أدونيس

0


أدونيس

مقدمة

حكاية الاسم أدونيس

سيرة حياته

الجوائز التي نالها

أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب

الشكل والوزن، والوزن والإيقاع في الشعر لديه

علاقة الشعر بالفكر

الصوفية في شعره

أعماله
مجموعات شعرية
الأعمال الشعرية الكاملة
آخر دواوينه
دراسات
مختارات
ترجمات
ملخص ودراسة لبعض أهم أعماله
الصوفية والسوريالية
الثابت والمتحول
كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل
المسرح والمرايا
وقت بين الرماد والورد
هذا هو اسمي
مفرد بصيغة الجمع
الكتاب أمس، المكان، الآن
تاريخ يتمزق في جسد إمرأة
خاتمة

المراجع


مقدمة
يقول باشلار: «لا يجوز أن نقرأ الشعر ونحن نفكر في أمر آخر. فما إن تتجدد الصورة الشعرية في إحدى ملامحها حتى تبدي براءة أولية».

عندما تندفع «اللحظة الشعرية» يكف الزمن عن «الجريان»، «فيتدفق»، وتزول «أفقية الاستمرار المسطّحة» حيث يلي الحدث الحدث والإحساس الإحساس، والفرح الأسى والأسى الفرح، وتزول «الحقبة المتتالية» فيصبح كل شيء متزامناً، وهذه «اللحظة» متعدّدة الوجوه: فليس هناك تزامن واحد، بل تزامنات عديدة وُحِّد بينها عمودياً.

والحال أن في هذه الدراسة المتواضعة نحتار من أين نبدأ وأين نقف. فالأدونيسية بحرٌ واسعٌ وأمواجه تزبد وترتفع وتتلاطم في ألق الشمس. واللحظة الشعرية في هذا الخضمّ تتاخم حدود النبوءة، والكلمة تصبح رؤيا، وإذ نلمح شاعراً ندرك أنه خلف الشاعر يكمن فيلسوف، وخلف الفيلسوف يكمن متصوف، وهكذا تجمع الأدونيسية الشعر والفلسفة والتصوف في كل واحد... ويلوح لنا في البعيد هذا العملاق الذي يُدعى أدونيس، ولاشك أن حب المعرفة يدفعنا أن نعرف شيئاً عن هذا العملاق.


سيرة حياته
تقول خالدة سعيد وهي زوجة أدونيس في زيارة لها إلى منزل زوجها حيث وُلِدَ وترعرع: «في الصباح خرجنا إلى الحقل، كأنما كنت أمشي في تاريخ أعرفه، الأم تحدّثني عن طفولته الأولى. عندما نتكلم تسميه أدونيس. هناك بدا اسم أدونيس عنواناً لحكايته وقصة انتقاله بما يشبه السحر من الحقل والقرية إلى مدرسة اللاييك في طرطوس. أخته الصغرى فاطمة تسميه أدونيس. أخته الكبرى ليلى، مثل شيوخ القرية لا تتخلى عن اسم علي، ولكنها لم تعد تسميه علّوشة ولا عُلَيْشة كما كانت تناديه تحبّباً في الصغر».


حكاية الاسم أدونيس
اسمه علي أحمد سعيد، وُلِدَ في سنة 1930 في قرية فقيرة تُدعى «قصابين» قرب مدينة جبلة في محافظة اللاذقية. وهي عبارة عن أكواخ من الحجر والطين هي ما نسميه بيوتاً هناك.

يقول أدونيس: «صورة البيت مختصر للطبيعة. في الهواء الطلق: جدران من الحجر والطين، يغطيها سقف من الخشب. وكان البيت مقسوماً إلى جزأين: داخلي معتم لادخار المؤونة، حبوباً، وزيتاً وزيتوناً، على الأخص. وخارجي للجلوس والنوم والأكل والاستحمام والضيافة. في الشتاء كانت أمي تجلسني في طست كبير وتغسلني. كنت أصرخ وأبكي، خصوصاً عندما تدخل في عيني رغوة الصابون. وكانت تقول بهدوء: قلت لك أغمض عينيك، عندما أغسل رأسك».

كان يذهب كل يوم حافي القدمين إلى «الكتّاب» أي الشيخ وهو معلّم القرية لكي يتعلّم القراءة والكتابة. وهكذا حتى الثانية عشرة من عمره لم يعرف مدرسة نظامية. وكانت أقرب مدرسة إلى القرية تبعد مسافة طويلة لا يقدر طفل في سنه أن يجتازها مرتين يومياً. وحتى هذه السن لم يشاهد سيارة ولم يعرف الراديو ولا الكهرباء وبالتالي لم يعرف المدينة. بعد أن أنهى تعلم الكتابة والقراءة عند شيخ القرية قرر والده أن يرسله إلى تلك المدرسة البعيدة في القرية المجاورة.

يروي أدونيس في سياق حديثه عن طفولته أن ثمة نهر يفصل بين القريتين، وفي أحد أيام الشتاء لما كان عائداً من المدرسة إلى القرية تحت مطر غزير مع ابن مختار القرية وهو يكبره سناً، فقد أجفلهم رؤية النهر طائفاً وهادراً وعوضاً عن العودة إلى المدرسة فقد خاض الأكبر سناً ودعاه أن يخوض مثله، وإذّاك بدأ الماء يغمره حتى الصدر، ثم الكتفين ثم العنق وكان المطر شديداً وبمعجزة وصل إلى الضفة الثانية وكان عبور النهر مجازفة كبيرة والنجاة معجزة وعناية خفية.

