التباس خصوصية المكان خلال مرحلتين 20/أيار/2008
يختم جمال شحيد ورقته خلال المؤتمر الدولي «الثقافة والمدينة ـ دمشق نموذجاً» الذي نظمته الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008 مؤخراً بالتساؤل: هل حافظت دمشق على ذاكرتها بكل أمانة؟ وهل الذاكرة الدمشقية ذاكرة انغلاقية أم منفتحة على الآخر؟ وهل هي ذاكرة تسجيلية أم تحليلية؟ أسئلة كثيرة طرَحها لتبيان مدى التكلس أو التطور!
حاول نبيل سليمان في مداخلة «الفسيفساء الدمشقية روائياً» أن يجيب عن تلك الأسئلة من مستويات أربعة لدمشق التي تجلت في الراوية، وذلك من خلال عدة موجهات للبحث منها النظر إلى دمشق كلوحة من الفسيفساء المنفذة من عناصر جمة دينية وأقوامية، فضلاً عن العناصر الثقافية، الطبقية والسياسية، وعبر كل هذا الزخم الفسيفسائي ميز سليمان بين مرحلتين في تطور دمشق العاصف والحالم خلال القرن العشرين، إذ حافظت في المرحلة الأولى على خصوصيتها في نمط العيش والفنون والعمارة والعلاقات الإنسانية والاقتصادية، أما المرحلة الثانية التي تبدت بالستينات فهي الهجرة إليها من الأرياف السورية جميعاً، وذلك جعل الخصوصية الدمشقية تلتبس بالعصوبة والإنغلاق، وبالأطلال الدارسة وسوى ذلك مما يجمدها في الماضي ويستدر الدموع ويعزلها عن الحاضر ويختصرها في رموز فقيرة ولعل ذلك قد بلغ أقصاه في حمى المسلسلات التلفزيونية المتعلقة بدمشق الماضي بدعوى النقاء وتحرِمها من تمثل العناصر الجديدة وقد تواترَ التعبير الروائي عن كل ذلك بالإطراد مع نهوض هذا التعبير منذ ستينات القرن الماضي.
الفسيفساء الدمشقية
وجد سليمان أن هذه الفسيفساء الدمشقية قد تجلت في أربع عشرة رواية لا تتجاوز منها السبعينيات من القرن الماضي سوى روايتين لألفة الإدلبي وميّة الرحبي وستكبر هذه المدونة الروائية بعد ذلك بما سيلي من روايات خيري الذهبي، وغادة السمان، وفواز حداد، ورجاء طايع، وسمر يزبك، ونبيل سليمان، وسواهم من مختلف الأجيال، ممن هو دمشقي أو ليس كذلك.
غير أن الحراك الاجتماعي السريع والعنيف والمعقد من الريف باتجاه المدينة في سورية وفي غيرها ولا سيما باتجاه العواصم، جعل نكهة الفضاء وخصوصية المكان تلتبس في الرواية كثيراً أو قليلاً بالبكاء على الأطلال أو التقديس أو العدائية الصارخة والعصبوية والنوستالجيا، التي لا فرق فيها بين أن تكون حنيناً إلى الريف الدائل أو إلى دمشق العتيقة الدائلة، أو التي توشك أن تدول ولا يخفى هنا ما يتعلق بقراءة ذلك في الرواية أو ما هو خارج النص، من السوسيولوجيا الثقافية وغير الثقافية وحيث يهدد القراءة الانزياح عن الجمالي أو الارتباك في تبنيه!
مع كل ذلك يذكر سليمان، الذي تحتاج مداخلته إلى تغطية صحفية وحدها، أنه منذ قرابة ثلاثة عقود وحول ظاهرة العجز عن تجسيد دمشق في الرواية سواء عند الكتاب الذين نشؤوا فيها أو عند الذين قدموا إليها، كانت دمشق ديكورية في روايات هاني الراهب، وحيدر حيدر، وعبد السلام العجيلي، وعبد العزيز هلال، وكوليت خوري، وسلمى الحفار الكزبري، وعلى الرغم من الاختلاف الجذري الذي يتلامح فيما تلا ذلك يرى أن دمشق ما زالت تفتقد لروايتها التي تضارع ما كان للقاهرة، مثلاً، على يد نجيب محفوظ أو ما كان لبغداد مثلاً على يد غائب طعمة فرمان!
