عبد السلام العجيلي

28/أيلول/2008


- مقدمة
- سيرته
- نسبه
- بيئته وصباه
- بداياته الأدبية
- المرحلة الثانوية ودراسة الطب
- بداية العمل السياسي وآثاره
- مرحلة الاستقرار والزواج
- رحلاته
- لقبه وتكريمه
- وفاته
- أعماله
        - القصة القصيرة
        - الرواية
        - المقالة
        - أدب الرحلات
        - الشعر
        - المقامة
        - حوارات
        - المراثي
        - المسرح
        - منوعات
        - الأعمال المترجمة إلى لغات عالمية
        - جوائز
- أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب
        - القصة والرواية
        - المقالة
        - المقامة
        - المسرح
        - الشعر
        - عالمية العجيلي
- مظاهر من التجليات الإبداعية عند العجيلي
        - الأنيما والأنيموس في أدب العجيلي
        - «نموذج المرأة»
        - رواية «باسمة بين الدموع»
        - نموذج المرأة في رواية «باسمة بين الدموع»
        - «المرأة»
        - قصة «رصيف العذراء السوداء»
        - الأنيما والأنيموس في قصة «رصيف العذراء السوداء»
        - المظهر الآخر للأنيما
        - قصة «قناديل إشبيلية»
        - رواية «قلوب على الأسلاك»
        - نموذج المرأة في رواية «قلوب على الأسلاك»
- على هامش الدراسة
        - طريقة للارتباط بالجانب الأنثوي
- الخطاب السياسي في أدب العجيلي
        - «نبوءات الشيخ سلمان»
        - نظرية الأدوار
        - الخطاب السياسي في رواية «قلوب على الأسلاك»
- مختارات من أدب العجيلي
        - مختارات من مقالة «مذهبي في القصة»
        - مختارات من قصة «انتقام محلول الكينا»
- المراجع

مقدمة
يقول الشاعر أدونيس:

«دمشق
قافلة النجوم في سجادة خضراء
ثديان من جمر وبرتقال
دمشق
الجسد العاشق في سريره
كالقوس،
والهلال
يفتح باسم الماء
قارورة الأيام».

إن دمشق الغافية على سفح قاسيون، والتي كان يعبرها بردى ليمضي نحو غوطتها.. كانت ومازالت كالأم الإلهة، القديمة حين كان الرب أنثى..!!

لقد وَلَدَت دمشق شعباً، وَوَلَدَت شعوبا‌ً في صمتها، في ياسمينها، في عبق التاريخ المختبئ في زوايا حاراتها القديمة.

كالإلهة الأم كالي تبدو حيناً قاسية، مرعبة، وكالإلهة شاكتي تبدو حيناً آخر رفيقة حنونة. وهكذا شاء القدر، الكبار الذين نعرفهم مروا عبر بوابة دمشق، ومن خلال دمشق، تهجَّوا اسمها، تمتموا أحرفها، وامتلؤوا بها، ثم غابوا في الأعظم..!!

وكان أديبنا عبد السلام العجيلي واحداً منهم، سواء أثناء دراسته للطب أو بداياته الأدبية أو حتى حياته السياسية.

وهكذا نشهد في شخص العجيلي ثلاثة محاور: الطب والسياسة والأدب.

إنها عوالم حلقت فيها روحه الفتية التي امتلأت نوراً من عوالم نجهلها، ولا يعيها العجيلي نفسه، إلا أن روحه كانت تعيها جيداً، وهذا الوعي ما برح يتجلى خلقاً ينساب رؤى، وعوالم متداخلة ومتباينة، نلمحها في أعماله خصوصاً.

إلا أن خصوصية العجيلي ليست في كونه جامعاً لثلاث شخصيات، الطبيب والسياسي والأديب، بل أيضاً في تنوع أدبه بين القصة والحكاية والمقامة والرواية والشعر والمسرح والمقالة.
إن أطباء دمشق القدامى يذكرون العجيلي ومساهماته الإنسانية لوطنه، وكذلك مواقفه السياسية التي انطبعت عميقاً في ذاكرة الوطن.

أما أعماله الأدبية، فهي تبدو كالبرعم الذي وُلِدَ في الرقة، وتفتَّح على امتداد الوطن، أو كالبذرة الصغيرة التي زُرِعَت في أديم هذا الوطن، وكَبُرَت وأصبحت شجرة أغصانها تخيِّم فوق سمائه، حتى أن الطيور تأتي، وتضع أعشاشها عليها..!!

أخيراً، لعلنا نضم صوتنا للدارسين الكبار الذين عرفوا القيمة الإبداعية الكبيرة التي تختبئ في أعمال العجيلي، وهكذا نجدنا نقول: «شكراً لك أيها الغالي، لما أعطيت وأغنيت هذا الوطن».

سيرته
لم يكن في الرقة حين وُلِدَ عبد السلام العجيلي سجلات ثابتة للمواليد، وهو يرجِّح فيما بعد أن ولادته كانت في أواخر سنة 1918 أو 1919.

والده الحاج ويس العجيلي، وهو مزارع وملاّك من وجهاء الرقة، وعمومته مزارعون وملاّكون أيضاً، ويُقال أن عمه وهبي العجيلي قد شارك في حكومة الرقة إبان انسحاب الأتراك من سورية.
والدته مزنة العجيلي، وهي من عائلة العجيلي، ووالد والدته (حميد العجيلي) وعمها (حمدي العجيلي) كانا من المعروفين بتأليف الشعر البدوي.

نسبه
يذكر عدنان بن ذريل أن أسرة العجيلي من عشيرة عربية، وهي عشيرة البوبدران العراقية القاطنة في بادية الموصل في العراق، ولا تزال فروعها إلى اليوم في بادية دير الزور مع عشائر البقارة، وكان جد العائلة العجيلي قد نزح منذ قرن ونصف تقريباً، من الموصل إلى الرها في تركيا، ثم إلى الرقة في سورية، ولا يزال أحفاده في الموصل والرها إلى الآن على تواصل وتزاور مع أقربائهم في الرقة.

أما عشيرة البوبدران فيذكر عبد السلام العجيلي أن مشايخها في الموصل لا يزالون يحتفظون بشجرة النسب التي تثبت أن البوبدران سادة، أي من سلالة السيد الحسين بن علي بن أبي طالب.

بيئته وصباه
من الناحية الاجتماعية، كانت العصبية القبلية تسيطر على حياة الناس في الرقة، والقوانين السائدة هي القوانين العشائرية التقليدية، الثأر والدية، والمقاضاة أمام العوارف (العوارف جمع عارف وهو قاضي العشيرة أو رجل الثقة عند القبائل).

ومن الناحية الاقتصادية كان أهل الرقة، وأسرة العجيلي منهم، يعيشون حياة نصف حضرية لأنهم كانوا في الشتاء يقيمون في البلدة، فإذا جاء الربيع خرجوا إلى البادية يرعون فيها أغنامهم ويتنقلون بين مراعي الكلأ أوائل الخريف.

ويقول العجيلي عن هذه الحياة: «قد عشت هذه الحياة في صباي فأثَّرت فيَّ كثيراً، وقبست منها كثيراً في ما كتبت».

وكذلك: «"حين كنت صغيراً كنت لانطوائي على نفسي أبدو متزمتاً واستمر ذلك إلى أيام شبابي. فكان العارفون بحكايات أسرتنا يعجبون من تقصيري في ميدان العاطفة الذي طالما صال فيه أسلافي وجالوا..».

وكذلك: «نلت الشهادة الابتدائية (السرتيفكا) في عام 1929، وانتسبت في السنة التالية إلى تجهيز حلب. ولكن مرضاً – لا أدري الآن على التحقيق ماذا كان – حال بيني وبين متابعة الدراسة، فرجعت إلى الرقة، وانقطعت عن الدراسة على الرغم من شفائي، مدة أربع سنين، وكان هذا الانقطاع ذا تأثير كبير في حياتي. فقد أتاح لي الانصراف إلى القراءة والاطلاع على كل ما وقع بين يدي من كتب قرأتها بنهم: كتب دينية، قصص شعبية مما يمكن أن يوجد بين أيدي الناس في بلدة مثل الرقة، كتب من الأدب القديم، وكتب التاريخ العربي. وحين عدت إلى تجهيز حلب عدت بذخيرة كبيرة من هذه القراءات المتنوعة مما جعلني أكثر اطلاعاً من كل رفاقي، وفي بعض الأحيان من أساتذتي، في التاريخ، والأدب وأكثر منهم حفظاً للشعر ومعرفة بالشعراء».

«القراءات الدينية، مع البيت المتدين الذي أعيش فيه، ساقتني إلى التأملات الدينية وإلى ممارسة الصلاة والصيام منذ سني الصبا الأولى. وقراءات قصص المغامرات أوحت إلي بأحلام يقظة كثيرة عن مغامرات أنا بطلها..».

بداياته الأدبية
يقول العجيلي في معرض حديثه: «ما بقي في ذاكراتي عن كتاباتي الأولى. بدأت المحاولات في الثانية عشرة من عمري بتأليف تمثيلية حول قصة تاريخية في ضواحي الرقة قرأتها في إحدى الروايات الرخيصة، وذلك في وقت لم أكن أعرف فيه عن المسرح غير ما شهدته من تمثيل إحدى الروايات المسرحية المدرسية. وبدأت كتابة قصة بوليسية لطول ما فتنت بالروايات البوليسية. وحين قرأت "آلام فارتر" بدأت بكتابة مذكرات شخصية أتوخى لها أن تنتهي بما انتهت به قصة فارتر لغوته.

ونظمت مقاطع مقفاة ظننت أنها الشعر حتى أنبأني معلمي في المدرسة الابتدائية الأستاذ ثابت الكيالي أن الشعر له وزن، ولابد أن يتقيد به الناظم، فجهدت حتى أدركت معنى الوزن فنظمت الشعر متقيداً به قبل أن أعرف العروض، ولكني كنت أغني الأبيات على ألحان بعض القصائد الدينية التي كنت أحفظها حتى أضبط أوزانها.

أول ما نشرته كان قصة بدوية بعنوان "نومان" نشرتها لي مجلة الرسالة المصرية التي كان يصدرها الأستاذ الزيات وذلك عام 1936. وقد كان نشر هذه القصة مصدراً لثقة كبيرة في نفسي لم أجهر بها لأحد لأني نشرت القصة بتوقيع ع.ع. ولكن تلك القصة كانت أول ما أرسلته للصحف في حياتي الأدبية. فكونها نشرت مباشرة ودون تأخير وكون نشرها كان في المجلة الأدبية الأولى في العالم العربي، أمران لم يكونا عاديين».

المرحلة الثانوية ودراسة الطب
يذكر العجيلي أن لعودته للدراسة قصة، ذلك أن والده كان يميل إلى إبقائه معه في الرقة لتولي إدارة أعماله وأملاكه، ولكن ميل الفتى إلى الثقافة والمعرفة كان كبيراً. وفي ذات يوم كان شباب البلدة يقومون بتمثيل رواية فأعد العجيلي قصيدة، وعنها يقول: «ربما كانت أول قصيدة صحيحة أنظمها»، وأعطاها لأحد رفاقه ليلقيها كفاتحة للرواية مشترطاً عدم ذكر اسمه، وحين ألقيت القصيدة ونالت الاستحسان ثم عُرِفَ أنه ناظمها، وكان حينذاك في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، اشتد الإلحاح على والده لإرساله إلى حلب لإتمام دراسته.

وبدلاً من دخوله السنة الأولى في الدراسة الثانوية، قدم فحصاً تجاوز به صفين، وبهذا ضاع عليه من السنين الأربع التي فاتته اثنتان واستدرك اثنتين.

وفي تجهيز حلب يذكر العجيلي أنه قد نال المرتبة الأولى بين كل طلاب سورية في كل من صفي البكالوريا الأولى والثانية، وكانت الثانية في فرع الرياضيات.

بعد البكالوريا الثانية التي نالها العجيلي في حزيران 1938 انتسب إلى جامعة دمشق فدرس فيها الطب طوال سني الحرب. وانتهى من الدراسة بانتهاء تلك الحرب في عام 1945.

وعن هذا نسمع العجيلي: «لابد من القول أني بعد أن نلت البكالوريا كانت نظرتي إلى الحياة قد تغيرت. وبموجب هذه النظرة أصبح لي رأي في أن الدراسة العلمية ليست كل شيء».

بداية العمل السياسي وآثاره
يذكر العجيلي أنه كان ذو ستة عشر ربيعاً حين رُشِّحَ للانتخابات، وتقدم للانتخابات النيابية لأول مرة، وكان يتعين على المُرَشَّح حينذاك أن يكون عمره ثلاثين سنة، فكبَّروا عمره، لكنه لم ينجح في تلك المحاولة.

كما يذكر نبيل سليمان أن العجيلي بعد أن نال الشهادة الثانوية (البكالوريا)، قد سافر لأول مرة إلى دمشق دون علم أهله، وذلك لكي يتطوَّع في صفوف الثوَّار للمشاركة في ثورة 1936، فسعى إلى مكتب المحامي شفيق سليمان الذي كان يساهم في إرسال المجاهدين إلى فلسطين، فخاطب الرجل هذا الشاب: «يا بني ارجع إلى بلدك وتعلَّم. الثورة الفلسطينية بحاجة إلى رصاص وخرطوش أكثر من حاجتها إلى رجال».

وفي عام 1947 اُنتُخِبَ نائباً عن الرقة في مجلس النواب الذي قام في أيامه انقلاب حسني الزعيم.

لم يكد يبدأ عمله السياسي حتى كانت نكبة فلسطين عام 1948، فتطوَّع الدكتور عبد السلام العجيلي في جيش الإنقاذ، وكان في التاسعة والعشرين من عمره، ويذكر العجيلي في هذا الصدد: «في عام 1948، في أوائل ذلك العام تطوعت، وأنا نائب، في حملة جيش الإنقاذ، وهي الحملة التي كان مقرراً لها أن تدخل فلسطين قبل أن يصبح قرار التقسيم نافذ المفعول في 15 أيار 1948، لتنقذ فلسطين وتعيدها إلى أهلها وتطرد اليهود من أرضها قبل أن يصبح لليهود كيان شرعي دولي. وكان جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، إلا أن الطليعة الأولى التي دخلت فلسطين من هذا الجيش كانت بقيادة أديب الشيشكلي وباسم فوج اليرموك الثاني».

وعن ذكرياته في انضمامه لجيش الإنقاذ، يذكر العجيلي: «هذه الصورة الأولى أنا وفوزي القواقلي، فوزي القواقلي جاء إلى دمشق قبل تأليف جيش الإنقاذ والفكرة كانت موجودة وزرته وزملاء لي نائبين عبد الرحمن عظم وأديب نصور، لم نتحدث في ذلك الوقت عن جيش الإنقاذ إنما تحدثنا بأمور عامة فهذا أنا وفوزي القواقلي، ومن ثم هذه الصورة الباقية الأخرى أنا وعبد الحميد السراج كان معنا، عبد الحميد السراج ملازم بالجيش النظامي لكن التحق كذلك متطوعاً بجيش الإنقاذ والثالث الأستاذ محمد عطورة محامي من حماه..».

كما عبَّر العجيلي في حواره الذي استقينا منه هذه الذكريات عن رغبته الاستشهادية في إحدى العمليات، عندما بدأ الجيش يدخل معركته الأولى معركة جدين، وكان يتوجب على سبعة أشخاص أن يتقدموا ويقطعوا الأسلاك الشائكة حول المخيم الذي كان وراءه القلعة والقيام بالمباغتة في الساعة السابعة أو السادسة صباحاً، وكان العجيلي يريد أن يكون أحد هؤلاء السبعة، إلا أن أديب الشيشكلي رفض بحجة عدم تدرب العجيلي على القيام بمثل هذه المهام آنذاك».

ويشير أحدهم إلى أن العجيلي عاد أخيراً من تلك التجربة خائباً ومحبطاً وفاقداً لإحدى عينيه.

