترافقت مع قراءة جديدة للتاريخ، أو لموضوعات التاريخ، ضمن منظور عصري، ارتبط كل ذلك بفيض من الأساطير التي يمكن أن تكون موضوعات ذات دلالة راهنة، كما أن لها أبعاداً كثيرة في العمل الفني من حيث المعالجة.

ومن المفردات أيضاً، وفي إطار الجوهر، فقد تم تجاوز الموضوعات السائدة والمعالجات المسيطرة، وهكذا كانت فترة دير الزور فرصة للبحث والتقصي، قادت إلى اكتشاف منجم هائل من حيث الموضوعات أو طريقة التناول، فالحكايات والأساطير، بالإضافة إلى كونها مادة، فإنها طريقة. وهكذا تجاوز الموجة السائدة في الفن خلال تلك الفترة، وقدم اقتراحات لموضوعات ولمعالجات كان من الممكن، ومن الضروري، أن تتطور، كما حصل في العراق، من خلال فنانين أساسيين كجواد سليم وفايق حسن وشاكر حسن آل سعيد، إلا أن رد الفعل، الذي كان إيجابياً في الأوساط الفنية، لم يقابله استيعاب مماثل من قبل الجمهور الواسع، وبالتالي لم يتوفر لهذه الموجة المناخ الذي يحتضنها ويساعدها كي تكبر وتتواصل. ولأن نذير نبعة فنان طموح ومتطلب، ومتأثر بالجو السياسي، فإن أحد همومه أن يكون الجمهور موجوداً ومتفاعلاً، وأن يكون هو قريباً من الجمهور، لكي يبنى جسراً بين طرفي العلاقة، ويصبح الفن جزءاً من حياة الناس اليومية.

إن علاقة الجمهور بالفن، وعلاقة الفنان بالجمهور، علاقة شائكة محفوفة بمخاطر كثيرة، ومع ذلك يجب ألا تحاكم الآن، على ضوء النتائج التي تم الوصول إليها، أو على ضوء وعي اليوم، بل يجب أن تؤخذ وتفهم ضمن مناخ وشروط المرحلة التي قامت خلالها. فالمناخ الذي كان سائداً آنذاك لم يكن ناضجاً فنياً بالمقدار الكافي، كما أن المؤثرات السياسية، بالمعنى المباشر، وبعض الأحيان بالمعنى البدائي، كان ضاغطة وشديدة التأثير، خاصة وأن الرغبة بالتغيير السريع، إضافة إلى مجموعة من «الأوهام» التي أفرزتها تلك المرحلة، نتيجة القناعة أو الرغبة أو الخطأ في قراءة الواقع، كانت تدفع باتجاه معين، وكانت، في نفس الوقت، تضع مقاييس ومفاهيم لما يجب أن يكون عليه الفن أو الأدب.

إن مناخاً كهذا، كان متجاوزاً المنطقة العربية، إذ كان اتجاهاً شاملاً عاماً في مناطق عديدة، لا بد أن ينعكس، وأن يعبر عن نفسه، بأشكال مختلفة، سواء كأساليب أو كدور، قد افترض للفن والأدب، أو افترض كل منهما لنفسه، دوراً يتجاوز مهمته أو طاقته، وبالتالي قدرة مبالغاً فيها لتحريك الكتل الساكنة، وتغيير القيم السائدة.

ولذلك فإن الجمهور حين لا يكون موجوداً ومتذوقاً للفن الذي يقدم له، يدفع الفنان للتساؤل: أين هو الخطأ، في الفنان أم في الجمهور؟ فإذا كان الفنان حساساً أكثر مما ينبغي فلابد أن يتخذ أحد موقفين: إدانة الجمهور أو إدانة نفسه، وبالتالي إما أن يفضل الجمهور بالمطلق ويتجاوزه، أو أن يبالغ في الاستجابة ويقدم له ما يناسب ذوقه لكي يرضيه، علماً بأنه يمثل مجتمعاً أمياً راكداً، خاصة من الناحية الفنية، بقدر ما هو بحاجة إلى التثقيف، فإنه بحاجة إلى الصدمة أيضاً، الأمر الذي لم يحصل بالمقدار الكافي خلال تلك الفترة، مما ولد حالة من الحيرة والتساؤل، وبعض الأحيان القطيعة.