من الوداعة إلى التوتر
هي التي ناست في هذه الروايات بين الحضن الدافئ والفك المفترس! هكذا أيضاً تتابع باولا فيفياني دمشق في نظر الرواية الجديدة وتحولاتها وتأخذ رواية خالد خليفة مثالاً على ذلك، فتذكر: «تتصف المدينة الشرقية القديمة بشوارعها الطويلة والمتعرجة مع دكاكينها ومقاهيها وأروقتها وكانت هذه الأمكنة مجالاً للقاء والتعارف حيث في المدينة القديمة يعرف الناس بعضهم ويتحابون أو يتكارهون، حركتهم بطيئة فوَقتهم معهم والعجلة من الشيطان، أما المدينة الشرقية المعاصرة التي تطورت في النصف الثاني من القرن العشرين فصارت تشبه المدن الغربية بازدحامها وتلوث بيئتها وعدد سكانها وتوتر ساكنيها، ودمشق من هذه المدن، التي تحولت من مدينة وادعة إلى مدينة صاخبة وعنيفة!».
السرد والمنفى والأوطان المتخيلة كانت مدار بحث عبد الله إبراهيم إذ وجد أن قضية تخيل الأوطان والأمكنة الأولى ومنها المدن وما يتصل بها من حنين وشقاء، تشكل البؤرة المركزية لأدب المنفى إذ ثمة تزاحم بين الأوطان والمنافي في التخيلات السردية التي يكتبها المنفيون، والمنفي بحسب إبراهيم، هو الإنسان المنشطر بين حال من الحنين الهوسي إلى المكان الأول وعدم القدرة على اتخاذ القرار بالعودة إليه، وينتج هذا الوضع إحساساً مفرطاً بالشقاء لا يدركه إلا المنفيون، الذين فارقوا أوطانهم ومكثوا طويلاً مبعدين عنها.
المنفي هنا -وقد افتقد بوصلته الموجهة- يستعيد مكاناً على سبيل الافتراض ليجعل منه مركزاً لذاته ومحوراً لوجوده فيلوذ بالوهم الحالم عن توازن مفقود فيحكم سيطرته على مكان مفقود أيضاً عبر سيل من الذكريات المتدافعة في سعي للعثور على معنى لحياته، فيغيب المنفى مكاناً يعيش فيه الآن، ويحضر الوطن زماناً كان فيه من قبل حيث المنفى ليس مكاناً غريباً فحسب وإنما هو مكان يتعذر فيه ممارسة الانتماء لأنه مفتقر إلى العمق الحميم وندر أن تكللت محاولات المنفيين بالنجاح في إعادة تشكيل ذواتهم بحسب مقتضيات المنفى وشروطه، وأدب المنفى يتميز -كما يرى عبد الله إبراهيم- بأنه مزيج من الاغتراب والنفور المركب لكونه نتاجاً لوهم الانتماء المزدوج إلى هويتين أو أكثر، وفي الوقت ذاته عدم الانتماء لأي من ذلك، بل إنه أدب يستند في رؤيته الكلية إلى فكرة تخريب الهوية الواحدة المطلقة وبصفته تلك هو أدب عابر للحدود الثقافية والجغرافية والتاريخية ويخفي في طياته إشكالية خِلافية، لأنه يتشكل عبر رؤية نافذة ومنظور حاد ويتعالى على التسطيح ويتضمن قسوة عالية من التشريح المباشر لأوضاع المنفي ولكل من الجماعة التي اقتلع منها، لكنه أدب ينأى بذاته عن الكراهية والتعصب وهو يتخطى الموضوعات الجاهزة والنمطية ويعرض شخصيات منهمكة في قطيعة مع الجماعة التقليدية، وفي الوقت ذاته ينبض برؤية ذات ارتدادات متواصلة نحو مناطق مجهولة في داخل النفس الإنسانية.
يأجوج ومأجوج
تابع خيري الذهبي دمشق بين زهو الهلنستية وانغلاق الآسيوية العثمانية، ووجد أن دمشق ليست دمشق واحدة، بل هي دمشقات تحكمها على الدوام ثنائية «راقصات الناي والندابات»، جنة تحيط بها الصحارى، وفيها كان قابيل وهابيل، الإسكندر ويأجوج مأجوج، وثمة كتابان صوّرا هذه الثنائية بشكل لافت: كتاب «الدرة المضية في الدولة الظاهرية» وفيه تبدو جلية دمشق بيأجوجها ومأجوجها، وكتاب ثانٍ لا يرى في دمشق سوى النساء الساحرات والفواكه والسيارين، هكذا هي دمشق على مدى التاريخ، كانت تتناقل بين هذين القطبين دمشق الكابوسية ودمشق جنة الفواكه!