كما يذكر نبيل سليمان: «من تلك التجربة حمل الرجل خيبة مريرة ودائمة. ومنها أعطى جملة من أفضل ما كتب من القصة القصيرة، على رأسها قصة "كفن حمود" من مجموعته القصصية "الحب والنفس، 1959" التي جاءت في مقاطع صغيرة تنساب بعفوية على إيقاع خفقات/حسرات وآهات أم حمود وهي تهيئ كفن ابنها الذي استُشهِدَ في فلسطين في حرب 1948، وهو (حمود العجيلي) ابن عم الكاتب. وقبل ذلك، ومن الحرب نفسها، جاءت في مجموعة "قناديل إشبيلية" قصة "بنادق في لواء الجليل" التي ترسم المتاجرة بسلاح المجاهدين في السوق السوداء، وقصة "بريد معاد" التي وصلت بين معركة قلعة جدين (20/1/1948) في فلسطين، وبين مآل المجاهد عبد الحليم الذي كان طالباً في كلية الحقوق في جامعة دمشق، وبات بعد حين من الهزيمة رجل أعمال مرموق ديدنه المال».

وعن هذه التجربة كتب عدنان بن ذريل يقول: «ولكن هذه الحرب لا تفضي إلى شيء، وقرار التقسيم ينفذ بتأييد الدول، وبمساعدة الإنكليز الذين كانوا تخلوا عن فلسطين لليهود، وعرَّضوا الشعب الأعزل فيها لمجازر الصهيونيين. وقد تسبب هذا الوضع وقتها بلجوء ما يقرب من مليون عربي فلسطيني إلى الديار المجاورة.

ثم يعود المتطوعة، ويقوم حسني الزعيم، وكان قائداً للجيش، وحارب في فلسطين، بانقلابه على شكري القوتلي، ويحل مجلس النواب، ويؤلف حكومة مديرين من الأمناء العامين، ويسن للبلاد دستوراً تقدمياً هو دستور عام 1949، كما يحاول تنظيم الإدارة الحكومية، ولكن انقلاب سامي الحناوي لا يمهله، وتعود البلاد ثانية إلى أيدي الساسة القدماء».

مرحلة الاستقرار والزواج
بعد عودته من فلسطين، يعتزل العجيلي السياسة، وينصرف إلى الطبابة في بلدته الريفية النائية على ضفاف الفرات (الرقة)، لكن نشاطه السياسي لم يتوقف بل أخذ بعداً آخر منه، هو الخدمة الإنسانية في عمله كطبيب، وضوع السياسة الذي كان يعبق في أعماله الأدبية المتتابعة.

تزوج في عام 1958 من فتاة دمشقية من أسرة كريمة، وقد كتب لصديقه عدنان بن ذريل عن زواجه يقول أنه كان نصيباً لم تطل مقدماته: معرفة سريعة أعقبت رابطة دائمة.

بعد أربع سنوات من زواجه تولى العجيلي الوزارة في عام 1962 بين نيسان وأيلول من ذلك العام، وزارة الثقافة التي جمع إليها وزارتي الإعلام والخارجية، وذلك في عهد الانفصال الذي أعقب عهد الوحدة السورية المصرية 1958 – 1961.

في السنة التالية لتولّيه الوزارة تُوُفِّيَ والده عام 1963.

على الرغم من كل الأحداث الجسام التي شهدها العجيلي في حياته فإنه اعتبر زواجه الحدث الأهم، وقد رُزِق فيه بأربعة أولاد، كما ذكر نبيل سليمان أن العجيلي فُجِعَ ببكره بشر بعدما بلغ الشباب، وبعيد ذلك كان طلاق العجيلي من زوجته..!!.

رحلاته
يذكر عدنان بن ذريل أن أول رحلة إلى الغرب قام بها العجيلي كانت عام 1951، أمَّ فرنسا وزار باريس حيث مكث فيها ستة أشهر. ومنذئذ كان يقوم بالرحلات سنة بعد سنة كلما سنحت الفرصة، وحتى سنة 1970 زار معظم أرجاء أوروبا الغربية والأميركيتين، وكتب فيها قصصاً غاية في البراعة.

يُذْكَر أن العجيلي في بعض رحلاته ارتأى أن يصطحب سيارته معه للتجول فيها في العواصم الغربية، كما يذكر العجيلي في إحدى رحلاته حين زار باريس لقاءً مع سيدة عرف فيما بعد أنها كانت سيمون دي بوفوار صاحبة كتاب «الجنس الآخر».

من رحلاته هذه استطاع العجيلي أن يقدم مساهمة كبيرة فيما نسميه أدب الرحلات الذي أثرى من خلاله المكتبة العربية والعالمية معاً.

لقبه وتكريمه
أُطْلِقَ على العجيلي لقب أيقونة الرقة، لعدة أسباب، ربما من أهمها ممارسته الطب رسالة وخدمة لكل الناس لعقود طويلة من السنين، بلا كلل ولا أجر ولا منّة، وكان الطبيب المداوي لكل رجل وامرأة وطفل في الرقة!.

أما الرقة، فيذكر أحد الكُتَّاب أن اشتقاق اسمها ربما ينبع من مدلولها الناعم الجميل، وقد نُقل عن الخليفة العباسي هارون الرشيد قوله: «الدنيا أربعة منازل، هي دمشق والرقة والري وسمرقند».

وفيها يقوم الضريح الفاره لعمار بن ياسر الذي اُسْتُشْهِدَ في معركة صفين على يد قوات معاوية بن أبي سفيان.

ويُذْكَر أنه قبل شهرين من وفاة العجيلي حضر العديد من الأدباء والدارسين والصحافيين احتفال تكريمه في مدينته (الرقة)، ويذكر الكاتب علي شلق أنه على أثر وعكة، أُجْرِيَت له فيما بعد عملية جراحية، ومن ثمَّ أصابه فالج، وأخيراً زلَّة قدم أقعدته عن الحركة. وهكذا زاره البعض بمناسبة حفل تكريمه، في منزله، وفي حي يحمل اسمه. وقد اُفْتُتِحَتْ قاعة باسمه في المركز الثقافي بالرقة، احتوت معظم آثاره ومخطوطاته وصوره منذ كان فتى حتى أيامه الأخيرة.

وفاته
أخيراً وليس آخراً، فإن هذا الجبل الشامخ، الذي تألق بقممه المضيئة، خلف الصحراء، على ضفاف الفرات، في الرقة، ومن هناك ارتفع وأضاء، ومنه تدفَّقَتْ ينابيع الإلهام والبطولة،
قد آن أوان أن يزُفَّه أهله ومواطنوه ومحبّوه إلى الملأ الأعلى.

آنت لحظة راحته، فلقد أعطى من روحه وفكره وجسده.

كان النفير، وأعلن البوق، لحظة وداعه في الأربعاء 5/نيسان/2006.

وعن هذا تذكر الكاتبة سوسن الأبطح: «بعد أربعة أيام من غيبوبة تامة، رحل الأديب السوري الكبير عبد السلام العجيلي. توفي العجيلي، في "رقته" الأثيرة. ودُفِنَ سريعاً – كما أراد – رافضاً أي مأتم رسمي».

أعماله
القصة القصيرة
1) بنت الساحرة: مجموعة قصص (1948).
وهي مجموعته القصصية الأولى، أعدها في عام التخرج وهيأها للطبع. إلا أنه لم ينشرها إلا في أواخر عام 1948، وفيها عشر قصص منها: قطرات دم، انتقام محلول الكينا، بنت الساحرة.

2) ساعة الملازم: مجموعة قصص (1951).
مجموعة تتألف من تسع قصص منها: الحب والأبعاد، ساعة الملازم.

3) قناديل إشبيلية: مجموعة قصص (1956).
مجموعة تتألف من سبع قصص منها: قناديل إشبيلية، الرؤيا.

4) الحب والنفس: مجموعة قصص (1959).
مجموعة تتألف من سبع قصص.

5) الخائن: مجموعة قصص (1960).

6) الخيل والنساء: مجموعة قصص (1965).
مجموعة تتألف من ثمان قصص منها: الخيل والنساء، ألوان من التعرية، من الذي أقتل، ثلاث رسائل أوروبية.

7) فارس مدينة القنطرة: قصة أندلسية (1971).
مجموعة تتألف من خمس قصص وهي: فارس مدينة القنطرة، مذاق النعل، الحب في قارورة، نبوءات الشيخ سلمان، العراف أو زقاق مسدود.

8) حكاية مجانين: مجموعة قصص (1972).
مجموعة قصصية فيها: الحاجان، الجدب والطوفان، فيفا، أيامي في جزيرة شاور، الورم، حكاية مجانين.

9) الحب الحزين: مجموعة قصص (1979).
مجموعة تتألف من أربع قصص.

10) فصول أبي البهاء: قصة (1986).

11) موت الحبيبة: قصص قصيرة وطويلة (1987).

12) مجهولة على الطريق: قصص قصيرة وطويلة (1997).

13) حب أول وحب أخير، سعاد وسعيد (2003).

الرواية
1) باسمة بين الدموع (1959).

2) رصيف العذراء السوداء (1960).

3) قلوب على الأسلاك (1974).

4) ألوان الحب الثلاثة (1975) بالاشتراك مع أنور قصيباتي.

5) أزاهير تشرين المدماة (1977).

6) المغمورون (1979).

7) أرض السِّيّاد (1998).

8) أجملهن (2001).

المقالة
1) أحاديث العشيات (1965).
مجموعة تتألف من تسع محاضرات منها: متمردان وزاهد، تاريخ دولة مجهولة، الأديب ماذا يكتب ولمن يكتب.

2) السيف والتابوت (1974).
مجموعة من المنوعات فيها: بين الداء والدواء، التجريد والتجسيد، الجد والأب والأب، رؤية في القمة، قصائد مهشمة، السيف والتابوت.

3) عيادة في الريف (1978).
مجموعة من المنوعات.

4) سبعون دقيقة حكايات (1978).
مجموعة تتألف من ست محاضرات منها: تجربتي في القصة، تجاربي في واحد وسبعين عاماً، سلفية العرب المعاصرين أو عرب اليوم والعودة إلى الينابيع.

5) في كل واد عصا (1984).
مجموعة من المقالات.

6) حفنة من الذكريات (1987).

7) جيل الدربكة (1990).
آراء في العلم والفكر والسياسة.

8) فلسطينيات عبد السلام العجيلي (1994).
منوعات (قصة، مقالات وشعر، محاضرات ومحاورات).

9) محطات من الحياة (1995).
مجموعة محاضرات.

10) ادفع بالتي هي أحسن (1997).
جولات في العلم والفكر والسياسة.

11) أحاديث الطبيب (1997).

12) خواطر مسافر (1997).

أدب الرحلات
1) حكايات من الرحلات (1954).

2) دعوة إلى السفر (1963).

3) حكايات طبية (1986).

الشعر
الليالي والنجوم (1951).
مجموعة شعرية.

المقامة
المقامات (1962).
مجموعة من المقامات حُرِّرَت بين عامي 1942 و1952.

حوارات
أشياء شخصية (1968).
وفيها أحد عشر حواراً منها: مذهبي في القصة، أزمة المثقفين العرب.

مراثي
وجوه الراحلين (1982).
مجموعة من المحاضرات التي أُلْقِيَت من 1955 – 1981، ج2 من 1984 – 1998.

المسرح
أبو العلاء المعري (1937).

منوعات
1) ضد التيار (2002).
أحاديث في الأدب والفن وفي الفكر والسياسة.

2) جيش الإنقاذ (2005).
صور منه – كلمات عنه.

3) ذكريات أيام السياسة (2007).

الأعمال المترجمة إلى لغات عالمية
(بين السبعينيات والثمانينيات)

1) قصة الشباك، هارب من الموت، الضفادع، التشيكية، 1974.
2) رصيف العذراء السوداء، الأرمنية، 1975.
3) قصة: حديث بلغتين، قصة: الحاجان، الروسية 1977.
4) المقامة الطبية الأولى، الإنكليزية، 1978.
5) قصة: حكاية مجانين، السلوفينية، 1979.
6) قصة: مصرع محمد بن أحمد حنطي، السويدية، 1980.
7) قصة: حكاية مجانين، الأرمنية، 1980.
8) قصة: مصرع محمد بن أحمد حنطي، الألمانية، 1982.
9) رواية: قلوب على الأسلاك، الفرنسية.

جوائز
1) الجائزة الأولى في مسابقة مجلة «الحديث» عن مسرحية «أبو العلاء المعري» (1937).

2) الجائزة الأولى لمسابقة إذاعة دمشق من إذاعة لندن، قصيدة «الجندي في ميدان القتال».

3) جائزة مسابقة القصة التي نظمتها مجلة الصباح في عام 1943، عن قصته «حفنة من دماء».

أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب
القصة والرواية
يشير بعض الدارسين إلى أن المدرسة الواقعية ظهرت في الكثير من أعماله، إلا أن هذا لا يعني أنه اللون الوحيد الذي تكلم فيه العجيلي، فالمصادفة والغرائبية كثيراً ما تلوح في أعماله القصصية وهي تذكرنا باللامعقول الذي نلمحه خصوصاً في أعمال غادة السمان، إلا أن اللامعقول عند العجيلي أخذ منحى يعبِّر عن حكمة عميقة من جهة، وعن وعي رؤيوي من جهة أخرى، فالمصادفة على سبيل المثال عند العجيلي تأخذ بُعْداً عميقاً يعبِّر عنه علم النفس اليونغي بمصطلح «التزامن» وهو حدث خارجي على توافق مع حدث داخلي، وبالتالي فهو يعبر عن حكمة عميقة (راجع قصة «انتقام محلول الكينا» في نهاية الدراسة).

وقد برع العجيلي في الرواية أسلوباً وتعبيراً، واستخدم عدة تقنيات، منها تقنية «الخطف خلفاً» كما في رواية «باسمة بين الدموع» وما يسميه الألمان «رواية البناء» كما في «قلوب على الأسلاك» وعنها كتب جان غولميه يقول: «هذه هي حبكة الرواية البسيطة التي تشد القارئ. أما الذي يجعلها بالنسبة لي مثيرة للاهتمام فكونها تقدم، وربما لأول مرة في الأدب العربي المعاصر، ما يسميه الألمان "رواية البناء" أي القصة التي يتتبع فيها القارئ "تشكل السجايا" أي ذلك الذي وُفِّقَ غوته إليه، مثلاً في روايته "سنوات تدريب ويلهلم ميسر" وستاندال في "الأحمر والأسود"، وفلوبير في "التربية العاطفية". إن القصة في كل واحدة من هذه الروايات الشهيرة تتركز حول الشخصية الرئيسة، التي تمضي، بالتجربة بعد التجربة، للوصول إلى العقل، العقل الذي لا يتفق دائماً مع السعادة، إنما مع الانقياد للوجود والقدر».

وبدوره، يعتبر البروفسور جاك بيرك أن رواية «قلوب على الأسلاك» جديرة بأن تُصَنَّف بين أقوى ما ظهر من نوعه في الأدب العربي المعاصر. ومع اختلافه الكبير، كما هو منتظر، عما أنتجه في نفس الجيل أمثال نجيب محفوظ، وجبرا ابراهيم جبرا، فهو يمثل مع ذلك النتاج أول قفزة للإبداع الروائي بعد أن أنضج المتقدمون الكبار، الذين هم الرواد في هذا الإبداع.

ويذكر جان غولميه رأيه في الأدب الروائي عند العجيلي فيقول: «غوته وستاندال وفلوبير أسماء أعلام في الأدب مشهورة، وعبد السلام العجيلي يستحق أن يشبه بأساتذة فن الرواية الكلاسيكي هؤلاء».

المقالة
أما المجال الآخر الذي كان للعجيلي فيه باع طويل فهو المقالة، وعنها يقول نبيل سليمان: «يلتبس غمر المقالات التي كتبها العجيلي في عشرات الصحف والمجلال طوال عشرات السنين، بالحكاية، والمحاضرة، والمذكرات، والمحاورة–المقابلة، والحديث، والرسالة، والخاطرة، والاعترافات».

أما أسلوبه فقد كان واحداً على تنوع المجالات التي كتب فيها، هذا الأسلوب في التعبير بلغة عربية وصفها النقاد بـ«الفخمة»، وكان العجيلي حريصاً على هذه اللغة كتابة ومحاضرات.