هذه الحالة لم تغب عن نذير، إذ واصل اجتهاده، فقدم في معرضه الثاني إضافات هامة، بعد أن توثقت صلته أكثر من قبل بالبيئة وبحضاراتها القديمة، إذ استفاد من المناخات والمفردات التي توصل إليها، مع محاولة تبسيط الأشكال وتعميق دلالتها في الحياة والمحيط، كما أضاف إليها أجواء غنائية.

إن الإقامة في دير الزور ساعدت الفنان على التغلغل أكثر من قبل في قراءة الشخصية المحلية، ثم في التعبير عنها. كما أصبح همه أن يقدم لوحة يمكن التعامل معها بأكثر من مستوى. أصبحت لوحته ذات بنية من عدة طبقات، إذا صح التعبير، كما توضحت الملامح التي تشي بشخصية محددة، خاصة وقد تخفف من التفاصيل، وزالت الصيغة الأدبية من اللوحة، والتي أضفتها الأسماء التي أطلقت على الكثير من اللوحات في المعرض الأول، هذا مع الإشارة إلى أن الأسماء التي تطلق على اللوحات، في أحيان معينة، تحدد طريقة التعامل معها، وتعطيها ثقلاً قد يتجاوز ما أراده الفنان، أو ما يريده المشاهد من اللوحة.

إن المعرضين، الأول والثاني، اللذين قدمهما نذير نبعة يستحقان تأملاً خاصاً، لأنهما جديدان بكل معنى الكلمة، سواء من حيث الموضوعات، أو من حيث المعالجة.

لقد اعتمد نذير على رصيد كبير من التراث، خاصة في جانبه الأسطوري والحكائي، ووظفه توظيفاً معاصراً، من خلال الرمز والدلالات. فكاهنة مردوخ وسيزيف والطلسم وانليل، ولوحات أخرى كثيرة في المعرض الأول، ثم لوحات عديدة في المعرض الثاني استوحت روح التاريخ وملامح البيئة المحلية، وهي بمقدار ما تحمل عبق الماضي، فإنها شديدة المعاصرة.

أما من حيث المعالجة، خاصة في الفترة التي أقيم خلالها المعرضان، أي في عامي 1965، ثم 1966. فقد كانت الانطباعية هي اللغة الفنية الأكثر انتشاراً، وكان معظم فناني تلك المرحلة يدورون في فلكها أو على ضفافها، مع استثناءات قليلة. ولذلك جاءت أعمال هذين المعرضين لتقدما الأشكال والألوان بمنظور جديد، حيث لجأ الفنان إلى التلخيص، والخط، والرمز، إضافة إلى استعارة بعض المفردات الواقعية، لكن ضمن منظور مختلف، وبتوظيف مغاير، كما أدخل الكتلة عنصراً أساسياً في بعض اللوحات.

في هذين المعرضين قدم نذير نبعة صيغاً مليئة بالتحريض الفني، بمعناه الإيجابي، إذ استفاد من عناصر كثيرة نسجها بشكل جديد ومثير. فهو لم يكن واقعياً بالمعنى السائد للواقعية، ولكن لم يستبعد بعض ما تقدمه الواقعية، من حيث الخطوط والتحديدات. وهكذا استطاع أن يعيد تشكيل الواقعية بمنظور خاص حين ربطها بالتعبيرية والرمزية، وبالتالي أعطى للشكل الواقعي مفهوماً إضافياً، خاصة وأنه «يؤلف» ولا ينقل، وبالتالي فإنه تجاوز الواقعية بمعناها التسجيلي، وبالصيغة التي تخدم غرضه.

أما فيما يتعلق بوجود الكتلة والاستفادة من أسلوب النحت، فقد تمثل في عدة لوحات، وفي عدة مراحل للفنان، وإن يكن بأسلوب متطور باستمرار، وبعض الأحيان خفي، لكن لوحة «أبو...» التي قدمت في المعرض الأول فتكاد تكون تمثالاً منحوتاً بكل معنى الكلمة. يقول نذير نبعة في إحدى المقابلات لتفسير هذا التوجه: «لقد حاولت إيجاد العنصر المعماري في لوحاتي المعروضة ببناء الشكل بناء نحتياً، لأن البناء النحتي، في رأي، خالد ودائم، وهو لا يتأثر بتغيرات الضوء النمطية، والتي تتبدل خلال أوقات النهار من ساعة إلى أخرى فتبدل بتبديلها كتلة الشكل».