يقول أدونيس: «هذا النهر الذي كاد أن يأخذني معه إلى سرير النوم الأبدي، هو نفسه الذي كان يأخذ أيام طفولتي بين أحضانه، غدراناً، ومغاورَ، صخوراً وأعشاباً، أشجاراً ونباتاتٍ. كانت الألوان على ضفافه تتنوع وتتدرج، وكنت أمنحها عيني كأنني أمنحها للحلم. كنت أشعر أن وجودي بينها ليس إلا صورة، مزيجاً منها جميعاً».

«كانت طفولتي تنسّماً لمجرى النهر، لضفافه، ولما حولها، ولما تحتضنه. كان طيفٌ يمسك بيدي، ويجري معي، نجلس تارة على صخرة، ونخوض تارة في مائه المحمول على بساط من الحصى والرمل. وكنا نتمرأى في غدرانه، وننظر بشغف إلى أسماكها الصغيرة، ونمد أيدينا نحوها، إليها، ونحسب أننا نحوّل الماء نفسه إلى طست كبير تلعب فيه مع أيدينا».

«"ماذا أقرأ؟" سؤال كان شاغلي الأول، فيما كنت أتتلمذ، وأنمو. الشعر العربي القديم؟ أعرفه، وبه انجبلت طفولتي الأولى في القرية، وذلك بتوجيه أبي وسهره على تربيتي. كانت الحياة شعره الأول والأساس، أما شعره بالكلمات فكان عنده هامشياً. غير أنه كان قارئاً محباً للشعر، وبصيراً باللغة العربية وأسرارها. على يديه قرأت بشكل خاص، المتنبي وأبا تمام، والشريف الرضي والبحتري والمعري، وعشرات آخرين، في دواوينهم، أو في مجاميع شعرية، وبخاصة "الحماسة" لأبي تمام. إلى ذلك علّمني القرآن وتجويده».

وهكذا فإن أيام أدونيس كانت تمضي وفي كل ليلة قراءةٌ للشعر وحده أي الشعر العربي القديم وكان ذلك بعناية والده وسهره على تربيته. كانت القراءة تتم بصوت عالٍ، وأمام ضيوف يحبّون السماع. ويذكر أدونيس أن القراءة لم تكن بالرأس وحده بل كان يقرأ بقلبه وحواسه وجسده كله.

وبعد السماع كان يأتي امتحان الصرف والنحو. إعراب هذه الكلمة، هذا البيت، وذكر وجوه الخلاف هنا أو هنالك ثم يأتي امتحان المعنى، ما معنى هذا البيت؟

كل ليلة تقريباً، كانت تتكرر القراءة. وكانت الكتب قليلة. وكانت غالباً تُستعار، وغالباً، لا تُردّ. وكان كل من يملك كتاباً في القرية مقامه يعلو ويرتفع.

 وهكذا مضت الأيام إلى أن أصبح عمره ثلاث عشرة سنة فراوده حلم يقظة رسم فيه الطريق إلى دخول المدرسة. وكان أن الرئيس الأول شكري القوتلي للجمهورية الأولى السورية بعد الاستقلال وزوال الانتداب (أي في عام 1943-1944) سيزور منطقة اللاذقية، ضمن برنامج زيارته للمناطق السورية. وهكذا فكّر أدونيس أنه سيكتب قصيدة يلقيها أمامه مرحباً، وأنها سوف تعجبه وسوف يطلب ليراه، وسوف يسأله عما يريد وحينئذ سيجيب أنه يريد التعلّم، وسوف يعمل على تحقيق هذه الإرادة. وهكذا كان بعد إصرار وإرادة جبّارة من قبل طفل بلغ هذا العمر الصغير. وبعد تقديمه القصيدة أمام رئيس الجمهورية دعاه الرئيس قائلاً له:
-
ماذا يمكن أن نقدّم لك؟ ماذا تريد؟
- أريد أن أدخل المدرسة، أريد أن أتعلم؟
-
سنفعل ذلك إطمئن

هذا هو الحوار الذي بدأ بتغيير مسار حياة شاعرنا، فبعد حوالي أسبوعين جاء الدرك يبلغونه: «أنت مطلوب لكي تذهب إلى طرطوس، وتدخل المدرسة»، ودخل أدونيس مدرسة اللاييك بطرطوس على نفقة الدولة. بعد البروفيه تابع دراسته الثانوية في اللاذقية.

أما حين اتخذ اسم أدونيس فقد كان في حوالي السابعة عشرة من العمر. لقد كان يكتب آنذاك نصوصاً شعرية ونثرية يوقعها باسمه العادي: علي أحمد سعيد، ويرسلها إلى بعض الصحف والمجلات آنذاك للنشر، لكن أياً منها لم يُنشر في أية صحيفة أو مجلة. ودام هذا الأمر فترةً، فاستاء وغضب، وأثناء ذلك للمصادفة وقعت في يده مجلة أسبوعية قرأ فيها مقالة عن أسطورة أدونيس: كيف كان جميلاً وأحبته عشتار، وكيف قتله الخنزير البري، وكيف كان يُبعث كل سنة في الربيع، فهزّتْه الأسطورة وفكرتُها وقرر أن يستعير من الآن فصاعداً اسم أدونيس ويوقّع به. وقال في ذات نفسه أن هذه الصحف والمجلات التي لا تنشر له، إنما هي بمثابة الخنزير البري الذي قتل أدونيس.