المقامة
وهو لون أدبي بات مجهولاً لدى الكثيرين، وقد برع فيه العجيلي. أما تعريفها كما يأتي في المعجم الأدبي فهو: «فن أدبي ظهر في القرن العاشر الميلادي، اُشْتُهِرَ به الهمذاني والحريري من القدامى والشيخان ناصيف اليازجي وابراهيم الأحدب من المحدَثين. ومن أصوله:
- الكلام على بطل واحد، وراوٍ واحد، يظهران في كل مجموعة من المقامات.

- التفلُّت من قيود الزمان والمكان في المقامات بحيث أن الأحداث التي تُنْسَب إلى البطل تتم في بلدان مختلفة يستحيل الانتقال إليها كلها، وفي أزمنة متفاوتة تفصل بينها مئات السنين.
- العناية القصوى، بتنخُّل المفردات، وصياغة العبارات، وتوخي السجع، وإرفاق النصوص بالشواهد الشعرية، والأمثال، والحِكَم».

برزت حبكة الأحداث في عدد من المقامات، لاسيما في مجموعة الهمذاني، إلى درجة أنها قَرُبَت في سياقها، وتسلسلها، وإثارتها من الأقصوصة.

وعن مقامات العجيلي كتب لويس يونغ: «استوفى العجيلي في مقاماته جميع المقاييس الكلاسيكية، فمقاماته ليست إحياء للشكل الأدبي القديم فحسب، بل حياكة في نول قديم، بخيط جديد.

تعتمد مقامات العجيلي في سخريتها على رسائل بيانية، تتدرج في المبالغة بالتصوير الكاريكاتوري والموقف الهزلي، إلى الكنايات والاستعارات من التراث الإسلامي. ففي المقامة الطبية الأولى، نجد أن العجيلي لقَّبَ الأستاذ في كلية الطب بجبرائيل ابن يختيشوع تيمناً بذلك الطبيب العربي النسطوري الشهير الذي كان طبيب هارون الرشيد، والذي جمع ثروة طائلة في ممارسته لهذه المهنة، وما فعل العجيلي ذلك إلا ليداعب بسخرية أستاذه في الكلية. أما المقامة الطبية الثانية، فإن الممتحنين لطلاب الطب في الجامعة أصبحوا يحملون أسماء الناكِر والمنكَر الملاكين اللذين يستجوبان الأموات، إن هذا الدفق من الصور الكاريكاتورية المضحكة في مقامات العجيلي غالباً ما يأخذ أشكالاً أخرى، كأن يقسم البروفسور في كلية الطب بالله، وبأبقراط، وكأن يقسم الحقوقي في المقامة الحقوقية، بكل ما في القانون من أوتار، وبقاض من الجنة وقاضيين من النار».

المسرح
يذكر وليد إخلاصي أن العجيلي كتب للمسرح أكثر من مرة، وقد قدَّم لمسارح الهواة في الرقة أعمالاً كوميدية أو ذات طابع بيئي (هكذا روي لنا من شهود عيان)، كما أنه كتب في شبابه الأول مسرحية صغيرة نشرتها في فصلين مجلة «الحديث» بعنوان «أبو العلاء المعري» في عام 1937.

«وفيها تم تقديم المعري الفيلسوف والشاعر كنموذج عربي للبطولة العقلية، وكأنما العجيلي في ذلك أراد أن يقول أن للكُتَّاب والمفكرين دورهم الحاسم في معارك النضال والوطنية».
كما يذكر إبراهيم الجرادي أن العجيلي كتب لفرقة الفنون الشعبية بالرقة عدة أعمال دون أن يعلن كعادته عن ذلك، منها «برج عليا» و«صيد الحباري» تدعيماً وتشجيعاً لحماسة شبابها وليس محاولة للإيغال في عالم المسرح ومنجزاته.

الشعر
في دراسة جميلة للشاعر شوقي بغدادي يشير إلى أن انصراف العجيلي إلى القصة تاركاً الشعر، ليس إلا انصرافاً عن تعرية نفسه للآخرين من خلال الشعر الذي كتبه في مجموعته الوحيدة «الليالي والنجوم» عام 1951 إلى تعرية الآخرين، وذلك ضمن إطار جنس أدبي آخر هو القصة.

ويذكر ما كتبه العجيلي في مقدمته لمجموعته الشعرية: «لا يعجب القارئ حين يرى قصائد "الليالي والنجوم" ما كان منها غزلاً، أو كان منها شعراً غنائياً، أو ذكريات وطنية تستمد معانيها من ذلك العالم الواسع الأبعاد، المحدود العناصر، فإنما نحن أبناء بيئتنا الأولى، وليست بيئة "الليالي والنجوم" إلا زاوية من الأرض قامت فيها بلدة كأنها قرية – ويعني "الرقة" الواقعة في شمالي شرقي سوريا – على شاطئ نهر عريض – ويقصد الفرات – وعلى سيف بادية بعيدة الآفاق – ويقصد بادية الشام – أجمل مواسمها ليلة تصحو السماء، وتزهر النجوم، ويملأ نور البدر التلال والبقاع».

كما يذكر الشاعر شوقي بغدادي: «أسلوب التناول الغالب على القصائد هو أسلوب المناجاة أو المونولوج الداخلي، فمعظم القصائد تبدأ بنداء مثل: يا بدر.. يا غيمة.. أذني تملّي.. أو مونولوج "الخميلة العطشى" وهو إرهاصها بالتحول الذي سوف يقوى ويتأصل أكثر فأكثر فيما بعد من خلال ظاهرة الغوص على العوالم الداخلية للشاعر بدلاً من الوصف الخارجي أو الخطابي المباشر».

ومن قصيدة «ليلة غائمة» يذكر هذه الأبيات:

أيا نجمةً في صفحة الأفق وحـدَها تبثُّ أسـاها للـغيوم ووجدَها
سهرتُ على وعدٍ سرابٍ من المنى فهل تسهرين الليل ترجين وعدَها
أريقي السـنا يا أختُ علَّ شعاعةٌ تطوف بمثواهـا، فتمسـح خدَّها
وتشـكو لـها طول الليالي وهمَّنا ووحشـتَنا في ظلمةِ الليل بعدها

عالمية العجيلي
تألق العجيلي أكثر ما تألق في القصة والرواية، واُعْتُبِر أحد أعلامهما في سورية والعالم العربي، إلا أنه من الصعوبة بمكان حصره في دائرة القومية، لأن العجيلي تعدَّى هذه الدائرة نحو دائرة العالمية ليصبح ندّاً لأدباء عالميين آخرين عرفهم الغرب، ولعل عالمية أدبه تظهر من خلال الترجمات للعديد من أعماله للغات مختلفة، وعامل الرؤيا أو الوعي الرؤيوي في الكثير من أعماله، وكذلك رحلاته التي قام بها فتواصل مع العالم الغربي وأبدع في أدب الرحلات، هذا الأخير الذي عكس عالمية العجيلي.

مظاهر من التجليات الإبداعية عند العجيلي
الأنيما والأنيموس في أدب العجيلي
الأنيما باللاتينية تعني النفَس الحي، أو الحيوي، ومنها أتت كلمة «animer» أي إعطاء الحياة أو الحركة، وفي اليونانية تعني الروح، أما مذكّرها فهو الأنيموس، ويعني الريح، وفي الحقيقة هما مصطلحان اتخذهما الدكتور يونغ ليعبِّر من خلال الأنيما عن الجانب المؤنث من الرجل، ومن خلال الأنيموس عن الجانب المذكر من المرأة.

ولتوضيح الأمر على مستوى تأخذ فيه الأنيما صورة الروح العميقة، هذه الصورة البهية التي تمثلها قصة الأميرة النائمة التي تنتظر الأمير (أي الأنيموس) ليوقظها، هذا الأمير الذي قد يكون ضفدعاً أو وحشاً ويتحول إلى أمير شاب، إنه بعبارة أخرى الأنيموس أو الذكر–المادة، الذي يحن ويتوق للروح–الأنثى، لعناقها والوصال معها، وفي هذه الصيرورة، يطرأ تحول على الذكر–المادة الذي ينطلق من الغريزة (أي الوحش أو الضفدع)، ليصير إنساناً يتمثل من خلال الأنيموس الذي يتوق للاتحاد بالروح–الأنثى، المتمثلة من خلال الأنيما.

ربما تبدو معاني الأنيما والأنيموس هنا مرتبطة بكل من المبدأ المؤنث والمبدأ المذكر، في حين أن الدكتور يونغ عنى بالتحديد ما هو نموذج المرأة في الرجل، ونموذج الرجل في المرأة، وهذا ما سنراه على نحوٍ متواتر في أدب العجيلي.

«نموذج المرأة»
بالنسبة إلى فرويد فإن «نموذج المرأة» الذي يحمله كل رجل في لاشعوره، والذي يمثل على مستوى ما شبقي، قد يكون ذكرى الأم التي «انطبعت» باكراً في عقله الباطن.

وفي الواقع إن ذكرى الأم هذه إذا ما تركت مركَّباً أوديبياً، فإنها تولِّد نموذجاً شبقياً للمرأة خالصاً، يسعى إليه الرجل في لاشعوره، ويعجز أن يقيم علاقات عاطفية مع المرأة لأنها تمثل في لاشعوره «الأم المحرَّمَة». وفي سياق تطور دراماتيكي فالمرأة أخيراً، تمثل مدى تطور علاقة الرجل مع نفسه، وهنا أيضاً يساعدنا الدكتور يونغ في الإشارة إلى مراحل في نمو الأنيما، المرحلة الأولى ونعثر فيها على النموذج الشبقي للمرأة، والمرحلة الثانية ويمكن العثورعليها فيما نتعارف عليه بالحب العذري أو ما اشتُهِر في أوروبا في القرن الثاني عشر باسم حب التروبادور، وهنا الأنيما تجسد المستوى الرومانسي والجمالي، لكنها مع ذلك، تظل متسمة ببعض العناصر الجنسية. أما المرحلة الثالثة وتمثلها مريم العذراء مثلاً، أي الشخصية التي ترفع الحب (الجنس) إلى ذرى التكريس الروحي.

وقد وصلنا إلى هذه النقطة، نستطيع ربما متابعة نموذج الأنيما والأنيموس في أعمال العجيلي. ونبدأ برواية «باسمة بين الدموع».

رواية «باسمة بين الدموع»
يذكر د.شاهر امرير أن العجيلي يستخدم مدخلاً لروايته، إحدى تقنيات الرواية الحديثة، وهي "الخطف خلفاً"، فتبدأ الرواية بالانطلاق من موقف مثير، وهو سقوط سيارة سليمان، وهو يقودها في طريق العودة من بيروت إلى دمشق، بعد التدحرج من قمة ظهر البيدر إلى المنحدرات المطلة على سهل البقاع.

ويلخص د.شاهر امرير الرواية على النحو التالي: «قسم العجيلي الرواية إلى مدخل، وستة فصول، ووضع عنواناً لكل منها، ففي المدخل الذي اختار له الروائي "الطريق الزلقة" عنواناً، يسرد موضوع سقوط سيارة سليمان العطا الله، ومحاولته إلقاء نفسه، والقفز من السيارة أثناء نزولها، فأدارت عموده الفقري على محوره والتوى».

أُسعِفَ إلى فندق شتورا حيث أحاطته سيدة جميلة برعايتها طيلة ثلاث ساعات، وفي طريق عودته بين شتورا ودمشق، فطن سليمان إلى باسمة التي مضت ستة شهور على آخر لقاء بها، وهي التي عرفها منذ ثلاثة أعوام أو ما يقاربها، وهذه الفترة هي السياج الزمني للرواية، فيطلبها على الهاتف باسم "ناتاشا"، ويتواعدان أمام دار السفارة، فيذهب إلى طريق أبي رمانة، حي السفارات لينتظرها أمام دار السفارة التي يعرفها. كانت ممددة في السرير إلى جانبه، تتحسس أصابعه شفتيها اللتين طالما أطبقتا عليه في قبلات طويلة وكثيرة، محمومة أو مستثيرة أو مرتوية، وهو يحسد من يلقاها في طريقه صباحاً. ثم تسأله لماذا لا يتزوج من أختها هيام فيتهرَّب أو يتخلص من الإجابة مدَّعِياً، بأنه رجل مقصوم الظهر متوتر الأعصاب، لم يبق بينه وبين الموت إلا تلك الصخرة التي أوقفت سقوط سيارته على المنحدرات.

وباسمة تلخِّص ما آل إليه وضع سليمان، وتسأله إن كان يعرف الحب، وعن علاقته بزوجة صديقه عبد الحليم التي يتعشقها روحياً، ويتعلَّق بها تعلقاً أفلاطونياً، ويرتبط بسعاد الراقصة جسدياً، وسليمان في هذه المرحلة من حياته ضائع في السياسة، تابع في المحاماة، وترى باسمة فيه إنساناً غريباً.

ثم يسرد العجيلي كيف تعرف سليمان العطا الله على باسمة وهيام في الفصل الأول تحت عنوان «عينان واسعتان وجديلتان».

في بداية الفصل الثاني الذي يحمل عنوان «في الحي القديم»، يقدم العجيلي وصفاً لدمشق الخمسينيات، والحياة السياسية التي دفعت سليمان بطل الرواية المحامي إلى العاصمة. وفي هذا الفصل يروي لقاءه بهيام في مكتبه، مصادفة، ومحاورتهما حول مفهوم الأدب، وبعد اتصال هاتفي يلتقي مع أختها باسمة وتخبره بأنها امرأة متزوجة ومطلقة.

في الفصل الثالث يسافر سليمان وباسمة إلى بيروت، وعلى الرغم من عزوفها عن الالتحام جسدياً بسليمان لإيثارها أختها هيام، إلا أن هذا لم يمنع من نشوء علاقة جنسية بينهما.
في الفصل الرابع يتبادلان الرسائل.

الفصل الخامس «دموع باسمة»، وفيه نرى باسمة وقد أصبحت جسداً أنثوياً مغرياً، جماله فتنة ثائرة وجاذبيته شهوة عارمة، إنها تلقي جسدها بين يديه، مستسلمة لفحولته استسلاماً كاملاً، أما أختها هيام الطالبة الجامعية، فتدعو سليمان والدكتور الياس إلى ندوة في الجامعة حيث يبدي الطلاب إعجابهم بسليمان..!!

يذهب سليمان إلى الشقة حيث يجد باسمة غافية، وحين تستيقظ تهم بخلع ثيابها، مبتدئة بطوق حول عنقها، لكن سليمان لا يشجعها متذرعاً بتأخر الوقت، فتسأله: سليمان هل شبعت مني؟ لكنها لا تلبث أن تخرج ناسية طوقها، وفي اليوم التالي حين تأتي هيام إلى شقة سليمان مع زميلتين، ومع تطور الأحداث، ترى طوق أختها باسمة في غرفة نوم سليمان..!!

وأثناء الصراع الداخلي الذي عاشه سليمان على أثر اكتشاف هيام لعلاقته مع أختها باسمة -فهو يحُنّ إلى باسمة ويشتهيها، ولكنه غير واثق من أنه يحبها، وهيام قد أخذت تمتلك عليه أفكاره، وتستأثر بمشاعره- ولا تلبث باسمة أن ترسِل له رسالة: هذا سيفك وقد جلَوْته لك فاقتلني به فالموت أجمل هدايا الحب.

في الفصل السادس «بقية الدموع»، يعود العجيلي إلى البداية عندما عاد سليمان من بيروت ووقع له الحادث المريع، فلقد علم تفاهة حياته، وإصراره على أن يعيشها بالرغم من ذلك، ونفسه لم تستطع أن تطابق بين مُثُلِهَا وتصرفاتها، إن قلبه ليكاد ينفطر لإدخاله الغم على قلب هيام بسبب اكتشافها علاقته بأختها.

يغادر إلى بيروت، يسهر في حانة في كهف تحت الأرض، فيفضي بهمومه لراقصة نمساوية، فهو نادم على أنه أيقظ شيطان الجنس في جسد باسمة، فحوَّلَها من فتاة تملؤها متع الفكر والروح إلى أنثى تجد في فحولة عاشقها أعلى مزاياه.