كما أن مفهوم نذير للون وطريقة تعامله معه، في هذين المعرضين، مع تفاوت جزئي، ارتبط بالدور الذي يؤديه، إذ لجأ إلى الاقتصاد في عدد الألوان، وفي الكثافة، «لأن الألوان الكثيرة قد تشوش وقار وقدسية هذا البناء» كما يقول، إضافة إلى أن وسائل أخرى، وبألوان متقشفة، يمكن أن تعطي الدلالة، خاصة إذا أمكن التعبير عن الحالة النفسية.

من المفيد للدراسة الفنية المقارنة - التي يفترض أن يقوم بها أحد الباحثين مستقبلاً - التوقف عند هذه المرحلة في مسيرة نذير نبعة، لأنها علامة بارزة في التشكيل السوري، ونقلة نوعية في تطوره، وإلى أن تجري مثل تلك الدراسة لابد من الإشارة والتساؤل: إلى أي حد توصل هذا الفنان إلى حلول للإشكالية المطروحة منذ فترة طويلة، ولا تزال، وهي البحث عن جذور محلية لفن عربي له صلة بفنون الحضارات القديمة التي نشأت في هذه المنطقة؟ وإلى أي حد تلاقت تجربة نذير والحلول التي قدمها مع ما وصل إليه عدد من الفنانين العراقيين؟

كما أن هناك تساؤلاً آخر يطرح نفسه: لماذا لم يطل مكوث نذير نبعة في هذه المحطة الغنية والشديدة الإيحاء؟ لماذا غادرها إلى محطات أخرى بهذه السرعة؟

إن هذه الأسئلة، وما شابهها، تحتاج إلى تقص دقيق، بما في ذلك معرفة المناخ والهموم التي سيطرت على تلك المرحلة، ولكن من الإجابات التي تفرض نفسها، والتي تفسر بعضاً من هذه الجوانب: هزيمة حزيران 1967.

فهذه الهزيمة التي لم تترك أحداً بعد وقوعها كما كان من قبل، غيرت كل شيء: النظرة، الموقف، المزاج، الأولويات، وطرحت كماً هائلاً من الأسئلة والتساؤلات، بحيث يمكن التأريخ: قبل حزيران أو بعده، كتاريخ حاسم ونقطة علام.

كانت هزيمة حزيران زلزالاً مباغتاً ومفزعاً، وكانت نتائجها، على كل مستوى، صاعقة وبأكثر من معنى.

ومن الطبيعي أن تظهر نتائج هذه الهزيمة في الفن والأدب، وأن تؤثر على الفنانين والأدباء بشكل أكبر ربما ، أو أن يعكس هؤلاء آثارها بشكل أسرع، ولذلك كان الفن من أكثر أدوات التعبير استجابة.

ونذير نبعة رغم عدم التزامه بتنظيم سياسي، إلا أنه واحد من جيل غارق حتى الثمالة في السياسة، ولأنه يمتلك أداة تعبير شديدة الحساسية والاستجابة، فقد جاءت الهزيمة لكي تضعه في مواجهة أسئلة جديدة: ما هي مهمة الفن في هذه المرحلة؟ ما هي الصيغة التي يمكن من خلالها وقف الانهيار ومنع الأسوأ؟ كيف يستطيع الإنسان-الفنان أن يشد من عزائم الناس ويقف، مع الآخرين، ليشعر بإنسانيته وضرورته وأهميته؟

التقط نذير نبعة، كما فعل لؤي كيالي، الرموز المضيئة في وطن خيم عليه السواد والظلمة، وكرس كل جهده، كل فنه، لكي يقدم هذه الرموز، التقط روح المقاومة، وحاول التعبير عن هذه الروح بصيغ شتى، بما في ذلك أن يقف إلى جانب المقاومين، أن يكون واحداً منهم، وهذه إحدى الالتباسات الرائعة حيث يظن من لا يعرف نذيراً أنه فلسطيني قبل أن تكون له أية هوية أخرى!

صحيح أن هزيمة حزيران كانت هزيمة عربية قبل أن تكون فلسطينية، أو منسوبة لقطر بذاته، لكن روح المقاومة والتضحية تمثلت، بالدرجة الأولى، في العمل الفدائي. وهكذا كرس نذير نبعة اهتمامه وطاقته، من خلال الملصق، واللوحة للتعبير عن هذه الروح.