وبالفعل كتب نصاً شعرياً وقّعه باسم أدونيس وأرسله إلى جريدة لم تكن تنشر له، وكانت تصدر في اللاذقية، وفوجئ أنها نشرتْه. ثم أرسل نصاً ثانياً فنشرته على الصفحة الأولى، أرفقها المحرر بإشارة تقول: المرجو من أدونيس، أن يحضر إلى مكاتب الجريدة لأمر يهمّه.

فذهب إلى مكاتب الجريدة، وعندما دخل واستقبله أحد المحررين بدا عليه أنه لم يصدق أنه أدونيس، فدخل مسرعاً إلى رئيس التحرير وأخبره بحضوره. وحين دخل إلى غرفة رئيس التحرير بدا هو أيضاً كأنه غير مصدق، فقد كان ينتظر شخصاً بقامة رجل، فرأى أمامه قروياً، تلميذاً بسيطاً وفقيراً. ومنذ ذلك الوقت كان اسم أدونيس غالباً عليه.

يقول أدونيس: «والحق أنني لم أكن أعرف حين اخترت هذا الاسم، أنه ينطوي على رمز الخروج من الانتماء الديني، القومي، إلى الانتماء الإنساني، الكوني، وأنه سيثير مثل هذا العداء في الأوساط الدينية، القومية. ولئن كان الأمر كذلك، فإن على هذه الأوساط أن تحذف آلاف الكلمات من معجم اللغة العربية، ومن لغة الحياة العربية اليومية، وأن تحذف كذلك عشرات الكلمات التي وردت في القرآن الكريم، والتي ليست من أصل عربي. لكن بالمقابل هناك اليوم عشرات العرب الذين يسمّون أبناءهم باسم أدونيس، من عدن حتى بيروت».

وفي عام 1950 كانت المحطة الأخرى هذه المرة هي دمشق حيث دخل أولاً كلية الحقوق فأمضى قرابة السنة، ثم رأى أنه لا يستطيع المتابعة فيها فانتقل إلى كلية الآداب قسم الفلسفة، فقد كان يشعر أن قسم اللغة العربية لن يفيده شيئاً، لأنه كان يعرف مسبقاً لغة وشعراً ما سيدرسه فيها. لذلك اختار الفلسفة لعلها تفتح له آفاقاً فكرية جديدة عليه. ومع ذلك فإنه لم يتابع دراسته في هذا القسم بانتظام فقد كان عملُه يحول دون ذلك.

وأثناء إقامته في دمشق انخرط في الحزب السوري القومي، وتعرّف إلى زوجته خالدة سعيد والتي كانت طالبة من خارج الجامعة وتدرُس في «دار المعلمات» في دمشق نفسها.

في سنة 1954 نشر قصيدته الطويلة «الفراغ» في مجلة «القيثارة» أولى المجلات العربية الخاصة بالشعر في سورية وكانت تصدر في اللاذقية، وأخذت الأوساط الشعرية العربية تعترف به بدءاً من هذه السنة التي نشر فيها قصيدته هذه، وهي التي كانت نقطة الوصل بينه وبين يوسف الخال الذي كان قد قرأها وهو في نيويورك في الأمم المتحدة وأُعجِب بها كثيراً.

 لقد كانت سنة 1954 حافلةً، فهي السنة التي اختتم فيها دراسته الجامعية، وبدأ يهتم بقراءة الشعر السوري خاصة، فقد كان نزار قباني يملأ دمشق فهو الذي كان يعلّم الحياة اليومية كيف تتحول هي نفسها إلى قصيدة، وكان بدوي الجبل الصدر الذي يحتضن جسد الشعر العربي، وعرف فيه سلوكاً ينتظم فيه العقلُ والقلبُ وهو يقول فيه: «كان بدوي الجبل جبلاً، لكنه كان في الوقت نفسه موجاً». وكان عمر أبو ريشة يستدرج الواقع بقسوة حيناً وبلين حيناً، لكي يصير على مثال صوته نفير حرية وتحرر. وكان شاعر آخر هو نديم محمد الذي يعتبر مجموعته الشعرية من بين أهم المجموعات العربية في النصف الأول من هذا القرن. وبين الأصوات الشعرية التي كانت تجيء من خارج دمشق، كان صوت سعيد عقل، الأكثر حضوراً بالنسبة له.

وهكذا فهذه السنة الحافلة هي السنة التي بدأ فيها بخدمة العلم أيضاً، وهذه المرحلة دامت سنتين أمضى منها قرابة السنة في كلية ضباط الاحتياط إلا أنه لم ينجح في هذه الكلية حيث جميع زملائه تخرجوا برتبة ضابط إلا هو تخرج برتبة رقيب أول. وأمضى قرابة السنة أيضاً منها في سجن المزة بدمشق وفي السجن العسكري بالقنيطرة، وذلك بسبب انتمائه للحزب السوري القومي الذي كان ممنوعاً آنذاك وقد تركه عام 1960.

وفي سنة 1955، أخذ من إحدى المكتبات في حلب -حيث أمضى جزءاً من فترة خدمة العلم- مجموعاتٍ شعرية لشعراء فرنسيين بينهم رينيه شار وهنري ميشو وماكس جاكوب. ويقول أدونيس عن هذه المرحلة: «عملت هذه القراءة على تعميق الهوة، وتوسيعها بيني وبين الثقافة التي كانت تسود حياتنا. وكثيراً ما كان يُخيّل إلي أنني أسمع في داخلي صوتاً يقول لي: استمسك، اعتصم، وحاذر أن تسقط في أي شيء، إلا في نفسك، وعليك هنا أن تسقط عمودياً، وأن تسلك الطريق الأكثر رحابة، ما لا قرار له، وما لا ينتهي، إذ بدءاً من ذلك، تستطيع أن تهبط في أعماق الأشياء».