بالرغم من يأس خيري الذهبي ونظرته إلى انغلاق الثقافة الآسيوية والعثمانية على بلاد الشام كلها فإن باحثاً مثل عبد الكريم رافِق وجد ثمة حياة ثقافية في العهد العثماني بل وجد أن «نهضة» القومية العربية بُعيد تلك الفترة كانت بدعامة ثقافية تنامت أصولها عبر القرون الأربعة من الحكم العثماني ويؤكد أكثر من ذلك، فقد وجد كثرة في مصادر الحياة الثقافية في بلاد الشام إبان الفترة العثمانية، من ذلك كتب الأخبار والتراجم والرحلات وكذلك كتب الفتاوى ووثائق المحاكم الشرعية وسجلات تركات المتوفين!
مدينة الأدب الموازية
تحدث فيصل دراج ومحمد شاهين عن المدينة الغربية في الأدب أو نظرة الأدباء إليها، تحديداً باريس ودبلن، والأخيرة كما تجلت في رواية يوليسيز «جويس» كعاصمة ثقافية غائبة حاضرة حيث الراوي يوليسيز ما هو إلا عابر سبيل يتمشى في دبلن ولا علاقة له بتسجيل ما يرى في المدينة ولكنه يحمل في جعبته رصيداً هائلاً من الأساطير والرموز يضع منها دبلن ليست جديدة تماماً ولكنها موازية لدبلن الحقيقية التي خبرها وعرفها عن قرب وكأن دبلن يبدعها جويس معماراً فنياً منحوتاً من عقل اللغة يشكل هذا الواقع الجديد من داخل الشخصية ومن خلال تجربتها لواقع الحياة المُعاش والتعبير عنه بلغة الراوي، يقوم جويس بتحرير دبلن من أسوارها وحجارها بل ومن تاريخها ليضع لها خارطة طريق جديدة ينفذ إليها الراوي وغيره من الجهات الأربع بأقصر الطرق.
سجل فيصل دراج «صورة باريس بين بودلير وبنيامين»، وذكر أن بودلير خلق حداثته معايشاً عنصرين متلازمين: مدينة حديثة تقطع مع مدينة قروسطية انتهى زمنها، وتصور حداثي للعالم يضع الخلق الإنساني الجديد فوق المتوارث والطبيعي والمألوف القديم، ولعل هزيمة القديم أمام الحديث هو ما جعل الشاعر يرى الحداثة في العابر والمتلاشي وفي العلاقات المتحولة المتبدلة كما لو كانت الحداثة جدل الهدم والبناء وما حوّل باريس إلى مدينة حديثة لها شوارعها ومواضيعها وهندستها ولها تلك الجموع الواسعة التي تسير حرة في فضاء واسع ولذلك هجس بودلير بإبداع يتشكل داخل المدينة مدركاً أن للمدن الكبرى مواضعها وأن لكل زمن حداثة خاصة به، وأن الإبداع هو القبض على الجديد قبل أن يزول وأن دور الشعر هو الحفاظ على ذاته في عالم اجتاحه التكنيك وأغلقته التجارة.
إذا كان بودلير قد اشتق المفرادت الشعرية الحديثة من المواد البنائية التي قامت عليها باريس الجديدة فقد قرأ الألماني فالتر بنيامين باريسَ وهو يقرأ بودلير متوقفاً أمام الجموع التي تحتفي بها الشوارع والممرات المقنطرة التي تشعر المرء بأنه داخل بيته وخارجه في آن، قرأ بنيامين في باريس صورة البرجوازية الحديثة التي تنتج أبنية مصنوعة من الفولاذ، استولد بودلير شعره من تحولات باريس في القرن التاسع عشر واستولد بنيامين صورة باريس من قصائد بودلير!
أخيراً، بالنسبة إلى العاصمة دمشق، خير ما نختم به هذه التغطية الصحفية ما قاله أدونيس في وصفها ذات مرة: «دمشق هي الأم والأمة، والآمة»!
|