كان اللونان الأبيض والأسود هما أبرز الألوان التي استعملها نذير نبعة في هذه المرحلة، وتحديداً خلال الفترة الأولى، ربما لكي يعطي المرحلة بعض الملامح الدالة. كما خصص جزءً كبيراً من وقته واهتمامه للتعامل والتكامل مع وسائل التعبير الأخرى. فالشعر المقاوم ليس كلمات فقط، إنما هو، أيضاً، أشكال وعلاقات، ولذلك انتقى مجموعة من الأشعار، وتداخل معها، لتكون أكثر نفاذاًَ وتأثيراً، وهكذا تحولت مجموعة من أشعار الأرض المحتلة إلى أكثر من كلمات، إذ اكتسبت أشكالاً عندما «قرأها» نذير نبعة وأضاف إليها بصماته، وهكذا أخذت سمات تشكيلية لكي تصل إلى أكبر عدد من الناس، ولتكون أكثر تأثيراً.

وفي تلك الفترة السوداء، والتي عبر عنها بالأسود في البداية، وجد أن الرموز الشعبية في التعامل مع قضايا مماثلة تتجاوز الرؤية والتعبيرات المباشرة، ولذلك أعاد «قراءة» الشهادة والشهيد، فرأى في ذلك: العرس وتفتح الورود وورد الجراح، والرحلة إلى الجنة، إلى الآفاق البعيدة-القريبة. وهكذا عاد شيئاً فشيئاً إلى المكان الذي يجب أن يكون فيه.

إن الفن حين يكون استجابة لحدث أو تعبيراً عنه، وتكون تلك الاستجابة مباشرة أو سريعة، يقف، فنياً، في موقع صعب، وبعض الأحيان شديد الحرج، إذ قلما يصل الفنان إلى تحقيق الهدفين معاً: السرية الفنية العالية، والغاية المباشرة من العمل، أي التحريض أو التعبير عن حالة محددة. ويبدو ذلك أكثر وضوحاً في بلدان لا تملك مستوى متقدماً من الذائقة الفنية، أو تراثاً ثقافياً يسعف الإنجازات الفنية غير المباشرة، ولذلك يضطر الفنان، من أجل إبلاغ رسالة، إلى تقديم تنازلات، من نوع أو آخر، وغالباً على حساب المستوى الفني، لكي يصل.

ولذلك، وبعد أن برد جرح الهزيمة، وأصبح التعامل معها متجاوزاً الانفعال والصدمة المباشرة، ما لبث نبعة أن تعامل مع الموضوع برؤية جديدة: إبراز النقاء والعذوبة، وبطريقة لا تخلو من غنائية، في الإنسان، في الأشياء، في المواقف، عبر عن ذلك بالمرأة التي تتجاوز الأنثى، وأضاف إليها المزمار والسراج، وهما رمزان شديدا الدلالة، كما لجأ إلى استحضار الذاكرة الشعبية الجمعية من خلال المناخ الذي خلقه في لوحاته، هذا عدا عن الألوان التي يمكن أن تولد الأمل وتحكي احتمالات المستقبل. فعل ذلك في لوحة مبنية بإتقان ومتانة، ومشغولة بصبر في كل تفاصيلها.

لقد كان ذلك ضرورياً في مواجهة المصاعب والتحديثات السياسية والنفسية، ولم يغفل عن استلهام الحضارة، لكن هذه المرة التدمرية والعربية، إذ استوحى منها المناخ والوجوه، خاصة النسائية، والأزياء والحلي، في محاولة لأن تكون طريقاً للتجاوز، ومقاومة للفوضى التي سادت في كل المجالات، حتى في القلوب والعقول.

وهكذا توصل، مرة أخرى، إلى حلول من نمط جديد، وهذه الحلول بمقدار ما تؤكد الجذور، فإنها تحاول البحث عن آفاق جديدة، ولذلك يعود البناء المعماري المحكم للوحة، مستفيداً أيضاً من منطق النحت لا من أسلوبه، ومستفيداً من اللون الذي يتبدى في هذه المرحلة متعدداً،، شفافاً، غنائياً. لكن هذا التعدد لا يخفي الشجن، خاصة إذا ترافق هذا اللون مع أسى العيون المليئة بالعذاب والانتظار والتساؤل.