وفي سنة 1956 أنهى خدمته الإلزامية وتزوج من خالدة سعيد وانتقلا إلى لبنان واستقرا في بيروت. وفي أواخر تشرين الأول 1956 في الأسبوع الأول من وصوله إلى بيروت التقى بيوسف الخال ومنذ لقائهما نشأت بينهما صداقة قوية، وكانت بدايةُ مجلة «شعر» أفقاً جديداً للشعر العربي. وكانا كمثل شخصين يسكنهما هاجس واحد من أجل قضية واحدة: «التأسيس لكتابة شعرية عربية جديدة». لقد كان يوسف الخال يطمح إلى وضع الشعر العربي من جديد على خارطة الشعر في العالم. وفي مطلع 1957 صدر العدد الأول من مجلة «شعر».

يقول أدونيس: «ضم العدد الأول، على سبيل المثال قصيدة تفعيلية حديثة للشاعر سعدي يوسف، وضمّت بالمقابل قصيدة لشاعر على طرف النقيض فكراً وشعراً هو بدوي الجبل، وهي قصيدة كلاسيكية من طراز نادر ورفيع. هكذا لكي تؤكد أنها ليست "قطيعة" مع التراث وليست "هدماً" له، وإنما هي أفقٌ آخر في شعرية اللغة العربية، وهو أفق يتآخى مع الآفاق الأخرى ومن ضمنها أفق الفترة التأسيسية، فترة ما قبل الإسلام. وكل ما ركّزَتْ عليه أن هذا الأفق الذي تفتتحه يُوسع حدود الشعر التي وضعها أسلافنا، ومن ثم يطرح مفهوماً آخر للشعر يتسع للكتابة خارج الوزن أو لكتابة الشعر نثراً، شريطة أن يخرج النثر من نثريته. ولهذا ركزت في هذا المفهوم على طبيعة اللغة الشعرية وعلى جماليتها، لا على الوزن».

وكانت المجلة تقيم ندوة أسبوعية باسم «خميس شعر» كان الشعراء المقيمون والضيوف العابرون يلتقون فيها، ويقرأ من يشاء منهم آخر ما كتبه أو بعض ما كتبه ثم يناقش الجميع في ما سمعوه، بحرية كاملة ومحبة كاملة. ودامت هذه الفترة من عام 1957 إلى 1963 وبعدها افترق أدونيس ويوسف الخال.

بعد «شعر» وبعد نكسة 1967 أصدر أدونيس ومن بيروت مجلة «مواقف» وكانت تعنى بالأنشطة الأدبية والثقافية الجديدة.

سنة 1973 حصل أدونيس على دكتوراه الدولة في الأدب من جامعة القديس يوسف في بيروت، وموضوع الأطروحة التي صدرت بعد ذلك كان «الثابت والمتحول».

بدءاً من عام 1981 تكررت دعوته كأستاذ زائر إلى جامعات ومراكز للبحث في فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة وألمانيا، وتلقى عدداً من الجوائز اللبنانية والعالمية وألقاب التكريم، وتُرجمت أعماله إلى ما يقارب الثلاث عشرة لغة.

غادر بيروت في 1985متوجهاً إلى باريس بسبب ظروف الحرب وحصل سنة 1986 على الجائزة الكبرى ببروكسل، ثم جائزة التاج الذهبي للشعر في مقدونيا في تشرين الأول 1997.

كانت باريس الصدمة الأولى في زياراته لمدن العالم: قروي فقير لم يكن يحلم حتى برؤية دمشق أو بيروت، وها هو في باريس، لقد كان الواقع بالنسبة له مثل الحلم. يقول: «قد بقيت في باريس فترة لا أعيش إلا بوصفها حلماً. مرةً سرتُ منتشياً من برج ايفل إلى مقهى الدوماغو تحت رذاذ مطر خفيف. تبللت طبعاً ثيابي وجسدي واخترقت الماء والحصى نعل حذائي. وما كان أسعدني. ربما بسبب من سيطرة هذا السحر، لم أقدر أن أتابع دراسة الفرنسية في مدرسة «الأليانس»، فبعد أسبوع من دخولي إليها قررت أن أهجر الدراسة نهائياً. وغرقتُ في التعرف على المدينة حياً حياً وشارعاً شارعاً. غرقتُ كذلك في التعرف على شعرائها وكتّابها وعلى نشاطها الثقافي بقدر ما كنت أستطيع. وفي فترة قصيرة نسبياً -أقل من سنة- تعرفت على عدد من أهم الشعراء، ونشأت بيني وبين بعضهم صداقة لا تزال قائمة حتى الآن».

ولقد كانت باريس بالنسبة إلى أية مدينة أخرى غيرها مثل اللغة العربية إلى بقية اللغات. لقد كانت تحول دون دخول أية مدينة أخرى، كما اللغة العربية التي تحول دون أن تدخل إلى نفسه أية لغة أخرى. ففي طوكيو أُخِذَ بالأسواق الشعبية، في بكين وشنغهاي أُخِذَ بحسن الضيافة وهو يذكر أنه زار المركز الإسلامي ومسجده في بكين، فاستقبلته امرأة جميلة اسمها فاطمة كانت هي التي تشرف على شؤونه، وزار السور المشهور ووقف في الطواف عند نقطة لم يشأ أن يمضي إلى أبعد منها، وعلق المترجم ضاحكاً: «إنها النقطة بالضبط التي وصل نيكسون ولم يشأ هو أيضاً أن يمضي إلى أبعد».