يقع لسليمان حادث السقوط لدى عودته إلى دمشق، يراجع الدكتور الياس بشأن آلام ظهره، ويعلل مواصلة سليمان السفر بعد الحادث، عازياً ذلك لوجود المرأة التي احتفت به في فندق شتورا. وبعد قيامه بالعملية أصبحت مشيته غريبة مما أدى إلى نفور سعاد زوجة عبد الحليم منه، وأدرك في المستشفى أن ما كان يراه امتيازاً من تحرر من مسؤولية الزوج هو ما ينقصه، فرجل لا يتعلق بولد، هو أبتر مقطوع الصلة بالإنسانية، كما أخذ يسأل نفسه: «لماذا لم يتزوج حتى الآن، ويتساءل قلقاً، هل يتاح له أن يتزوج بعد الآن؟».

تزوره باسمة، وتصرِّح له بأن هيام تحبه، ويصرح لها بأنه أصبح يؤمن بالحب حقاً، بعد أن كان يعتقد أن الحب أخذ واستلاب، وتطلب منه أن يتزوج من هيام وتعِدُه بحل معضلة الطوق، ويغادر المستشفى إلى شقته.

دسَّت له باسمة رسالة من تحت الباب تُعْلِمُه بسفرها إلى بلد عربي على بحر العرب، يذهب إلى المطار لكنه يخفق في اللحاق بها حيث يجد هيام التي تقدمت إليه مفتوحة الذراعين.
مرت الطائرة في تلك اللحظة أمام موقف المودعين في مطار المزة، كان رأس فتاة ملصقاً بزجاج النافذة، رأس تلفه ضفيرة كإكليل، وفي عينيها الواسعتين الطويلتي الأهداب، دمعتان عالقتان، هما بقية دموع باسمة».

«نموذج المرأة» في رواية «باسمة بين الدموع»
لقد مثلت كل من «باسمة» و«هيام» نموذجين للمرأة.. وكانت هيام نموذج المرأة الأكثر قرباً من أنيما النفس. في حين كانت باسمة أكثر قرباً للنموذج الشبقي للمرأة، أو إن صحَّ القول أنيما الجسد، هذا النموذج الذي يجد فيه الرجل مسرحاً لنزواته. وتراوح سليمان بين النموذجين إلى أن اهتدى للنموذج الأكثر رقياً، وعرف من خلاله معنى الحب، لا بل ساق من خلاله أيضاً مفهوماً أرقى للزواج، يصلح لأن يكون بحثاً سيكولوجياً واجتماعياً.

لاشك أنه ثمة علاقة جدلية بين النموذجين في لاشعور الرجل، «النموذج الشبقي» ونموذج «الأنيما»، هذه العلاقة الجدلية في الرواية تلوح من كون كلا الفتاتين اللتين تحبان سليمان عطا الله هما أختان، ولم يكن ممكناً لولا تضحية «النموذج الشبقي» أن يتحقق اكتشاف «الأنيما» والوصال معها‍‍‍‍!!.

لقد وُفِّقَ العجيلي في اختيار اسميهما، فالأولى باسمة بين الدموع، وهي ذلك النموذج الذي سمح لنفسه التمرُّغ في حمأة الشهوة، وهذا ما جعلها وردة بين أشواك، أو باسمة بين الدموع، وما سفرها إلا إعلان لبداية علاقة جديدة، وأفق جديد، يفتح فسحة أو فضاء للنمو والحياة، ولعل اسم هيام في حد ذاته قريب للأنيما، فالنفس هي التي تهيم لا الجسد، وبالتالي أقرب لمعاني الحب والسمو. أما العلاقة الجدلية بين النموذجين، فلعلّي لا أبالغ إذا ما قلت أنهما في الحقيقة واحد!!.

وما الحادث الذي جرى لسليمان العطا الله بطل الرواية على طريق شتورا ودمشق، إلا مناسبة للتحول الذي طرأ عليه، ودفعه بالتالي إلى تغيير رؤيته، فرأى هيام واكتشفها وأحبها في حين كان أسير عدة نساء منهن سعاد الراقصة أو سعاد زوجة صديقه أو الراقصة النمساوية، وكلهن اجتمعن في نموذج «باسمة»، وهذا كله ليس إلا تعبيراً صارخاً عن نموذج عتيق للمرأة في لاشعوره!!.

وليس بوسعنا أن نحكم على نموذج وندينه، في حين نمجِّد نموذجاً ونرفعه.

فثمة علاقة جدلية ووحدة في النموذجين، والعلاقة هي التي تتطور صاعدة من نموذج إلى آخر، ومن هنا نرى كيف أن باسمة كانت تمهِّد وتهيئ الطريق لهيام، وبالتالي فإن باسمة أيضاً عرفت الحب من خلال التضحية، ودفعت بسليمان لاكتشاف ما هو أبعد منها، وتوارت بين الدموع!!.

«المرأة»
المرأة هي دائماً مع الرجل، وأمامه، وحوله، وهي في داخله أيضاً، لكن إذا استطاع أن يتصل بها على نحو إيجابي وينفتح لكيانها الحي، فهي بدورها تمنحه ذاتها بسخاء وحب. قد تريد شيئاً ما منه، قد ينتظر شيئاً ما، هو لم يحصل عليه حتى الآن، وقد لا يحصل عليه البته، لكن هذا لا يعني اليأس بل الأمل دافع الحياة الأصيل. وهكذا، فالمرأة التي تسكن جسد الرجل ونفسه وروحه هي معلِّمته الأولى في الحياة، وهي مبدأ الحكمة، وهي مرشدته ودليله نحو منابع الحياة وكنوزها.

هذه المرأة هي مبدأ الحساسية عند الرجل، وقد تكون أساس العصاب النفسي أيضاً‍‍!!.
إنها دراما، أنشودة، وقَدَرُ الرجل المحفوف بالمخاطر، والصعاب، وحب المغامرة، واكتشاف المجهول!!.

هذه المرأة تسكن عميقاً، في وجدان الرجل، وجدان كل رجل، لها طرقها، لها أساليبها، وهي تتجلى في النساء كلهن، وما موقفهن أو موقف كل واحدة منهن إلا انعكاس لهذا النموذج الحي القابع في لاشعوره، «المرأة النموذج» الكائن في أعماق هذا الرجل الذي يلتقي به في مكان ما!!.

ولعل فهم علاقة الداخل بالخارج تلوح بادئ ذي بدء من خلال قصة آدم وحواء، وهي قصة الإنسان، كل إنسان، لأن الإنسان رجل وامرأة معاً، وما على الإنسان «آدم» إلا أن يكتشف دائماً، ودائماً، حواء في داخله تقطف التفاحة، وتدعوه أيضاً إلى الغواية، إلى القدر المعتم، الضبابي، قدر الخطيئة أو العصيان أو الرغبة!!.

إن «آدم» عاجز عن قطف التفاحة، عاجز حتى عن العصيان، إنه بحاجة إلى قوة في داخله، هذه القوة كانت حواء. حواء حلم آدم الأزلي، إلا أن حواء فعّلت لما تتمتع به من قدرة، رغبة آدم السرية، العصيان، والرغبة. استجابت ومنحت آدم القدرة على تحقيق حلم لطالما قد راوده بعد أن خرج من يدي البارئ العظيم. إلا أنه حلم مرير وقاس، وقد جلب غضبة الإله، وهكذا خرج آدم وحواء من تلك الجنة، من ذلك الفردوس، وبدآ مشواراً آخر، في لعبة بين ظلال الموت والحياة.
وتركا ذرية تخبط خبط عشواء في خضمّ الوجود على عتبات الكون، تئنّ بين جراح الخطيئة، وحطام الأمل!!.

إذن، هذه المرأة في داخل الرجل، ما برحت تتجلى في الصبايا المراهقات، والشابات، والعازبات، والمتزوجات، والمغويات، وهي تخاطب الرجل من خلالهن جميعاً، وهي تقود دائماً امرأة ما لتلقن الرجل درساً أو حكمة. وحين تشتد الحاجة إليها، قد تُحْتَجَب لفترة ما أو ربما فترة طويلة، ربما ليفهم الرجل أكثر ما يريده منها، أو فيما إذا كان الجسد ما يريده منها، ربما لتكشف له عن جسدها في الكون والطبيعة، جسداً أعظم وأبهى، هو مدعو للوصال معه في نشوة روحية!!.

وقد وصلنا إلى هذا الحد، يمكن أن ننتقل إلى قصة «رصيف العذراء السوداء»، وفيها يشير طرابيشي إلى أطوار ثلاثة للرجل، الطور الأول، وهو البطل المكبوت جنسياً، والذي يطلب المرأة، أية امرأة، ومطلق امرأة. والطور الثاني، وهو البطل الذي ولج «طور الاختيار والتذوق»، وهذا يتميز في القصة بأن البطل ممتلئ الجيب أو يعيش في الحاضرة الغربية. والطور الثالث، وهو طور الشبع من المرأة، ربما إلى حد الملل، فهو لا يطلب المزيد من الطعام بقدر ما يتطلع إلى تنويعه وتتبيله بالبهارات الحارة القمينة بأن ترد إليه شهيته وبأن تجددها. إلا أن الطور الثاني أو الثالث الذي يشير إليهما طرابيشي لا نعتقد أنه بالضرورة يكون شبعاً جنسياً، فكما ذكرنا أن هذه الأطوار تعكس تطور علاقة الرجل مع نفسه وبالتالي مع نموذج المرأة الذي يحمله في لاشعوره!!.

قصة «رصيف العذراء السوداء»

يذكر طرابيشي: «إن بطل "رصيف العذراء السوداء" عباس، طالب مقيم في باريس. ولكونه غنياً ومترفاً "تنقل في الدراسة من الهندسة إلى طب الأسنان إلى الحقوق وفشل في كل منها". والواقع أن الحياة الصاخبة، اللاهية، المترفة، التي يعيشها في باريس منذ أكثر من أعوام ثلاثة، إن لم تكن حياة شباب فليست حياة طلاب».

يروي لنا طرابيشي: «ما كانت ماريا لينا، التي تسرد "رصيف العذراء السوداء" قصة علاقته بها، إلا نوعاً جديداً ونادراً للغاية من البهارات كان له على شهيته – أو شهوته – مفعول السحر».
ولما كان عباس لا يضع الخطط للإيقاع بماريا لينا، لأنه تجاوز كما ذكرنا الطور الثاني، ودخل في طور الشبع والشعور بالاكتظاظ. ولهذا بدلاً من أن يحاول أن يهدي ماريا لينا إلى طريقه، طريق الجسد والملاذ الجسدية، فإنه سيقبل طائعاً مختاراً أن يمضي في طريق ماريا لينا، لا ليكتشف الروح والملاذ الروحية، بل لتكون هذه الأخيرة بمثابة توابل جديدة للطبق اليومي الذي عافته نفسه أو كادت.

ماذا كان يجمع بين عباس وماريا لينا؟ هو الطالب العراقي المترف «المتنقل من كلية إلى أخرى، ومن أحضان فتاة إلى أحضان أخرى في مقاهي الحي اللاتيني ومرابعه»، وهي «السويدية الواسعة المعرفة بثقافات العالم ومشاكل الإنسانية، والمتدينة المتعلقة تعلقاً غريباً بطقوس مذهبها الكاثوليكي الجديد (فقد كانت بروتستانتية ثم تدينت بالكاثوليكية عن قناعة وايمان؟)، أجل، ماذا كان يجمع بين عباس وماريا لينا؟ تنافرهما، تناقضهما، تضادهما، وليس كالضد انجذاباً إلى الضد، وليس كالنقيض توقاً إلى الدوران في فلك النقيض.

كان كل منهما يعيش في جو وبعقلية وطباع تختلف عن جو الآخر وعقليته وطباعه.

فبقدر ما كانت حياة ماريا لينا حياة روحية عقلية أو فنية سامية، كانت حياة عباس لاهية صاخبة في صحبة فتيات الحي اللاتيني المتحللات من كل قيد، وشبابه اللامبالين.

ولكن لئن يكن عباس قد حمل في البداية أحاديث ماريا لينا عن السعادة الروحية، ومطالبتها إياه أن يسير معها بروحه بعض سيره مع صاحباته بجسده على محمل الدعابة، فإنه في الحق «كان يصغي إليها أكثر فأكثر يوماً بعد يوم»، إلى درجة تطورت معها مجالسه وإياها إلى زيارات، بل إلى حجات إلى «عوالم لم يضع فيها عباس قدمه منذ وطئت قدمه باريس» وعلى الأخص الكنائس منها، «كنائس باريس الكثيرة، ولاسيما الصغيرة منها والغريبة».

وبصحبتها زار كنيسة للبندكتيين في باسي (الحي الأرستقراطي في الضفة اليمنى من باريس)، واستمع فيها إلى «تراتيل شجية على موسيقى عذبة تنقي النفس من أدرانها»، وخرج منها «بمتعة روحية ما كان أبعدها عنه في باريس، وفي طراز الحياة التي يحياها». وقد ذكرته تراتيل الرهبان وهم مصطفون حول المذبح ببرانسهم البيض الناصعة، بـ«أدعية حزب الموت وأوراده في حلقة من حلقات النقشبنديين، كان في صغره يرافق والده إليها بعد عشاء كل يوم اثنين في المسجد الصغير في حارة أهله في بغداد». وقد كان في كل ما سمعه وتأثر به صادقاً إلى حد «اغرورقت عيناه بالدمع».

وهكذا يبدو عباس في قصة العجيلي صادق النية، لا يتصرف وفق تخطيط مسبق، ولا يصدر في طوافه مع ماريا لينا بمعالم باريس الروحية عن موقف تقني صرف. وبكلمة واحدة، إنه ليس صياداً، وما كان ليتصور قط أن ماريا لينا يمكن أن تتحول ذات يوم إلى طريدة. وإذا ما حدث، مع ذلك، هذا التحول، أو هذا الإمساخ، فإنما من قبيل المصادفة وحدها أو بالأحرى كأنما من قبيل المصادفة وحدها.

وتلك هي مفاجأة عبد السلام العجيلي «الشرقية» لنا. مفاجأة لا على صعيد أبطال القصة، وإنما على صعيد تصميمها بالذات.

فماريا لينا، التي قامت بدور الدليل لعباس إلى معالم باريس الروحية، تطالبه بعد زيارة كنيسة الرهبان البندكتيين بأن يرد إليها بعض جميلها وأن يقابلها بالمثل مرة واحدة على الأقل، فيكون دليلها إلى «سهرة في جو شرقي».

وهذا له معنى سام في الحقيقة أراد أن يكشفه لنا العجيلي كما سنرى بعد قليل، لكن طرابيشي يتابع قائلاً: «الأنوثة في المرأة كالبركان الفائر أبداً، فما أن يجد شقاً في القشرة حتى يندفع منها بكل ثورانه الملجوم وحممه المكبوتةۛ».

ماريا لينا، التي تصورها لنا القصة على أنها لم تتمالك نفسها عن مرافقته إلى غرفته في الفندق بعد السهرة في الملهى الشرقي، تنقطع عنه وتختفي من حياته.

«تمنى عباس لو أنه استطاع لقاءها مرة واحدة، إذن لما حاول أبداً أن يلقاها بكبرياء رجل تملك أنثى، ولا بكبرياء ضالّ سفّه مقدسات مؤمن في مناظرة مشهودة».

الأنيما والأنيموس في قصة «رصيف العذراء السوداء»

لاشك أن سقوط ماريا لينا ناجم عن عدم فهم صوفية الحياة الدينية، وأن الجسد هو ذلك الرحم الذي تختمر فيه هذه الحياة وتنضج لتولد من جديد!!. إن عدم النضج هذا يظهر بموقف تجاهل للجسد، وهنا يصح ما قاله باسكال المتصوف الرياضي: «الإنسان ليس بالملاك ولا بالحيوان، لكنه إذا شاء أن يتصرف كملاك، ينتهي ليتصرف كحيوان».