ومن خلال ومضات سريعة نكتشف أن نبعة، في تلك المرحلة، يشعر بثقل المناخ المحيط، ولذلك تكون رحلة باريس عام 1975، لمواصلة الدراسة، فرصة لأن ينعتق، ولكي يبدأ مرحلة جديدة، مع الإشارة أن لوحة الشهيد الثلاثية من أعمال 1975، يمكن أن تعطي فكرة عن أسلوب نبعة قبل السفر، لكي تقارن بأسلوبه حين عاد.

يقول نبعة في إحدى المقابلات عن الرحلة الجديدة: «مرحلة باريس جعلتني اطلع على التجارب العالمية، وأيضاً أتخلص من الإرهاب الفكري الذي وضعنا فيه بعض الأشخاص من قبل».

ذهب نبعة إلى باريس وهو يمتلك حصيلة فنية ورؤية، وهذا ما جعله «محصناً»، إذا صح التعبير، في مواجهة التيارات الفنية الكثيرة التي يمكن أن تقتلع من لا جذور له أكثر مما تفيده، والتي كثيراً ما عصفت بعدد من الفنانين الشباب، فلا أصبحوا هم أنفسهم وما قدروا أن يصلوا إلى الآخر. ذهب نبعة إلى هناك لكي يرى بعيون مدربة وبعقل مفتوح، ولذلك اكتسب خبرات إضافية هامة، دفعته إلى البحث والتجريب، ولأن يصل، في بعض المراحل، إلى تجريده الخاص، إذ بعد أن امتحن الاحتمالات التي يمكن أن تعطيها التكعيبية والسريالية والتعبيرية، واستفاد من نتائج بحثه، وصل إلى أسلوبه الخاص، إلى لغته الخاصة.

ومن جملة ما يستوقف الدارس في هذه المرحلة تجارب نبعة في تصوير النباتات والكائنات أو الأشياء المشابهة، إذ بدأ حواراً ليس فقط مع فن آخر، أو أسلوب آخر، بل مع نفسه بالدرجة الأولى. وتطور من هذا النوع لابد يقود، في النتيجة، إلى تعميق رؤيته للأشكال ولكن في حالة حركة وتغير مستمرين. وهكذا توصل إلى تطوير «واقعيته» التي لازمته في فترات سابقة، ولكن ضمن منظور جديد. وإذا كانت الواقعية الأولى متجاوزة للتسجيلية بمعناها السائد، فإن النباتات التي صورها في المرحلة الجديدة ليست تلك التي نراها في الأحوال العادية، أو من النظرة الأولى والمباشرة، إنما وهي تنبثق وتنمو وتنتقل، ولذلك تبدو مدهشة من حيث التفاصيل ومن حيث التكوين، الذي غالباً ما يفوت العين غير المجربة أو غير المدققة.

إن فترة باريس كانت مزيداً من التعلم والاطلاع والاحتكاك والتجريب، وصولاً إلى ما يمكن اعتباره «الشخصية الفنية» لتلك المرحلة.

أصبح نبعة بعد رحلته الباريسية أكثر ارتباطاً بأرضه وبشره، وأصبحت أشكاله وألوانه، وحتى موضوعاته، لها نكهة تميزه عن غيره من الفنانين.

أصبحت المرأة، وأصبحت الأشياء، من أبرز مفردات المرحلة الجديدة.

المرأة، في هذه المرحلة، تعني الوطن، الخصب، الجمال، الحنان، وتعني أيضاً موقفاً تجاه كل ما حولها، وأكثر ما يتبدى هذا الموقف في نظرة العيون.

إن العيون في معظم اللوحات التي قدمها نافذة، وهذه النافذة بمقدار ما تطل على الخارج، فإنها تطل، وبالدرجة الأولى، إلى الداخل، إذ من خلالها نستطيع أن نرى الصعوبة والحزن، وأزمنة متواصلة من العذاب والقهر، ونلمس الخصب الذي يحمله القلب أكثر مما يقوله الجسد. حتى الصدر النافر في جسد المرأة، فإنه وسيلة رد أكثر مما هو أداة جذب. الثديان المشرئبان يدلان على الرغبة في التحرر أكثر مما يحتلان سجناً جديداً أو امتلاكاً إضافياً.

والأيدي في هذه اللوحات، رغم تناسقها وجمالها، إلا أنها لا تخلو من تعب، وكأنها في لحظة ابتهال أو انتظار.