 أما نيويورك فهو يذكر أنها المدينة الثانية التي أحدثت فيه انقلاباً نفسياً وفكرياً بعد باريس، ويصفها على أنها «جهنم الفكر، جنة الحواس، في جسد واحد» وكتب عنها قصيدة «قبر من أجل نيويورك». تعرّف إلى موسكو وعرف فيها عدداً من شعرائها، وكذلك آلما آتا عاصمة كازاخستان وهي مدينة إسلامية، وعندما زار مسجدها أخذ الناس يلمسون ثيابه ويتبركون لأنه آتٍ من جهة المدينة المنورة. وهكذا انتهى إلى أن الشرق والغرب أشبه بمصطلحين جغرافيين وأنه حضارياً الكون واحد والفرق في هذه البقعة أو تلك فرق في الدرجة لا في النوع.

أما عن السياسة الغربية الأميركية على وجه الخصوص فهو يراها على أنها لا تحب هذا النوع من الكلام الشعري البسيط. فهي تريد على العكس أن «تُعَوْلِم» الكون في سوق واحدة تهيمن عليها، تريد أن تُذَوِّب «الشرق» في «الغرب» غربها، لا تريد أنداداً أو مشاركين أو محاورين وإنما تريد تابعين سامعين طائعين، وهي آخذة في تحقيق ما تشاء!!

في 2007، كان أدونيس أحدَ المرشحين لجائزة نوبل للآداب ولكن للأسف لم ينَلْها.


الجوائز التي نالها
جائزة الشعر السوري اللبناني: منتدى الشعر الدولي في الولايات المتحدة الأمريكية، 1971
جائزة جان مارليو للآداب الأجنبية: فرنسا، 1993
جائزة فيرونيا سيتا دي فيامو: ايطاليا، 1994
جائزة ناظم حكمت: تركيا، 1995
جائزة البحر المتوسط للأدب الأجنبي: فرنسا 1996
جائزة المنتدى الثقافي اللبناني: فرنسا، 1997
جائزة التاج الذهبي للشعر: مقدونيا، 1998
جائزة نونينو للشعر: ايطاليا، 1998
 جائزة ليريسي بيا: ايطاليا، 2000


أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب
سئل أدونيس في إحدى حواراته: «مررتَ في مراحل متعددة من حيث اللغة الشعرية من حالة التأصيل التراثي، إلى حالة الكسر والتفتيت وفتح اللغة على العالم. وهذا طبعاً أدى إلى أن تمر قصائدك في حالات متعددة: القصيدة التي تعتمد نظام البيت، القصيدة التي تعتمد المقطع، ثم مرحلة المعمار القصيدي الكامل. في ضوء ذلك، ما علاقة قصيدتك تاريخياً بالنتاج الشعري العربي الموروث والسائد، وما علاقتها ببنية القصيدة الأوروبية الحديثة؟».

يجيب أدونيس: «فيما يتعلق بالشعر الموروث، أشعر أن هناك روابط فنية عميقة بين كتابتي الشعرية والمنحى الشعري الذي بدأ بامرئ القيس وذي الرمة واكتمل مع أبي تمام وتفرع بعده خصوصاً عند الشريف الرضي. وهو المنحى الذي يؤكد على اللغة-الصورة، ويؤكد على الذات وعلى الإبداع. كما أشعر أن هناك صلات فنية بيني وبين أبي نواس والمتنبي: الأول في توكيده على خرق السائد، والثاني في مأساويته التي تلبس الفرح والهجوم، وفي إحساسه بالتفرد والغربة. أما فيما يتعلق بالشعر السائد، فإن علاقتي به إنما هي علاقة الهدم والتجاوز».

يتابع أدونيس: «أخيراً لا أرى أن هناك ما يمكن أن نسميه قصيدة أوروبية حديثة، وليس هناك بالتالي «بنية» لهذه القصيدة. هناك قصائد متنوعة متناقضة وهناك بحث متنوع خصب، والمرحلة الراهنة في أوروبا هي إجمالاً مرحلة بحث وتجريب، وإذا كان ثمة من علاقة بين قصيدتي وهذه المرحلة فمن الممكن القول أنها علاقة البحث والتجريب».

وكذلك قيل له في الحوار نفسه: «إن الكتابة بالنثر استجابة للحركة النفسية، واستناداً إلى ذلك يقول هؤلاء أنها أكثر تقدماً من الكتابة بالوزن. فما رأيك؟».

يجيب أدونيس يقول: «هذا حكم خاطئ على الكتابتين. ولعل الخطأ ناتج في أكثر جوانبه عن المزج بين الوزن كإيقاع أصلي والوزن كنمطية، أي بين الوزن كتموج فطري في أعماق النفس والوزن كتشكل بارد على سطح اللغة، بين الوزن كحركة والوزن كقاعدة، ولا أظن أن المسألة هي مسألة أفضلية بين الكتابة بالوزن والكتابة بالنثر أو مسألة أسبقية. فحين كُتِبت القصيدة الموزونة الأولى كان شاعرها يؤسس بداية عالم جمالي جديد، لكن هذا العالم أخذ يبهت ويفسد حين لم يعد الشعراء لسبب أو آخر قادرين على البدء من الحركة الأولى شأن البادئ الأول، وحين أخذوا يكررون فعله ويقولبونه ويضعون له قواعد وقوانين، بدل أن يكتبوا الشعر بقوة الدفع في كيانهم أخذوا يكتبونه بقوة المحاكاة والتقليد. الشعر الجديد ليس ضد الوزن، وإنما هو ضد النمطية. ولا توجد النمطية في إطار الوزن وحسب، وإنما توجد كذلك في إطار النثر. وأنت، حين تتعمق في كثير من الشعر المكتوب نثراً، سترى أن فيه نمطية قاتلة هي نمطية الجملة الشعرية: ثمة شكل للجملة يتكرر باستمرار، صيغة وإيقاعاً».