والحقيقة أن تجربة عباس معها لها دلالات عميقة وواسعة، فهي قد تكون تمظهراً للأنيموس لدى ماريا لينا، إنما عدم وعي الأنيموس جعلها تخضع له بشراسة الغريزة وعنفوانها!!.

وبالتالي، فإن هرب ماريا لينا هو مزدوج، هو هرب من نفسها، فهي لم تدرك أن مفتاح كمالها الروحي ومعرفتها لنفسها كامن في يد «عباس»!!.

ومن جهة أخرى، فإن هربها هو اختفاؤها من الأفق الروحي لـ«عباس»!!.

وبمعنى آخر، قد تأخذ دلالة علاقة الشرق بالغرب من منظور الذكورة والأنوثة كما أشار طرابيشي، والحال أيضاً علاقة الروح بالجسد وما تشهده من انفصام في الوقت الحاضر!!.

نعود للمظهر الثاني من هرب ماريا لينا، والذي عنى اختفاءها من الأفق الروحي لعباس، ذلك أن عباس نفسه أثبت حبه لماريا لينا!!.

وفي حين أن ماريا لينا كانت أنيما عباس التي تقوده في المعالم الروحية لباريس، وما هي إلا رمز لما تكشفه الأنيما من عوالم صوفية رحبة، لدرجة اغرورقت عيناه بالدمع. إلا أن عباس لم يكن مستعداً بعد لتجربة حقيقية مع الأنيما، فما كان اختفاؤها من أفق حياته إلا تعبيراً لوضع الإنسان الحالي!!.

في حين أن عباس كان في الحقيقة أنيموس ماريا لينا، وهذا الأخير كان يقودها نحو معالم الغريزة الفجَّة، وبنفس الوقت نحو الينابيع الثرَّة للحياة الخصيبة، فيما لو فطنت في سياق وعي «الأنيموس» ووعي «الجسد» في تطورٍ، وتحول روحي عميق يستنبط معالم اللاوعي الثرَّة!!.
لكن، للأسف ماريا لينا هربت، وبالتالي هربت من مواجهة نفسها!!.

المظهر الآخر للأنيما
يجدر بنا الآن، مع وصولنا إلى هذه المرحلة من التحليل، أن نذكر أن للأنيما جانباً إيجابياً وآخر سلبياً، ويعلل هذا أحد دارسي يونغ، فيقول: «وكقاعدة، فإن الأم هي التي تصوغ قوام الأنيما لدى الرجل بصورتها الفردية. فإذا شعر أن أمه كانت ذات تأثير سلبي فيه، غالباً ما تعبر أنيماه عن ذاتها بحالات مزاجية مكتئبة سريعة الغضب، وبالتردد وانعدام الشعور بالأمان وفرط الحساسية.

ومن جهة أخرى، إذا كانت تجربة الرجل فيما يتعلق بأمه إيجابية، أمكن لهذه التجربة أيضاً أن تؤثر في أنيماه بطرق نموذجية لكن مختلفة، وينتج عن ذلك أنه إما أن تطغى عليه الصفة الأنثوية، أو يصبح فريسة للنساء، وبذلك يكون عاجزاً عن التغلب على صعوبات الحياة.

على أن الظهور الأكثر براعة للأنيما السلبية نراه في بعض الحكايا الخرافية بهيئة أميرة تطلب إلى خطَّابِها أن يحلّوا لها سلسلة من الأحاجي والألغاز، أو ربما، يختبئون في أنفها. فإذا أخفقوا في تقديم الحلول، أو تمكنت من اكتشافهم بعد اختبائهم، يكون مصيرهم الموت، وهي تنتصر باستمرار. إن الأنيما التي تتخذ هذا الستار تورط الرجال برهانات مدمرة».

وبعبارة أخرى ربما أصبح بمقدورنا القول أن الوجه السلبي من الأنيما ليس إلا علاقة وموقفاً سلبياً يتخذه المرء تجاه أنيماه الحقيقية!!.

عند هذه النقطة، نستطيع أن ندلف إلى دراسة جميلة للأستاذ يوسف سامي اليوسف، يستعرض فيها التجربة السلبية مع الأنيما، أي الجانب السلبي منها.

قصة «قناديل إشبيلية»

تدور القصة حول شخصية رئيسية «السيدو» التقى به الراوية في مقهى من مقاهي إشبيلية، و«السيدو» يترك سراً عميقاً بانسحابه عند كلمة «مانيانا» الإسبانية، وتعني «غداً»، هذه الكلمة التي تهمسها في أذنه المرأة التي التقاها في الدار التي يبحث عنها.

رحلة «السيدو» من مكناس في المغرب، إلى إشبيلية، جاءت بحثاً عن دار أجداده التي خلفها القوم يوم رحيلهم عن الأندلس، والتي بنوا في مكناس داراً تماثلها تمام التماثل. وفي القاعة الكبرى للدار التي في مكناس علق أجداده منذ خمسة قرون مفتاحاً يسمونه مفتاح العادة. وفي إشبيلية يسير «السيدو»، إلى الدار دون أي عناء، بل ودون أن يسأل أحداً. فما من أحد قد دله، ولكنه قد اهتدى بقوة الحب الحقيقي، قوة التوق إلى الأسرار.

باب هذه الدار يُفتَح تلقائياً في وجه "السيدو"، ويدخل إلى قاعة هي تماماً كالقاعة التي خلفها في مكناس، ولا ينقصها شيء سوى مفتاح العادة المعلق في تلك القاعة الغائبة. ولكن ما عاد له أي لزوم طالما أن الأبواب تُفتَح من تلقاء ذاتها. ويتخيل «السيدو» أن وراء هذه القاعة ينبغي أن يكون هنالك بستان، وذلك اشتقاقاً من حال الدار التي خلفها هذا الرجل وراءه في مكناس. وبالفعل يجد بستاناً ليواجه امرأة تقترب منه لتهمس في أذنه كلمة «مانيانا» أو الغد، وهنا ينسحب «السيدو» من إطار القصة لكي لا يعود إليه البته.

وكذلك يشير الأستاذ يوسف سامي اليوسف إلى أن الساحرة في قصة «بنت الساحرة» في مجموعة تحمل الاسم نفسه، هي نوع من الأنيما الشريرة التي يتعذر النجاة من شبكتها.

فحين ترجوها ابنتها أن ترد إلى البطل نظره تسألها أمها هذا السؤال:

- أتفرين معه بعد الآن؟

فتجيب البنت:

- ردي نظره، أين أفر منك؟

إنها في قبضة الأنيما التي تنتزعها من عشيقها بقوة السحر، والتي ترغمها على الزواج بخليل ابن خالتها الأعرج، والذي لا تكنّ له أي حب.

إذن، ينتهي الأستاذ اليوسف من خلال دراسته إلى النتيجة التالية: «يمكن القول بأن برهة الأنيما ليست أكثر من آن واحد بين آناء الحق في أدب العجيلي. أكثر من هذا أراني أخوِّل نفسي حق الذهاب إلى أن مقولة الأنيما ليست سوى عَرَض في قصص العجيلي. فمع أن في الميسور أن يقال بأن الساحرة وابنتها ليستا سوى الوجهين المتعارضين للأنيما، الوجه الإيجابي والوجه السلبي، والوجه المضاء والوجه المظلم، مع ذلك يبقى هنالك آن سري يرفض التفسير ويتأبّى على اللغة.

وعلى الرغم، من أنه من الممكن القول بأن "السيدو" بطل "قناديل إشبيلية"، مشروخ، أو مفصوم بواحد من الأنماط العليا، وحصراً بنمط الأنيما، ونستقرئ ذلك من أنه جَنَّ بامرأة تُدْعَى هياسنتا، فراح يسمي كل امرأة هياسنتا، ومن أنه خادم الراقصة كوتشينا، على الرغم من أنه أستاذ كبير في التاريخ، أقول مع أن ذلك مذهب ممكن، فإنه لا يعني كثيراً، إذ لابد لقارئ القصة من شعور بأنه مرشوق على تخوم سر يصعب استباره، ومشلوخ تماماً عند أطراف عالم طلسمي لا يملك العقل أن يخوض فيه».

رواية «قلوب على الأسلاك»

إنها قصة الشاعر الشاب طارق بطل القصة، الذي أتى على الأغلب من الرقة (مدينة العجيلي) إلى دمشق، حيث مؤسسة عمه الثري الكبير والمقاول العظيم «عبد المجيد بك عمران» لكي يعمل في مؤسسته، وعمر بطلنا لم يتجاوز الرابعة والعشرين، أما المشروع الذي تطمح له المؤسسة فهو إنجاز قطار معلَّق (تليفريك) يصل مركز المدينة، بجبل قاسيون، وهذا المشروع بدأت فكرته ترى النور مع قيام الاتحاد بين سورية ومصر. وفي هذه المؤسسة التي ينضم إليها بطلنا، يطالعنا العجيلي بوجوه نسوية تدرجت علاقة طارق معهن كما سوف نرى في الدراسة بالتفصيل، فمن هدى السكرتيرة التي كانت أقوى شخصية منه فأُعجِبَ بها، وحاول أن يكون قريباً منها، ولكنها فضَّلَت عليه عمه الثري فخطبته ثم أصبحت زوجة عبد المجيد بك. وماجدة أختها المراهقة التي قدمت له حبها في تفتحه الأول فهرب، ونهاد «وهي واحدة من بطلات الكتاب تضع سحرها الأرستقراطي في خدمة مناورات العميل المصري الذي يسعى لإحباط المشروع تمشياً مع تعليمات تصدر إليه من أعلى»، والأرملة صفية أستاذة ماجدة، التي أحبها، لكن الأقدار شاءت أن ترتبط بغيره.

إلا أن المهندس عبد المجيد بك بعد عودته من القاهرة بقرار استحصل عليه بعد نضال مرير، يعطي مشروع القطار المعلَّق إشارة الانطلاق في تنفيذه، يتفاجأ ببوادر الانفصال، وتمزّق الوحدة بين مصر وسوريا، فيتشاءم من المستقبل القريب، ويقرر مغادرة البلد، فينقل بعضاً من أثاث قصره الثمين إلى إحدى العواصم الأوروبية حيث يقيم مع زوجته هدى، تاركاً ابن أخيه طارق عمران لإدارة المؤسسة التي أوقفت مشروع القطار المعلَّق من جديد، هذا الفتى الذي قضى فترة قصيرة نسبياً في العاصمة دمشق، وكتب الشعر، واشتهر بكونه شاعراً، وابن أخ عبد المجيد بك رجل الأعمال الثري، فكان محط انتباه وإعجاب الآخرين. إلا أن ثمة سؤالاً عميقاً يشير إليه العجيلي، وهو أن بطلنا يحمل في ذاته المتناقضات الحديثة، فهو شاعر وعمه ثري، عَمَليّ، ينظر للحياة من منظور مختلف، فكيف يستطيع أن يوفِّق بين طبيعته الشاعرية وطبيعة العمل الإدارية والعملية؟. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فهو ريفي، أي من بيئة مختلفة عن بيئة المدينة، ففي تلك الأيام لم تكن الرقة قد أصبحت محافظة بعد، وهنا يشير العجيلي، إلى ناحية أخرى في نفسية الفتى ألا وهي «الريف» أو البيئة المختلفة، وهنا تعني الطبيعة والفطرة وبيئة محافِظَة، في حين أن «المدينة» تعني الشهوة والسلطة. وهذا صراع آخر تتبلور من خلاله شخصية الفتى، ولقد اختار العجيلي عُمْر طارق في الرابعة والعشرين، ونحن نعلم أن هذا العمر في بلادنا هو العمر الذي ينهي فيه الطالب دراسته الجامعية، وبعبارة أخرى، إنه التهيؤ لولوج أبواب المجتمع، وإنهاء الخدمة العسكرية، والتهيؤ لخطوة أخرى هي الزواج، وبعبارة أخرى إنه عمر المساررة والتنسيب في مجتمعنا، واختار كاتبنا دمشق مكاناً لتنسيب أو مساررة بطلنا. إن التنسيب في اليونان القديمة، كان يقتضي مرور الفتى من خلال رجل، ويشير الدارسون إلى أن السبب في هذا يعود إلى التوتر بين النظام الأمومي والنظام الأبوي الحديث الذي انتزع السلطة من المرأة، ولم يكتفِ بانتزاع السلطة، بل أراد انتزاع أبنائها، وتجريدها من سلاح الجنس، لاشك أنه موضوع عويص، ويحتاج إلى بحث مطوَّل. نرى كاتبنا قد اختار المرأة كمنسِّبة لبطلنا طارق عمران في عالم الرجولة، وهنا أيضاً نعود إلى «نموذج المرأة» في حياة طارق عمران، وسوف ندرسه على نحوٍ متواضع، وبقي أن نشير إلى أن العجيلي استطاع أن يصوِّر من خلال طارق حالة وجدانية، ومعاناة حقيقية. ولاشك في أن عودته إلى مدينته البعيدة التي تحمل طابع الريف في ذلك الوقت، يحمل ألف معنى ومعنى، نعم إن طارق عمران يترك إدارة مؤسسة عمه، ويترك دمشق، ويعود إلى بلدته، وهنا المفاجأة التي تركها لنا العجيلي ليكشف لنا عن شخص طارق الذي كان صادقاً مع أحاسيسه، وحالة تنبض بالحياة، وبعبارة أخرى، لم تكن النهاية، بل البداية‍‍‍‍!!.

«نموذج المرأة» في رواية «قلوب على الأسلاك»
يطالعنا العجيلي، في روايته هذه بأربعة نماذج، ويتدرج بطلنا من خلال علاقته مع كل من هذه النماذج في تطور تصاعدي باحثاً عن نفسه، إلا أن ثمة نموذجاً خفياً كما لو أنه كان على الهامش، ينتظر الفرصة لدخوله وانسحابه كالجنيات، سوف نأتي على ذكره.

سوف نبدأ بالنموذج الأول «الفتاة المراهقة»، هذا النموذج يفصح عن علاقة من أجل المسرَّة، وعندما تكون هذه العلاقة (أي المسرَّة) هي أساس الزواج على سبيل المثال، فسوف تنتهي العلاقة عندما يصبح الشخص الآخر لا يجلب المسرَّة، وهنا فإن هذا النموذج يلعب دوراً معيناً في القصة، فنرى مثلاً، «الزوج أو الأب سوف يقع في غرام مراهقة صغيرة، ويتنحَّى جانباً، والأم سوف تُهجَر بقلب وبيت فارغين. ويكون عليها أن تكافح من جديد كي تخلق لحياتها معنى بالطريقة التي تراها».

إلا أن العجيلي يختار سياقاً آخر لهذا النموذج، كونه انعكاس لتطور بطلنا في علاقته مع الآخر، وربما اختار له هذا النموذج كبداية في تفتحه وتطوره الصاعد. ومما نعثر عليه في هذا السياق، حين تشرح «ماجدة» -التي تمثل نموذج «الفتاة المراهقة»– مفهوم الحب المرتبط بالجنس، فإننا نرى حنق طارق الذي يدفعه لكي يؤدبها بالعصا‍‍!!.

إنها ولاشك العقلية الشرقية المشحونة في اللاوعي بالعدائية تجاه أي تمظهر بريء للجنس، وهذه العدائية إن نمَّت عن شيء فهي تنمّ عن الجهل والخوف من أشد طاقاتنا حيوية، وأهمها في سعادتنا، ورُقيِّنا في سُلَّم الحضارة الإنسانية!!.

إلا أن تجربته مع «ماجدة» حين يقول: «وها هي الآن، ماجدة، تكسر القمقم أمامي في حركة واحدة، وتلصق صدرها الناهد بصدري لتبرهن لي أنها امرأة وتقول لي أنها تحبني» إلا أن طارقاً هنا أيضاً تماسك وتراجع بعد أن ندَّت عنه على رغمه تنهيدة خفيفة.