فإذا تجمعت الأجزاء ضمن منظور متكامل، وتحددت العلاقات فيما بينها، ثم بما حولها، نجد أن المرأة تتجاوز كونها أنثى لتصبح هي الإنسان في هذه المنطقة، وفي هذه المرحلة، خاصة وأن التفاصيل التي تحيط بها، وغالباً ما تكون مادية، تقول، من خلال المقابلة والتناظر، الفرق أو الوضع النفسي لكل منهما.

إن الأشياء المادية من أزياء وحلي وأخشاب وصدف، وحتى نباتات، وبالمقارنة مع المرأة، تبدو أكثر استقراراً، وبالتالي أكثر جمالاً، لأنها وصلت إلى نهاية رحلتها، وأخذت شكلها الأخير، في الوقت الذي تبحث فيه المرأة-الإنسان عن نقطة ارتكاز أكثر ثباتاً وأكثر أمناً وأقل لوعة، وتبقى النظرة في العيون تقول تساؤلاً وبحثاً، لعل شيئاً يقع في اللحظة التالية.

هذه المرحلة في تطور نذير نبعة «ماكرة» وربما ملتبسة، لأنها أكثر من المراحل سابقة تحمل قراءات متعددة، ويجب أن يفهم المكر هنا بمعناه الإيجابي، لأن اللوحة بمقدار ما هي مفهومة، وتعطي نفسها دون عناء، ولأي مشاهد، فإن القراءة اللاحقة تكشف عن خفايا لم يتم الالتفات إليها بالمقدار الكافي في النظرة الأولى، أو لم يتم الوصول إليها نظراً لاختلاف المستويات الفنية والثقافية للمتلقي.

وكما أشرنا إلى النافذة الأساسية، العيون، التي تقول أشياء كثيرة بصمت، فإن علاقة الأشياء المادية والألوان، ونقاط ارتكازها، فيما بينها «تقول» أموراً إضافية. حتى الإطار الذي يسجن فيه الوجه بعض الأحيان، والذي يكون إطاراً في الداخل، أو مرآة، فإنه أكثر من مجرد إطار، خاصة إذا رأينا حالة الأشياء حوله، وقارناها بالوجه المسجون.

ليس ذلك فقط، بل إن المرأة في لوحات هذه المرحلة ترمز إلى الإنسان أياً كان، أنثى أو ذكر. وترمز إلى المجموع في نفس الوقت، ولذلك يمكن أن تعني الإنسان الفرد، ويمكن أن تعني المدينة.

وربما استطاعت هذه المعادلة الغنية، كنتيجة، أن تبني الجسر الذي طالما كان نذير يريد بناءه: أن تكون اللوحة للخاص وللعام؛ أن تكون مفهومة من النظرة الأولى، دون حاجة إلى شروح لمن يبحث عن الشارحين والأدلاء، وأن تكون قابلة لقراءة أخرى مختلفة، أو حتى قابلة لقراءات متعددة.

وإذا كانت المراحل الفنية في مسيرة نذير نبعة مرت سريعة، ولم يتوقف في محطاتها أكثر من الفترة التي يقفها المسافر لالتقاط الأنفاس، وكان هذا موضع تساؤلنا في بداية هذه الدراسة، فلابد أن يثور سؤال من نوع معاكس: ألم يتوقف نذير نبعة في هذه المحطة أكثر مما يجب؟

وإذا كان دافع السؤال الأول إغراء بعض الباحثين لإعادة قراءة بعض المراحل في تطور نذير نبعة، فإن الدافع للسؤال الأخير، هو التحريض لكسر حالة الصمت وتجاوز التردد، لأن لدى نذير الكثير «ليقوله» وبأشكال مختلفة ومتعددة، وما تجربة «ألف ليلة وليلة» التي عمل عليها في السنوات الأخيرة، والتجربة الجديدة في حواره مع الطبيعة دون بشر، والتي تتمازج وتقترب من التجريد؛ وهو يمتحن احتمالاتها منذ بعض الوقت، إلا بعضاً من «الأقوال» الكثيرة التي لديه.

إن الفنان الجاد لا يتوقف عن العمل حتى في لحظات الصمت، بل أكثر من ذلك، إن الصمت، في أحيان معينة، إيذان لقول كبير، ومن نوعية جديدة.

وهذا ما يعدنا به نذير نبعة، وهذا ما نراهن عليه.


عبد الرحمن منيف