يتابع أدونيس: «هكذا يبدو بأن الكتابة بالنثر أكثر تقدماً من الكتابة بالوزن، قول سطحي لا أساس له من الشعر. إن قصيدة النثر لا تحمل من حيث أنها نثر أية قيمة جمالية أو شعرية. وما يصح هنا يصح كذلك على قصيدة الوزن، فمجرد الكتابة بالوزن لا يتضمن بالضرورة الشعر. والمفاضلة بين قصيدة وزن وقصيدة نثر لا تقوم على كون هذه نثراً، وكون هذه وزناً، وإنما تقوم على ما تختزن كلتاهما من الشعر: طاقة الكشف والتجاوز، وغنى البنية التعبيرية».


الشكل والوزن، والوزن والإيقاع في الشعر لديه
أدونيس يعتبر الشكل الموسيقي حتى الآن أنجح الأشكال، ولكنه ليس الشكل الوحيد فهو ظاهرة خاصة من ظواهر الإيقاع، وبالتالي فهذا يعني أن هناك مجالاً واسعاً لأشكال موسيقية جديدة أي لأوزان شعرية جديدة. أما عن التفريق بين الوزن والإيقاع فهو يعتبر أن الإيقاع تناوب منتظم فالإيقاع هو تناوب المقاطع في تنسيق منتظم، والإيقاع حركة والوزن شكل من أشكالها، وليس للوزن التقليدي إلا تآلفاً إيقاعياً معيناً. ومما يميز الشعر الجديد عن الشعر القديم هو أن الجديد يحاول أن يخلق تآلفات وتناوبات إيقاعية جديدة. وفي ذلك يحاول الشعراء الجدد أن يطوروا مفهوم الشعر من الناحية الوزنية: فالشعر تآلف إيقاعي لا وزني.

وهو يقول: «بقيت الأوزان في الشعر العربي حية، متحركة، صحيحة إلى أن حاول النقاد أن يجعلوا منها قواعد نهائية يُخضِعون لها اللغة الشعرية، ومقياساًً يميزون به الشعر عن النثر. وكانوا بموقفهم هذا يستعيضون بالجزء الذي هو الوزن عن الإيقاع الذي هو الكل. من هنا جمود الأوزان وتحولها إلى قوالب، ومن هنا بالتالي جمود الشعر».

وهو يوضح فيما إذا كان الشعر العربي ينبثق من الماضي أم من المستقبل، في أنه حين يولد الشكل من الماضي وحسب يولد ميتاً لأنه يكون نسخاً. فالشكل الشعري هو الشكل الحي المتأصل، أما الحر فهو يبدو أنه آتٍ من المستقبل. إنه التأصل في الماضي لكن بحرية المستقبل ولانهائيته. فالشكل الخاص بشاعر ما لا يوجد إلا حين يحقق في آن معاً التأصل والحرية، القاعدة والحركة، التراث والتجاوز.

ومن الجدير بالذكر أن قصيدته الطويلة «الفراغ» التي نشرها في سنة 1954 وأخذت الأوساط الشعرية العربية تعترف به بدءاً من هذه السنة فقد كانت القصيدة بمثابة حدث شعري، على صعيد الشكل التفعيلي وعلى صعيد الرؤية.


علاقة الشعر بالفكر
يقول أدونيس إن هنالك نوعين من الأفكار: «الفكرة كمفهوم أو كشيء مستقل، والفكرة كحركة أو كفعالية، فالشاعر الذي ينقل أفكاراً من النوع الأول، يكون مفكراً أكثر منه شاعراً. أما النوع الثاني فهو ما يمكن أن نسميه بالفكرة الشعرية التي تمثل الوحدة بين التصور والانفعال. والفكر الذي نسميه شعرياً أو الذي لا يتعارض مع الشعر، هو الذي يكون متأصلاً في خبرة الشاعر وحياته نفاذاً ورؤيوياً. دون ذلك يكون الفكر بياناً وتفسيراً أو يكون عرضاً لبضاعة فكرية، وفي هذه الحالة نقبله أو نرفضه من حيث هو فكرٌ لا من حيث هو شعر. أما في الحالة الثانية فلا نستطيع إلا أن نقبله فنياً، وهذا ما يفسر إعجابنا بشاعر لا نشاركه آراءه أو أفكاره، فبعضنا يعجب بشاعر ماركسي الاتجاه مثلاً دون أن يكون بالضرورة ماركسياً مثله، ويعجب بعضنا كذلك بشاعر كاثوليكي الاتجاه دون أن يكون كاثوليكياً مثله».

ويتابع أدونيس: «من ناحية تطبيقية يعني ذلك أن القصيدة حين تكون فكرتُها واضحةً مفهومة وتستخدم الكلمات كأدوات مباشرة، إنما تكون قصيدةً يضع كاتبها الفكرة في المقام الأول والشعر في المقام الثاني، وحيث تطغى الفكرة يتلاشى بريق الخاصية الشعرية. شرط الفكرة إذن لكي تكون شعرية أن تتحد مع الألفاظ في كلٍّ واحد، بحيث لا نشعر ونحن نقرؤها أنها كانت موجودة سابقاً كما نشعر إزاء هذا القول مثلاً: "الرأي قبل شجاعة الشجعان... الخ" إنما نشعر على العكس أن الشاعر لا يصوغها صياغة وإنما يبدعها في نسيج القصيدة شيئاً فشيئاً، أي أنها ذائبة كالنسغ في صورها ورموزها».