ثم تأتي تجربته مع «نهاد» وهي نموذج آخر سوف نأتي على ذكره، لكن شيئاً ما ينبغي الإشارة إليه، وهي بوادر حالة عصابية قد تلمّ ببطلنا، فكما ذكرنا أنه يمثل متناقضات عالمنا الحديث، فهو شاعر من جهة، وعمه رجل أعمال ثري يرى الحياة بمنظور مختلف، وهو ريفي أي طاهر السريرة من جهة، وهو في المدينة التي تحكمها الشهوة والسلطة من جهة أخرى، تجربته مع ماجدة ورغبته في الإشباع من جهة، ورغبة أخرى في الكف من جهة أخرى. إنها سلسلة من المتناقضات تهيئ الجو المناسب لنشوء العصاب النفسي، فالعصاب النفسي هو حالة تشل فيها الإنسان قوى متعارضة في اللاشعور. إلا أن كاتبنا شاء قدراً آخر لبطله، فأظهر صراعه إلى دائرة النور والوعي، مما أتاح له فرصة أكبر لكي يتبلور وينضج في سياق تطوري لم يخلُ من إرهاصات عصابية.

هذا السياق التطوري يقوده إلى نموذج آخر على الساحة، هو النموذج الذي يمتثل للبعد الاجتماعي في العلاقة الجنسية، والذي يشكِّل الثراء أحد عوامله ويفعِّله، فالثراء أو الطبقة الاجتماعية، وبعبارة أخرى الامتياز الذي تتمتع به، يتيح لها حرية ممارسة العلاقة، وهذا النموذج نراه في «نهاد» المرأة الأرستقراطية، وهكذا نسمع بطلنا يقول في هذا الصدد: «أليس بديعاً أن يتسامى الإنسان عن دعوات نهاد إلى السقوط في شبكة الارتباطات نصف العاطفية، نصف الجنسية التي أصبحت مكرسة رسمياً عند طبقة معينة من طبقات المجتمع فيجدها سخيفة».

وعلى الرغم من رأيه هذا نجد وصفاً شاعرياً لعلاقته مع نهاد تدخلنا في عوالم السحر والجمال. حيث أن بطلنا لم يستطع مقاومة فتنة وجمال نهاد، إلا أنه أثناء انجذابه وعناقه لها كانت تلوح أمامه شخصية أخرى، امرأة أخرى، «نموذج آخر»، وفي صراعه بين نموذجين: «أنيما النفس» الذي تمثله «صفية» ونموذج «المرأة الأرستقراطية المتزوجة» وتمثله «نهاد». فإن صورة صفية تقفز إلى ذهنه حيناً حتى تغيب وتختفي أمام صهيل الجسد، وجموحه لدى رؤية نهاد الفاتنة وجسدها الملتهب، فهاهوذا يصف تجربته حين دعته للوصال: «كان بصوتها بعض البحّة.

فأسرعت إليها حتى دانيتها. رأيت أن شحوباً خفيفاً كسا وجنتيها في تلك اللحظة، أما جسدها فقد خُيِّلَ إلي، من مرآه مهصوراً بذلك الرداء القاني، إنه كان ينفث اللهب. ضممتها إلي، وسرنا معاً متخطين المنطقة الظليلة من البهو إلى ما وراءها، أصابع يدينا متشابكة ورأسها ملقى على كتفي، كأننا كنا نخطو بجسد واحد إلى عالم رائع كان يهتف بنا مرحباً، فاتحاً لنا ذراعيه ليضمّنا في أمواجه الهانئة».

ونهاد التي أقامت علاقة مع بطلنا نراها فيما بعد، وقد «تركت زوجها حليم بك رمزي، وتزوجت زكي بيه الذي أصبح بعد الانفصال محافظاً أو وكيل وزارة فيما تبقى من الجمهورية العربية المتحدة».

أما النموذج الآخر الذي كان يتراءى له أثناء عناقه لنهاد، وهو إن حق لنا القول، أنيما النفس، الذي يتمثل في شخص صفية، «صفية» هذه التي قال عنها بطلنا: «هذه هي ملهمتي الحقيقية، صفية! إنها الجديرة بأن أنظم فيها الشعر القديم الذي لم يوحَ إليّ بعد في هذه المدينة الشاعرية. صفية، وليست زوزو (أي الراقصة) التي يريدني ممدوح أن أنظم فيها ما يريد من قصيد!».

ولكن، من هي زوزو هذه؟! لقد ذكرنا في بداية المبحث عن نموذج أبقاه العجيلي على الهامش، وأدخله الرواية، وانسحب كالجنيات. والآن قد أتى وقت الحديث عنه، لاغرو أنها حركة خفة، وعمل يُظْهِر مقدرة الكاتب الإبداعية في إظهار الشخصيات والتعبير عن ماهياتها!!.

لقد ذكرنا أولاً نموذج «الفتاة المراهقة»، إلا أن نموذجاً أكثر منه صميمية يفعل على نحو لاشعوري تاركاً بصماته في جسد شبقي منذ سني الطفولة الأولى، ومع المراهقة تدب في هذا الجسد الحياة ويصبح صارخاً، وهو يعبِّر عن ارتباط اللاشعور أول بأول بمصدر الإثارة، هذا المصدر الذي يلوح في عوالم المراهقة من خلال نموذج «المرأة الفاسقة» أو «البغي»، واللاشعور المرتبط بهذا النموذج كالرجل المرتبط بامرأة فاسقة يقيم معها تحت سقف واحد، وهي تزور مريديها في مخادعهم، في مخيّلتهم، وفي بيوتهم، وفي قلوبهم بأشكال شتّى. وتمنح اللذة أولاً، والإشباع ثانياً. وهكذا تشيد مملكتها، وتعتلي عرشها، حتى أنها تستطيع أن تجعل من الزواج ماخوراً لها!!.

هذا النموذج فاعل بشدة على مستوى اللاوعي عند الأفراد، وثمة ارتباط لاشعوري بها. ولعل تجربة مثل هذه نراها حتى عند بعض القديسين مثل أوغسطين في كتابه اعترافات، أما في الوقت الحاضر فنرى هذا النموذج متمثلاً بفتاة الستربتيز، أو بطلة البورنو، هذا النموذج الذي يصرخ في الغرائز ويستثيرها، يلوح في الرواية من خلال «الراقصة زوزو» التي يستسلم لها طارق بعد أن شعر أن الأرض تختفي من تحت قدميه، وذلك بمغادرة عمه للبلاد، وإيقاف المشروع، بزواج هدى من عمه، وزواج صفية بعد أن فكت حزنها على زوجها الأول. وبالتالي يعيش ما يسميه البعض «القلق السري» أو «قلق الذات»، هذا الشعور الغامض الذي امتزج مع شعور من اليأس، يقوده أخيراً إلى أحضان الراقصة زوزو، وتجربته هذه تفضي به إلى ما نسميه بـ«آلام اللذة»، ذلك أن «اللذة» حين تكون لاواعية فإنها تستعبد المرء وتنحدر به إلى الجحيم، أما حين تكون واعية فهي تحرِّره وترتقي به إلى السماء!!.

وما شعور البطل بأنيما النفس الذي تمثل في صفية وحبه لها، إلا وقد فاقم احتقاره ذاته إلى درجة عض أصابعه والبكاء. ولو لم يشعر بحب صفية لغدا هذا النموذج محوراً لحياته يبحث عنه باستمرار!!.

أخيراً، وليس آخراً. فعلى الرغم من أن صفية تزوجت الرجل الذي تزوجته، إلا أن بطلنا يفيق أحياناً في الليالي فيكتشف أنه يهتف باسمها، وينام وهو يحلم بأنه يقول لها ما لم يقله، يقول لها أنه يحبها!!.

على هامش الدراسة
طريقة للارتباط بالجانب الأنثوي

إنها قصة العراف الأعمى تيريسياس التي يرويها كامبل، ويذكر أنه: «ذات يوم كان تيرسياس يمشي في الغابة، فرأى زوجاً من الأفاعي في حالة جماع. وقد وضع عكازه بينهما فتحول من فوره إلى امرأة، وعاش كامرأة عدداً من السنين. وكانت تيريسياس المرأة تمشي ذات يوم في الغابة فرأت زوجاً من الأفاعي في حالة جماع، فما كان منها إلا أن وضعت عكازها بينهما فتحولت إلى رجل.

وفي يوم جميل على جبل الكابيتول، جبل زيوس، جبل الأولمب، كان زيوس وزوجته يتجادلان حول من يستمتع بالجماع أكثر، الرجل أم المرأة، ولما لم يستطع أحد منهما أن يقرر، قال أحدهما: دعنا نسأل تيريسياس. فذهبا إلى تيريسياس، وطرحا عليه السؤال، فقال: المرأة تستمتع تسع مرات أكثر من الرجل، والغريب في الأمر، أن هيرا زوجة زيوس غضبت منه، فسلبت منه نظره. فما كان من زيوس إلا أن شعر بالمسؤولية على ما حل به، فمنحه قدرة التنبؤ، وهنا تجدر الإشارة إلى أن انطفاء البصر لديه له دلالة انفتاح البصيرة وهي القدرة على التنبؤ التي منحها له زيوس بالرغم من عماه».

يعلق كامبل على أن تيريسياس مثل رمزياً حقيقة وحدة الاثنين، الذكر والأنثى، من خلال تحوله إلى امرأة ثم إلى رجل، فقد استحوذ على تجارب الاثنين، وعندما أُرسِلَ أوديسيوس إلى العالم السفلي من قبل سيرس، حصل على معرفته الحقيقية عندما قابل تيريسياس وتعرَّف على وحدة الذكر والأنثى.

وأخيراً فإن الاتصال مع الجانب الأنثوي في حال الذكورة، وبالجانب الذكوري في حال الأنوثة، يمكن المرء من أن يعرف ما تعرفه الآلهة، ويذكر كامبل أن هذه المعرفة متاحة للشخص المتزوج، وهذه هي الطريقة التي يرتبط بواسطتها بجانبه الأنثوي.

وثمة أسطورة أخرى تدور حول هرمس وصولجانه، حين شاهد أفعواناً وأفعى يتشاجران، وراقبهما ثم فصل بينهما، وحوَّل بلسانه الساحر وكلامه المدهش هذين «الزوجين» من متنافرين إلى متحابين، أي ارتبط كل منهما بجانبه الذكوري في حال الأنثى والأنثوي في حال الذكر، وهكذا نجد أن الأفعوان وزوجته كل منهما قد أبى أن يغادرا الصولجان فظلا متآلفين ملتفين عليه بعد أن تحولا إلى ذهب براق!!.

الخطاب السياسي في أدب العجيلي
لقد شكّلَت السياسة عَصَباً رئيسياً في تشكّل كيان العجيلي وتفتحه، إذ كان أصغر النواب سناً، وحاولوا تغيير تاريخ ولادته لكي يتوافق انتخابه مع السن التي يحددها الدستور، ثم أتت مشاركته في جيش الإنقاذ، حيث استطاع أن يغرف من معين هذه التجربة دروساً ومعانيَ مختلفة أنضجت رؤيته للأمور، ثم أخيراً مشاركته في ثلاث وزارات أهمها كان ربما الخارجية.
كانت السياسة بالنسبة للعجيلي تعني تكريساً لخدمة الوطن والآخر، لا مصلحة شخصية وحباً للسلطة. من هنا كان تفرغه فيما بعد لعمله الإنساني في الطب أساساً يتحرك من خلاله وفضاءً يمارس فيه عملاً آخر هو الأدب، هذا المنبر الذي كان يضوع منه عطر السياسة العجيليّ.

وهكذا يكاد لا يخلو عمل من أعماله، من خطابٍ سياسي يعكس تجربته ورؤيته، وسوف نركز في هذا المبحث على جانب هام اتسم به العجيلي، وهو عنصر «الرؤيا»، ذلك أننا لن نستطيع فهم خطابه السياسي، دون تسليط الضوء على هذا العنصر لدى العجيلي، وسوف نركز على جانبين اثنين من جملة الجوانب التي تتناولها «الرؤيا» عند العجيلي، وهذان الجانبان هما ما نسميه «نظرية الأدوار» أولاً، و«الحرية» ثانياً.

نشير إلى «نظرية الأدوار» من خلال قصة «نبوءات الشيخ سلمان» من مجموعة «فارس مدينة القنطرة» أما جانب «الحرية» فمن خلال رواية «قلوب على الأسلاك».

"نبوءات الشيخ سلمان"
يذكر بوعلي ياسين أن «هذه قصة عن حرب فلسطين 1948 وجيش الإنقاذ. وقد كتب العجيلي عدداً من القصص حول هذا الموضوع، منها قصتا "كفن محمود" و"أينما كان" من مجموعة "الحب والنفس"، وكذلك قصة "بنادق في لواء الجليل" من مجموعة "قناديل إشبيلية". لكن قصة "نبوءات الشيخ سلمان" تظل أهمها جميعاً».

يلخص بوعلي ياسين القصة على النحو التالي: «لقد صاغ الكاتب قصته بشكل مونولوج على لسان زبون دائم لخمارة "الشاب الظريف"، ينادونه بـ"الأستاذ" وقد بدت آثار الشرب جلية وناجحة في مونولوجه. والقصة ذات طابع مسرحي، وقد عُرِضَت كأقصوصة ضمن أقصوصة. يقدم الكاتب لها تقديماً مسرحياً، بعرض بعض المعلومات عن الحانة، وصاحبها أبي معروف، والأستاذ، والزبائن الآخرين الذين يفدون واحداً بعد واحد أثناء رواية القصة. فعبد السلام العجيلي أديب دائم التجديد في سبيل أسر قرائه.

يراهن الأستاذ أبا معروف على أن يقص عليه حكاية جديدة وممتعة، بكأسين من العرق، كأس لجدة الحديث، وكأس للذته. ثم يروح يجتر إحدى ذكرياته عن حرب 1948 وجيش الإنقاذ، التي قد تكون ذكريات الكاتب نفسه، فقد عاش العجيلي تجربة مشابهة، وخلال حديثه يرد الأستاذ على تعليقات السامعين، ويدخل في مواضيع جانبية، لكنه في النهاية يقدم قصة مترابطة كاملة.

تصل الخواطر بالأستاذ السكران إلى يوم دخوله مع رفاقه إلى قرية بيت جن. كان معه رفيقه فرحان ابن القرية، وكان يباهي بكرمها، لكن القرية قاطعت الوافدين، ولم تفتح الأبواب إلا بعد تدخل أبي ابراهيم مستشار الحملة. قبل ذلك كانت قرية عين الأسد قد استقبلت المجاهدين أسوأ استقبال. لقد آلم الأستاذ بشدة أن يقف الأهلون منهم هذا الموقف، وهم الذين جاؤوا من أقاصي الأرض يحملون أرواحهم على أكفهم لينقذوا فلسطين ويعيدوها نقية طاهرة إلى العرب والأمة العربية. لكن الكاتب لم يفسر لنا موقف أهالي بيت جن. لماذا كان استقبالهم بهذا الشكل المخيب والمحبط؟

لايحاول الكاتب معرفة أسباب هذه المقاطعة، إنما يجعل من اندفاعه العاطفي في سبيل عروبة فلسطين عذراً لما اقترفه مع الشيخ سلمان. فقد صادف نزول الأستاذ وثلاثة من رفاقه في منزل هذا الشيخ. وكان هذا كهلاً متوسط القامة نحيف البنية، لا يكاد يسمع صوته نعومة وهدوءاً.

وقد أكرم الشيخ ضيافتهم، وكان هو وأسرته في خدمتهم.

وفي فجر الليلة التي أظهر فيها الشيخ غموض مواقفه، نهض الأستاذ باكراً على غير العادة، وقادته قدماه إلى حجرة الشيخ سلمان. هناك بادره الشيخ بالقول: "كان الأحسن لك أن تظل في فراشك وتشبع نوماً، يجب أن تعتني بصحتك مادمت جئت لتحارب، فلابد لمن يريد أن يذبح الخروف أن يسمّنه أولاً، أليس كذلك يا ابني؟". يسأل الأستاذ: "من الذي سيُذْبَح في هذه الحرب يا شيخ؟". فيجيب الشيخ: "كثيرون، ألم تأتوا من مدنكم وقراكم لتموتوا هنا؟"، ثم يستدرك: "ولكنكم لن تموتوا جميعكم، الطيبون منكم وحدهم سيموتون!". "هل تظنون سهلاً أن تطهر هذه الأرض بمئة أو مئتين من المتطوعين، وبعض البنادق والرشاشات؟". يجيء الطيبون في البدء ويذهبون، ثم الأقل طيبة، ثم يأتي الخبثاء. "ويأتي بعد ذلك الخونة الكاذبون ثم خونة صادقون لا يبيعون الأرض بل يتنصّلون منها". "حينذاك، حينذاك فقط، بعد أن يموت الناس ويحترق التراب ويحكم الفاشل ثم العاجز ثم الخائن ثم الفاجر، تهتز جنبات الأرض وتحبل الأمة بالألم لتلد المنقذ المطهر".