ويشرح موقفه الشعري حين يقول أن الشاعر الذي يكتب في أفق معين، تجيء «روحيته الواحدة» من «روحية» هذا المذهب، أكثر مما تجيء من حركيته الإبداعية.

ويتابع: «إنني لا أنطلق مما هو مسبق أياً كان، وإنما أنطلق من تأصلي في العالم. وهذا التأصل أشبه بشجرة تمد جذورها في جميع الاتجاهات. والوحدة التي تتحقق هنا ليست وحدة خطية وإنما هي وحدة شبكية. ولا تبدو التعددية للقارئ إلا حين يحاول أن يعزل خيوط الشبكة بعضها عن بعض، لكنه في هذه الحالة لا يقدر أن يفهم أي خيط ولا يقدر بالتالي أن يفهم الشبكة. إن عالم الشاعر فضاء وليس نفقاً وما أبعد وحدة الفضاء عن وحدة النفق: الأولى تتفجر وتتطاول باستمرار والثانية تتقلص وتتقزم باستمرار، ثم إن الوحدة الحقيقية على صعيد الإبداع الشعري ليست وحدة الماء والماء، وحدة النبع والجدول؛ هذه حشو وتحصيل حاصل وليست وحدة. الوحدة الحقيقية هي في عناق العناصر المتضادة: الحياة والموت، الماء والنار، إنها الصبوة التي تتلاقى فيها الأطراف ويبدو فيها العالم الكثير المتعدد واحداً. وتلك هي خصيصة أولى من خصائص الشعر، فليس الشعر عنصراً متفرداً أو جمعاً تلقيفياً للعناصر وإنما هو الكيمياء».

وأخيراً يقول أدونيس: «أنا لا أستطيع أن أكتب قصيدة إذا لم أفهم كل شيء في مجتمعي، أن أفهم حياة العامل وأن أفهم السياسة والاقتصاد والاجتماع، وأن أفهم اليأس والأمل وأعرف الشمس والليل والنهار، يجب أن أعرف كل شيء لكي أكتب قصيدة. ومن هنا تكون لغتي الشعرية منبثقة من هذا الكل الاجتماعي الحضاري».

بعد قصيدة «فراغ» كان الأثر الآخر الذي تركه أدونيس على صفحة الشعر العربي من خلال مجلة «شعر» لقد كانت المجلة مكاناً يلتقي فيه الشعر العربي بشعر الآخر غير العربي، مما يمكن أن يُعدّ استمراراً لما قام به الفلاسفة العرب في علاقتهم بالفلسفة اليونانية، فقد جعلوا من الآخر اليوناني عنصراً تكوينياً في نظرهم الفلسفي. ومن هنا كانت تمثل انفتاحاً فنياً وثقافياً يُذكِّر باللحظات العليا من تاريخ العرب في انفتاحهم على ثقافات الشعوب الأخرى. كما صدرت عن المجلة أهم المجموعات الشعرية العربية بدءاً من «أنشودة المطر» مروراً بـ «أغاني مهيار الدمشقي» و«النهر والرماد» و«البئر المهجورة» وانتهاء بـ«لن» على سبيل المثال لا الحصر.

ويعتبر أدونيس أن التأثير الأول في الشعر العربي كان نابعاً من هذه المجلة وهو تأثير لا يتصل بطرق التعبير وحدها، وإنما يشمل كذلك قضايا النظر إلى الشعر وإلى المشكلات التي يطرحها الإبداع الشعري بعامة. كما يعتبر أدونيس أن كتاب «أغاني مهيار الدمشقي» يعد مرحلة فاصلة في الكتابة الشعرية العربية الحديثة. أما بصمة الشاعر فقد بدأت تظهر تباعاً بوضوح من خلال أعماله الشعرية والنقدية التي جسّدت نضاله الذي يتمحور حول هدف جعل وطنه الجغرافي جزءاً عضوياً من الوطن الكوني الإبداعي، وقد نجح نجاحاً كبيراً في أن يضع الشعر العربي على خارطة الشعر العالمي، وليس غريباً أن يرشحه النقاد لنيل جائزة نوبل للآداب أكثر من مرة.

وفيما يتعلق بالترجمات إلى اللغات الأخرى الفرنسية والإسبانية والإيطالية والسويدية والألمانية إضافة إلى اليونانية والتركية فيعتبرها أدونيس ناجحة خصوصاً الفرنسية والإسبانية والألمانية. ويذكر الشاعر أن هناك ترجمات أخرى في لغات أخرى: الدانمركية (مجموعة شعرية)، والإيرانية والصينية واليابانية (قصائد متفرقة)، والفيتنامية (مجموعة شعرية). وفي هذا السياق يقول: «لا أعرف ماذا أقول عنها! كل ما أعرف أن شعراء كانوا يقومون بهذه الترجمات، إلا في اليابانية والصينية فالمستعربون هم الذين يترجمونها. وأعرف جيداً الشاعر الدانمركي الذي ترجم «أغاني مهيار الدمشقي» وهو من أهم الشعراء في بلاده».

وأخيراً في صدور كتاب بعنوان «الضوء المشرقي» وفيه يصف أحدُ المفكرين العالميين أدونيسَ بالضوء المشرقي، وقد قدم للكتاب المفكر العربي العالمي إدوارد سعيد معتبراً أدونيس الشاعر العربي العالمي الأول.