والأستاذ أو الكاتب يتعاطف مع الشيخ ويقاسمه رؤياه، إذ يقول لزبائن الحانة: نعم، سيأتي الحاكم الذي يبيع فلسطين، ثم الذي يدفع مالاً ليتخلص من فلسطين. بل لعل هؤلاء أتوا، وهم يقودوننا، ونحن لا ندري».

نظرية الأدوار
لاشك أن القصة تلخصها كلمة «رؤيا» إنها تحوي «رؤيا» أو أن «الرؤيا» تحويها، وهنا براعة أو الأصح عظمة العجيلي، التي لا تقلّ عن عظمة كتّاب شهدهم الاتحاد السوفياتي السابق في ثورته مثل مكسيم غوركي أو غيره من كتّاب عالميين!!.

والرؤيا في القصة تبلغ ذروتها حين يقول: «يجيء الطيبون في البدء ويذهبون، ثم الأقل طيبة، ثم يأتي الخبثاء».

وفي المرحلة التالية «يأتي بعد ذلك الخونة الكاذبون ثم خونة صادقون لا يبيعون الأرض بل يتنصّلون منها». إذن، فالخطاب السياسي هنا يعالج مشكلة فلسطين ليس من منطلق إيديولوجي، أو فلسفي، وإنما من خلال «الرؤيا»، وفي «الرؤيا» تندمج عناصر الشعور والعاطفة واللاشعور والعقل، على نحو تصاعدي في وعي رؤيوي ينصهر بالواقع والوجود.

إذن، فالمشكلة كما يراها العجيلي ليست «بمئة أو مئتين من المتطوعين، وببعض البنادق والرشاشات؟»، فالأمر أبعد من ذلك وأعمق، والوعي الرؤيوي وحده يعبِّر عما يجري في الواقع على نحو وثيق الصلة بالتاريخ والكون!!.

ومن هذا المنطلق نصل إلى ما يعبِّر عنه أفلاطون في إحدى حواراته على أن العصر يبدأ ذهبياً ثم يصبح فضياً ثم برونزياً وأخيراً معدنياً!!.

أو ما يعبر عنه المفكر ندره اليازجي بنظرية الأدوار وإن كان من منظور فلسفي بحت، إذ يعتبر الدور الذهبي يبدأ بالحكمة «صوفيا»، ثم الحكمة تتراجع إلى ثنائية العقل والموضوع أي «فيلو صوفيا» أي حب الحكمة، وهذه الثنائية تتراجع إلى «التعددية» وهي التنوع وتعدد المذاهب والمعتقدات، وهذه «التعددية» تتراجع إلى «العلم»، والمفكر ندره يرجّح عودة «العلم» إلى «الحكمة»، لكن ما نلاحظه هو تراجع «العلم» إلى «التكنولوجيا» فعصرنا الحالي يشهد اختفاء «العلم» كماهية، وحلول صنم «التكنولوجيا» مكانه، وهو الذي يكرس منحى الاستهلاك فقط، وهذا الصنم ينبئ بفاجعة قد تكون وشيكة!!.

إلا أن رؤيا العجيلي ثاقبة وتعكس عنصر الأمل، فهو يقول: «حينذاك، حينذاك فقط، بعد أن يموت الناس ويحترق التراب، ويحكم الفاشل ثم العاجز ثم الخائن ثم الفاجر، تهتز جنبات الأرض، وتحبل الأمة بالألم لتلد المنقذ المطهّر».

هذا الأمل إذن، ربما يكون في انتهاء دور وبداية دور جديد، أو ما يُعبَّر عنه بعودة المسيح!!.

والواقع، أن نظرية الأدوار نستطيع العثور عليها في ديانات كالهندوسية التي تحدثنا منذ آلاف السنين عن دورين متعاقبين هما الساتيا يوغا وهو عصر الانسجام والوفاق والمحبة، يليه دور الساتيا يوغا وهو عصر الحديد والدم، وكل دور يُقسَم إلى أدوار فرعية، وطوَّرَت هذه النظرية منظومات فكرية وصوفية رفيعة أشهرها الثيوزوفية على يد مؤسستها مدام بلافاتسكي التي تحدثت عن أدوار سبعة أيضاً يُقسَم كل منها إلى أدوار سبعة فرعية، ولاريب في أنها شَطَحَت بالخيال بعيداً!!.

وكذلك عرفت القبالة نظرية الأدوار، والأساطير بمختلف مشاربها التي تتناول حقيقة الطوفان على أنه نهاية دور وبداية دور جديد!!.

والحال فإن الخطاب السياسي العجيليّ الذي يتناول هذه المسألة بالتحديد نستطيع أن نفهمه على نحو أن الدور الجديد يحصل من خلال الألم والتضحية، ومن خلال موقف ووعي جديد يتحلى به الأفراد. وهذه نقطة نستطيع من خلالها أن ندلف إلى العنصر الثاني في الخطاب السياسي العجيلي ألا هو «الحرية» كخطوة لازبة للدخول بالدور الجديد.

الخطاب السياسي في رواية "قلوب على الأسلاك"
ذكرنا في فقرة «الأنيما والأنيموس» ملخصاً للرواية، وهنا نحب تسليط الضوء على بعض ملامح الخطاب السياسي الذي تخلل الرواية. وأيضاً يدخل عامل الرؤيا على النحو التالي: «وحين قرر أخيراً العم عبد المجيد بك أن يغادر البلد هو وخطيبته هدى، وأن يترك المؤسسة لابن أخيه، قال: "سفينة هذه البلاد موشكة على الغرق. أنا على يقين من هذا، ولذلك تراني أريد أن أنجو بنفسي منها".

ثم يردف قائلاً: "الحق أنها ليست سفينة البلاد. ربما كان الأجدر أن أسميها سفينة الآمال والمثل العليا، هي التي تغرق وتغرق فيها القيم التي آمن بها جيلنا. أما بالنسبة إلى الشباب أمثالك فإن السفينة تظل طافية، يمكنكم أن تبقوا فيها وتلائموا عقليتكم مع عقليات قبطانها وبحارتها".

ثم: "تكلمنا عن أن هذا البلد لن يملكه الأجنبي ولن تحتله إسرائيل. أنا أقول لك أني أحسب حساباً أن يكون يوماً ما هذا أو ذاك».

وموقف العم التشاؤمي كان نابعاً من جرّاء الانفصال، وفشل الوحدة بين الجمهوريتين مصر وسورية آنذاك، فها هو ذا يقول: «حين ينخر السوس دعامة ويأتي عليها فإنك لا تدري أين يقف النخر ومتى يتقوض البناء الواقف. العوامل التي تنخر لتنقسم بلادنا إلى جزئين لن يقف فسادها. ستستمر حتى تحطم كل ما هو قائم في كل من الجزئين».

إلا أن موقفه التشاؤمي في الرواية كان ذو نزعة أصيلة كتلك التي نراها عند الماغوط والتي فجرت ينبوعاً من السخرية المريرة!!.

وأخيراً انعكس هذا التشاؤم سلباً على بطلنا حين نسمعه يشكو لصديقه ممدوح: «يضايقني المستقبل المظلم الذي تقود السياسة الناس والبلاد إليه. لماذا كُتِبَ علينا هذا؟

لعلها صرخة الأجيال التي تأتي، أتساءل والدمعة تغرورق في عيني، ماذا نفعل لهذه الأجيال، وماذا نهيئ لها، إن في فلسطين أو في لبنان أو في العراق أو في البلاد العربية الأخرى؟!».

وقد أجابه ممدوح: «إن مشاكلنا السياسية مثل كبة الخيوط المتداخلة، كبة خيوط ملتفة حول ضلوعنا لتحطمها، وحول أعناقنا لتخنقنا».

قال طارق: «أما من حل لتعقد خيوط هذه الكبة؟».

وانتهى ممدوح إلى نظرية الأستاذ زاهد حين قال: «الحرية هي رأس الخيط في كبة الخيطان؟».

«إذن يمكنك أن تريح نفسك وتعتبر أن الداء أصبح معروفاً، فما علينا إلا أن نوجد الدواء. يجب أن نجاهد في سبيل الحرية، حرية الفرد التي تتلوها حرية الشعب واهتداؤه إلى الطريق الأفضل في السياسة».

مختارات من أدب العجيلي
مختارات من مقالة «مذهبي في القصة»
«حديث أذيع من البرنامج الثاني في إذاعة القاهرة»
«كتبت القصة أمداً طويلاً دون أن أحسب أن لي في كتابتها مذهباً أو طريقة خاصة.

أعتقد أن الفنان الحق يعطي بعفوية حين يكتب، وإن كثرة تدقيقه في كيفية العطاء والإنتاج إذا لم تضر قليلاً بهذه العفوية فهي لا تفيدها كثيراً.

أريد أن أقول أن قصصي التي كتبتها هي التي حددت مذهبي وأعطته الشكل الذي تميز به بين مذاهب كتاب القصة، وإني لست الذي اتخذت مذهباً معيناً من المذاهب القصصية المعروفة فاخترت أن أكتب قصصي ضمن حدوده. إذن فمذهبي مذهب أصيل لم يأت عن تقليد ولا اتباع، وهذا ما يرضيني عنه ويصل بي إلى حد الفخر به.

ولقد آبى على نفسي أحياناً تقليد نفسي فأحاول أن آتي دوماً بالجديد والمبتكر فيما أكتبه.

فالزمن عندي عامل من عوامل القصة قد أقفز به أو أتراجع فيه، وأروح به جيئة وذهاباً حتى أستطيع أن أعطي للحادثة التي أكتب عنها وقعاً معيناً في نفس القارئ. بل يحدث أن أكتب قصة لا وزن للزمن فيها مذكوراً. فلي قصة اسمها «حمّى» مكتوبة بشكل مذكرات لا تؤرخ باليوم الخامس والعاشر والسابع عشر من أيام الشهر مثلاً بل بدرجة حرارة البطل: سبع وثلاثين وثلاث شرطات، أربعين وست شرطات، وهلم جرا.. كلما تبدلت حمى البطل تبدلت أفكاره والأحداث التي تحيط به. ولي قصص غير هذه لا يدرك القارئ فكرتها إلا بقراءة حوادث متعددة لا رابط زمنياً بينها مثل قصتي "القفاز".

إلا أني على اهتمامي بحادثة القصة أو حوادثها لا أجعل منها دوماً الشيء الرئيسي. بل إني كثيراً ما أحمّلها غايتي من القصة التي أكتبها سواء كانت هذه الغاية فكرية علمية أو عاطفية إنسانية أو إحساساً شعرياً. أضرب لذلك مثلاً قصة "الليل في كل مكان". فهذه قصة ترد في بضع صفحات ولكن مسرحها العالم بكامله، من فرنسا إلى فلسطين إلى الحبشة إلى جنوب إفريقيا. لو كانت رواية الحادثة هي الغاية في القصة لشتّتُ ذهن القارئ في ركضي به بين آفاق العالم المتسع في تلك الصفحات القليلة. ولكن غايتي كانت أن يشعر القارئ بشعور البطلة مارليت وهي تسعى بين أرجاء الدنيا بطفليها باحثة عن مكان لا أثر فيه للحقد والبغض والتهديد بالحرب، فلا تجد ذلك المكان، لأن الليل في كل مكان.

ثمة صفتان أخريتان من صفات الشكل في مذهبي للقصة، هما فصاحة اللغة ثم اللغة العلمية.
إني أجد أن استعمال الألفاظ العلمية يزيد اللغة العربية المتداولة ثروة في المفردات وغنى في التعبير، وتلك خدمة لا أتردد عن المساهمة في إسدائها إلى لغة وطني وقومي.

تلك هي بعض صفات الشكل في مذهبي القصصي. أما صفات المضمون، فالتنويع الذي أشرت إليه في مستهل كلامي، من أبرزها. والتنويع فيما أكتبه ليس مفتعلاً، فأنا أغرف من منابع كثيرة في الحياة كان من نعمة الله عليّ أن يسرَّ لي ورودها. فقد نشأت في جو البادية الغنية في أحاسيسها والغريبة في تقاليدها. وعشت في أجواء المدينة المعقدة الحياة المزدحمة المرافق. ودرست العلم وهويت الأدب. كما أني مارست السياسة سلماً وحرباً، وتنقلت في أرجاء العالم الواسعة. فتوفر لي من كل ذلك ذخيرة من التجارب والذكريات والأفكار وتفتح به من آفاق الخيال ما أعانني على كتابة قصص متباعدة المرامي والأمكنة والمواضيع. وأنا أحرص في هذا التنويع على صفة الغرابة والتشويق فيما أكتبه، غرابة الحادثة أو غرابة النتيجة التي تنتهي إليها الحادثة، أو غرابة الفكرة التي تستنتج من الحادثة. على أن الغرابة ليست في الواقع إلا عنصراً واحداً من عناصر مذهبي في القصة.

كتبت قصصاً كثيرة تدور حوادثها في جو طبي وتصف الصراع بين الطبيب، بين الإنسان المسلح بسلاح العلم الحديث، وبين المرض بملايين عوامله المعروفة والمجهولة. وعلى رغم إيماني بالعلم وبمعطياته الخيّرة وبضرورته اللازمة لمجتمع كمجتمعنا العربي في أيامنا الحاضرة. كنت أجعل الغلبة في قصصي للمجهول على المعلوم وأضع الطبيب أو العالِم موضع القلق الحائر أو المغلوب الضائع. وكتبت قصصاً إنسانية، الناس فيها خيّرون يبذلون كل مجهودهم لبلوغ طمأنينة النفس، ولكن العالم المحيط بهم يتغلب عليهم وينتهي بمجهودهم إلى العدم. وكتبت قصصاً قومية يحارب شخوصها من أجل مثلهم العليا، وهي مثلي أنا الشخصية، بكل قواهم، ولكنهم لا يبلغون غاياتهم. فأبطال تلك القصص منكوبون دوماً، أو مقتولون، على حبي لهم وتمجيدي إياهم.

يكاد التشاؤم أن يكون هو الفكرة المهيمنة على قصصي لولا أن صفة مشتركة بين أبطالها ترفعهم إلى مرتبة أعلى من مرتبة التفاؤل، هذه الصفة هي لا مبالاتهم بما يصيبهم ما داموا جادين في كفاحهم، هي كبرياؤهم التي لا يؤثر فيها الفشل ولا الموت. إنهم يعرفون أن الظروف المحيطة بهم والطبيعة التي يعيشون في حضنها والوجود الذي هم منه، أقوى منهم، ولكن ذلك لا يخيفهم، فهم يتحدون كل تلك العوامل بالجهاد في سبيل غاياتهم المثلى. هذه هي الفكرة الشاملة التي ينبعث منها موقفي كأديب في الحياة. فأنا كإنسان مؤمن بإنسانيتي من ناحية وبعقلي ومعطياته العلمية من ناحية ثانية. حائر بين أمرين أو على الأصح مدرك لأمرين: الأول هو ضآلة شأني كمخلوق بشري في الوجود. فالمخلوق البشري ليس إلا ذرة على كوكب هو تابع لشمس تابعة لمجموعة سديمية، نعلم بعقلنا القاصر أن الكون المدرَك من قبلنا يحتوي الملايين من أمثالها. والأمر الثاني هو كبريائي كإنسان، وهي كبرياء تدفعني إلى الكفاح وبذل كل جهد في سبيل غايات سامية معينة. فإذا غلبتني القوى المتألبة عليّ فإنها لا تكون قد غلبت جباناً مستسلماً بل مكافحاً مناضلاً. من تصارع هاتين الحقيقتين، ضآلة شأن الإنسان وكبريائه المكافحة، يتألف موقف أبطال قصصي المتميز، وبه تتوضح أرسخ معالم مذهبي في كتابة القصة.

كتبت القصة الساخرة والقصة الضاحكة، وكتبت القصة الحزينة ولكن حزناً هادئاً فيه الأسى وليس فيه الصخب أو العويل. فكأن الوجود عندي، على غلبته للإنسان، مدرك لضعفه ونبله فهو مكبر له ورفيق فيه. أو كأن الإنسان على وثوقه بنفسه وإيمانه بسلامة موقفه مدرك لدوافع غريمه فهو لا يحمل له في قلبه ضغينة ولا حقداً. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ أتلو عليكم كمثال قصة الكمأة والكينين. وفيها نجد الطبيب العالِم في محاربته لشعوذات أحد الجهلة يرفض الانتصار الذي يصبح دانياً منه، لأنه يدرك أن الحياة قد اتخذت الجاهل مطية لغرضها الذي قد يكون أسمى وأصدق من الحقيقة العلمية التي من أجلها يجاهد ذلك الطبيب».

من مجموعة «أشياء شخصية»،1961
مختارات من قصة انتقام محلول الكينا

«حدثنا الدكتور عبد الله قال:
في بيروت، في ساحة البرج وفوق محل البحصلي، ملهى متواضع قد علقوا على شرفته لافتة كتبوا عليها "بار لوسي" بأحرف اللغات الثلاث العربية والفرنسية والأرمنية.

حسبي أن أقول لكم أني صعدت الدرج تلك الليلة إلى بار لوسي ووقفت بالباب ألقي على القاعة نظراتي المعهودة، وبينما كنت أدور على عقبي لأنزل الدرج سمعت اسمي يذكر، فالتفت وإذا بالراقصة هذه تناديني باسمي، عبدو!

صحت: لطفية!

قالت: قبل كل شيء اسمي نوال.

وبينما كنت أتطلع إليها لأكتشف في نوال بار لوسي ملامح لطفية الماضي في دمشق، راحت تسألني عن أصحابنا وعن حافظ بصورة خاصة فأعلمتها أمره وكيف حاول الانتحار في عيادتي منذ ثلاثة أشهر.

فضربت كفاً بكف، وأخذت تقص علي الحلقة المفقودة في قصة غريبة.

وسكت الدكتور عبد الله برهة ريثما أطفأ عقب سيكارته في الصحن أمامه ثم انطلق يقول:
يعرف كل زملائي في كلية الطب الطالبين اللذين ما كانا نجيبين: حافظ وشرف الدين، وكنا نسميهما "الزوج" أو "المنكوش والمنفوش" كناية عن أثر الجدري في وجه حافظ وكثافة الشعر على رأس شرف الدين.

كانا شناً وطبقه، متلازمين منذ صغرهما! إذا غضب المعلم من أحدهما ضرب الثاني، وإن قصر أحدهما في درس التاريخ قصر الآخر في الجغرافيا. رسبا مجتمعين في صفوف متعددة ونجحا مجتمعين. وكان أهم ما يتميزان به سخف في التفكير يميل بأحدهما وهو حافظ إلى اللؤم ويميل بشرف الدين إلى طيبة القلب، وتنافس كتنافس الشقيق المطرود وطريده. فلما جاءا ليدرسا الطب، وكان حتماً أن يجيئا معاً لدراسة علم واحد، اشتد تلازمهما كما اشتد تنافسهما.

وهكذا ظلا سنين أربعة من دراستهما الجامعية لم يقو ظرف أو حادث على أن يفصم عروة اتحادهما الغريب هذا، عرفا في آخرها لطفية حينذاك لدنة العود بسيطة التفكير، وفجأة تحطمت العروة وافترق الزوج في نهاية تلك السنة الرابعة وذلك حين اجتاز حافظ الامتحان الإكمالي ورسب، بكل بساطة، صاحبه شرف الدين.

سأروي لكم كيف رسب شرف الدين، فقد تبين لي من تلك الليلة في بار لوسي أن لهذا أهميته. فقد طرح الفاحص على شرف الدين سؤالاً كان الجواب عليه هو العامل الذي أتاح لهذه القصة أن تبرز إلى عالم الوجود. سأل الفاحص شرف الدين السؤال التالي: أمامك محلولان من محاليل الكينا أحدهما تعرض منذ ثمانية وأربعين ساعة إلى غبار ملوث بالجراثيم والآخر تعرض إلى ذلك الغبار منذ خمس دقائق، واضطررت إلى حقن مريضك المصاب بالملاريا بواحد منهما على حاله قبل أن يتاح لك تعقيمه بالحرارة، فأيهما تفضل؟

أما جواب شرف الدين فكان الجواب المغلوط إذ فضل المحلول الثاني الذي لم يتلوث بالغبار إلا منذ دقائق خمس، ولم يدر بخلده ما قصده الفاحص، وكان شيخاً خرفاً على أبواب سن التقاعد، من التنبه إلى أن محلول الكينا قاتل للجراثيم بنفسه إذا بقيت فيه مدة معينة من الزمن، وبهذا يكون المحلول الذي تعرض منذ أسبوع للغبار الحامل للجراثيم قد تعقم وطهر في هذه المدة في حين أن المحلول الآخر لم يتح له الوقت الكافي لذلك.

ومهما يكن فقد رسب شرف الدين، وتخلى حافظ عنه.

أما شرف الدين فقد انطوى على ذاته بعد هذا الحادث، وكأنه شعر بالنقص والضعة فأخذ يجتر ألمه بينه وبين نفسه ويجر همومه لوحده في خطى متعثرة خلال الأيام التي تتالت عليه بعد ذلك. وكان وقوعه في شراك الفاحص بهذه السهولة ورسوبه لجوابه المغلوط على ذلك السؤال البسيط مثار شجن في نفسه، فأخذ يشعر بأنه غير مستحق لتلك الضربة التي لحقت به وأنه مضطهد، يضطهده معلموه وأخوانه والدنيا جميعها. وتعاظم شعوره ذلك حتى ضاقت به جوانب نفسه فأخذ يبث شكاته لمن حوله من رفاق ويرفع بها صوته أمام الأساتذة وفي قاعات المستشفى. وتطورت الشكاة إلى تطاول في الكلام وإلى سباب وإلى تهجم، حتى شعر المعلمون والطلاب والممرضون بأن هذا الطالب في السنة الخامسة من كلية الطب قد اضطرب شعوره وحاد تفكيره عن الجادة، فحكموا عليه بأنه جن، وجن شرف الدين!

وكان لكل شيء نهاية. فجاءت النهاية لدراستنا الطبية في ختام سنوات سبع كانت حياة حافلة في كل جوانبها. وخلفنا شرف الدين في مستشفى المجانين في ضاحية من دمشق وانتشرنا نحن الرفاق بين مشارق الأرض ومغاربها، أنا الذي أُبت إلى بلدتي الصغيرة الملقاة على تخوم البادية، الدكتور حافظ قد عين طبيباً في قرية التل التي كانت تتبع بلدتي، أية ذكرى تعيدني إلى سنوات الدراسة العذبة كانت حبيبة إلى قلبي.

على أن أول لقاء بيني وبين حافظ في تلك الأيام لم يكن مما يسر. فقد سرت إلينا أخبار بأن في قرية التل التي هو طبيبها مرضاً غريباً، ويموت صاحبه في يوم إصابته أو بعدها بيوم. وسرت الأخبار بأن كل من أصيب بذلك المرض الغريب كان قد عالجه من الملاريا طبيب القرية قبل أسبوع أو أكثر وحقنه من محلول الكينا. ثم جاءني النبأ بأن سبعة من أهل القرية وما حولها ماتوا بهذه الأمراض وأن حياة الدكتور حافظ محفوفة بالخطر لأن أهل الموتى بدؤوا يأتمرون به، وهكذا جاءني حافظ هلعاً مستطيراً.

فهمت منه أن سبعة من القرويين أو ثمانية جاؤوه في ذات مساء يشكون إليه الأعراض الخالدة للملاريا. قال حافظ: وكان لدي قارورتان من محلول الكينا الذي تبعثه إلي مديرية الصحة، وتحتوي كل منهما على ما يكفي خمسين مريضاً، وكنت أشك في تلوث إحداهما لأن خادم المستوصف تركها أثناء كنسه الغرفة منذ أسبوع ولم يتح لي أن أعقمها بالغلي، فعزلتها على أن أعقمها متى احتجت إليها. وكانت الثانية طاهرة ففتحتها لآخذ بها ملء حقنة أحقن بها أول المرضى حين سمعت ضوضاء عنيفة خارج الغرفة. فوضعت القارورة من يدي، وضعتها مفتوحة في النافذة وخرجت أهدئ من ضوضاء المتشاجرين على باب المستوصف. ثم عدت بعد خمس دقائق وحقنت المرضى السبعة بمحلول الكينا من القارورة التي ظلت مفتوحة هذه الدقائق الخمس وهؤلاء السبعة ماتوا في الأسبوع الثاني، لقد قتلتهم. كان علي أن أعقم المحلول بعد أن تركت آنيته مفتوحة خمس دقائق في مكان ملوث. ولكني كنت وحدي والوقت مساء فكسلت عن ذلك، وكان يمكنني أن أستعمل القارورة الأخرى لولا أنها ملوثة، ولعلها كانت أطهر، بل هي بلا شك كانت أطهر من التي حقنت منها أولئك البائسين. لقد غاب عن ذهني أن محلول الكينا يملك قدرة...

واندفع ينشج من جديد بشدة كأنما تذكره لما حدث هيج نوبته، وتشنجت أطرافه مرة أخرى، وجن حافظ أيضاً فلحق بصاحبه إلى مستشفى الأمراض العقلية. وعادا متلازمين كما كانا لا يفصلهما إلا جدار أو جدران، بل لعلهما اليوم في غرفة واحدة أو قاعة واحدة، قد تماثلا من جديد وتشابها وزالت بينهما كل الحواجز، حتى حاجز العقل.

وكان الأمر مصادفة غريبة وكذلك كان مفهومها لي إلى أن دخلت بار لوسي في عقب تلك الليلة. فإن لطفية أو نوال، سموها ما شئتم، قد أعطت هذه المصادفة معنى جديداً عرفت منه لماذا لم يكن تحليلي النفسي ناجحاً في تسكين نوبة حافظ تلك الليلة. فقد كان لاوعيه طبقات لم أسبر منها إلا طبقة عائمة وتركت سائرها في مراقده من الأعماق، حيث كمنت العقدة التي طاشت بعقل حافظ وأرته أن الذين ماتوا بغلطه كانوا أكثر من ضحايا مصادفة أو قدر خاطئ، كانوا سيف انتقام وآلة إرادة مدبرة.

قالت لطفية:

بعد أن سقط شرف الدين في صفه لحقت حافظ وعشت معه في بيته، فلما انفرد بي حافظ ظهر لي ما كان من أخلاقه مستوراً. وكان لئيماً يا صاحبي بقدر ما كان شرف الدين طيب القلب. حييت معه سنة عرفت أثناءها قدرة اللؤماء على التفنن في تعذيب ضحاياهم والإساءة إلى من يلقيهم القدر تحت سلطانهم، وما كان لحافظ قدرة على غيري فصب علي كل ما في قلبه المجدور مثل وجهه من مرة وسم. ولكن الله كبير ومنتقم، فكانت آخرة حافظ أن ارتمى بالداء الذي رمى به صاحبه. أتدري لم تركت حافظ وهجرته نهائياً؟

قلت: لِمَ؟

قالت: لقد حملت من عذاب العيش ما لا يطيقه غيري، ذلك لأني كنت أحسب أن ليس لي في الدنيا مأوى غير كنفه تلك الأيام. إلى أن جاء يوم رضي فيه عن نفسه ورضي عني فأراد أن يبين قدري عنده. قال لي أنه في سبيلي ضحى بصديقه الصدوق شرف الدين. سألته كيف؟، فروى لي أنه كان مع شرف الدين يوم الامتحان إذ كان مقصراً في الدرس نفسه الذي قصر فيه صاحبه. فلما سألوا شرف الدين مسألة يجهلها التفت إلى صديقه حافظ يستنجده فاغتنم فرصة ذهل فيها المعلم الخرف وأعطاه الجواب المغلوط عن عمد وتصميم راجياً أن يؤدي ذلك إلى رسوبه في صفه لكي يستأثر بي. هكذا قال. لقد كان السؤال يتعلق بقشر الكينا أو حب الكينا، لا أعرف، ولكني أعرف قطعاً أنه قد ضلل صديقه المسكين الطيب القلب، فهل أُلام إذا هجرت مثل ذلك الكلب الدنيء!

واستطرد الدكتور عبد الله يقول:

فهل كان ما أقنعت به حافظ من أن موت القرويين السبعة على يده مصادفة حقاً؟ فإذا كان مصادفة فما أعجب أن تكون من الأحكام بحيث لا يموتون إلا بالخطأ الذي ورط به حافظ صديقه يوم الامتحان: ساقه إلى الخطأ في ساحة النظريات وأخطأ هو عين الخطأ في ساحة العمل. وإذا كان هذا وذاك مصادفة فإن جنون حافظ ليس بمصادفة. ما هو إلا رجع الصدى لجنون شرف الدين. ولعل خطأ حافظ في الاختيار بين المحلولين لم يكن إلا رجع الصدى لخطأ شرف الدين! ومن يدري، من يعلم الحقيقة عن أسرار النفس الإنسانية، هذه المغلفة بألف غشاء وغشاء!».

من مجموعة «بنت الساحرة»، 1948.

المراجع
1) دراسات في أدب عبد السلام العجيلي، تحرير: إبراهيم الجرادي.
2) عبد السلام العجيلي: دراسة نفسية في فن الوصف القصصي، تأليف: عدنان بن ذريل.
3) مظاهر اجتماعية في بعض روايات عبد السلام العجيلي، تأليف: شاهر امرير.
4) دراسات بيبليوغرافية: عبد السلام العجيلي، تأليف: طه الطه.
5) الأدب والإيديولوجيا في سورية، تأليف: بو علي ياسين ونبيل سليمان.
6) عبد السلام العجيلي: حكواتي من الفرات، تأليف: نبيل سليمان.
7) الإنسان ورموزه: سيكولوجيا العقل الباطن، مجموعة من المؤلفين، ترجمة: عبد الكريم ناصيف.
8) قوة الأسطورة، تأليف: جوزيف كامبل، ترجمة: حسن صقر وميساء صقر.
9) دراسات في الحياة النفسية والاجتماعية، الأعمال الكاملة: المجلد الثاني، تأليف: ندره اليازجي.
10) قلوب على الأسلاك، تأليف: عبد السلام العجيلي.
11) الحب والغرب، تأليف: دينيس دي رجمون، ترجمة: د. عمر شخاشيرو.
12) الجنس والفزع، تأليف: باسكال كينيار، ترجمة: روز مخلوف.
13) المعجم الأدبي، تأليف: جبور عبد النور.
14) شرق وغرب ورجولة وأنوثة، تأليف: جورج طرابيشي.
15) مجلة الموقف الأدبي عدد 89 أيلول 1978.
16) مواقع الكترونية.

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع اكتشف سورية



نبيل سلامة

اكتشف سورية


تعليقات القراء

المشاركة في التعليقات:

*اسمك:
الدولة:
بريدك الإلكتروني:
*تعليقك:

الحقول المشار إليها بـ (*) ضرورية

خالدمصطفى خلوف:

اه يا فرات راح الفرح من عندك
مقيم في اليونان

ضيف اكتشف سورية
أنطون مقدسي
أنطون مقدسي
حصاد عام 2008
حصاد عام 2008
دمشق القديمة
غاليري اكتشف سورية
غاليري اكتشف سورية
 

 
 


هذا الموقع برعاية
MTN Syria

بعض الحقوق محفوظة © اكتشف سورية 2008
Google وGoogle Maps وشعار Google هي علامات مسجلة لشركةGoogle
info@discover-syria.com

إعداد وتنفيذ الأوس للنشر
الأوس للنشر