الصوفية في شعره
حين سُئِلَ عن قوله أن الشعر جزء لا يتجزأ من الواقع وكيف له التوفيق بين قوله هذا وما في شعره من صوفية، يجيب أدونيس قائلاً: «قبل أن أجيب أحب أن أوضح أن الصوفية كما أفهمها تتناقض جوهرياً مع الصوفية كما يشاع عنها، وكما يفهمها الباحثون التقليديون. أحب ثانياً أن أقول أن الجواب ليس سهلاً، وأنه لن يكون في أية حال محيطاً أو كافياًً. الجواب موجزه في النقاط التالية:
  1. ليست الصوفية انفصالاً عن الواقع وليست نقيضاً للواقع، بل على العكس إن الصوفية تجربة حياتية لا تجريبية. إنها تجربة الإنسان المليء بالواقع، فالمتصوف تحديداً، نقيض النظري، الحلاج نقيض سقراط: سقراط يفضل العقل ونظامه على الحياة، يحاكم الحياة بنظام عقلاني، بينما الحلاج لا يرى العقل إلا من حيث هو حياة وتجربة، فهو يحاكم العقل بالحياة والتجربة.
  2. في الصوفية نزعة مأساوية أي تراجيدية تتم في جدل الفرد والشخص، المخلوق والخالق، الحاضر والغائب، الواقع وما وراء الواقع، الموت والحياة. الصوفية تمحو الفرد في الشخص وتذيب الشخص في كأس شخصي-لاشخصي، أي كائن يتجاوز الشخص لكنه هو نفسه الشخص.
  3. الحياة التي يؤكدها الصوفي ليست الحياة في ظاهر العالم بل في جوهره، فهو ينفي الحياة ويؤكدها في آن، أو ينفي الواقع ويؤكده في آن. ينفيه بشكله اليومي، الفاسد، العاجز، ويؤكده بشكله الجوهري الحي. الصوفي هو ديونيزوس وأبولون في آن، ديونيزوس من حيث أنه قوة اتجاه إلى الموت، وأبولون من حيث أن اتجاه هذا مرتبط أساسياً باكتشاف جسد العالم وجمال هذا الجسد.
  4. الصوفي إذن لا ينفي الحياة لأنها باطلة عدمية غبية، وإنما ينفيها لأنها تحجب الحياة الحقيقية، غير أنها كحجاب جزء لا يتجزأ من الحياة الحقيقية ومن الحقيقة نفسها، إنها صورة الحقيقة لذلك لا ينفيها بل يتجاوزها.

ولست أجد في هذا كله إلا الثورة أي تغيير الواقع وتجاوزه، فيما تحيا فيه وتحتضنه. الشعر هنا والتصوف والثورة واحد محاولة اكتشاف الجانب الآخر من العالم، الوجه الآخر من الأشياء والحياة، وبعبارة ثانية الاتجاه نحو المستقبل».

على سبيل المثال لا الحصر، يقول أدونيس إن ابتكاره لشخصية مهيار الدمشقي في «أغاني مهيار الدمشقي» تأثر بنماذج غربية: زرادشت نيتشه، وفاوست غوته، ومالدورور لوتريامون. وقد أراد من ابتكار هذه الشخصية الخروج من الخطاب الذاتي الشعري المباشر، وأن يقول عالمنا بلغة غير ذاتية، لغة رمزية تاريخية ينطق بها شخص، رمز وأسطورة في آن، وهو في ذلك أكثر من قناع إنه بؤرة تتلاقى فيها أبعاد الثقافة العربية، في شاغل رئيسي محوري: تجاوز العالم العربي القديم، إلى عالم عربي جديد.

أما عن تصوفه الشعري، تجدر الإشارة إلى إحدى تجلياته التي يذكرها إليها الباحث وفيق سليطين في ما يدعى بالصوفية مقام الحيرة.

ونحن نعلم أن أشهر من أشار إلى هذا المقام هو المتصوف والشاعر الفارسي فريد الدين العطار النيسابوري من القرن الثاني عشر في منظومته «منطق الطير»، وفيه يصف رحلة الطيور بحثاً عن السيمرغ مليكها الحق. تعبر الطيور سبعة وديان محفوفة بالمهالك والروائع، الوادي السادس وادي «الحيرة»، هناك لا يتميز الليل من النهار ولا الرؤية من عدم الرؤية ولا الوجود من عدمه، ولا فراغ الأشياء من امتلائها، وفي نهاية سفرها المرهق تجد الطيور مرآة تستطيع فيها أخيراً أن تُرى وتُعرف.

  ومن جهته فالباحث وفيق سليطين يقول: «ينطوي مفهوم الحيرة في المدوّنة الصوفية على كثير من الغنى والتعقيد والتشابك الدلالي، فهو يتكشف عن ضرورة نقد الخبرة الذاتية المتكونة داخل التجربة الصوفية». وهو يذكر المقطوعة في «أغاني مهيار الدمشقي» التي تتخذ من مفردة «الحيرة» عنواناً لها في قوله:

لأنه يحار
علّمنا أن نقرأ الغبار
لأنه يحار مرت على بحارنا سحابه
من ناره، من عطش الأجيال
لأنه يحار
أعطى لنا الخيال
أقلامه، أعطى لنا كتابه

وفي مستويات الحيرة يذكر الباحث أن الحيرة الأدونيسية تَتَناتجُ بمقتضى حركتها الداخلية، ذلك أنها مسكونة بنزوعها إلى المطلق ودورانها عليه: «وفي هذا السياق، نجد أن حيرة الأغاني تقيد إنتاج الحيرة بالمعنى الصوفي في نظام المعرفة الذي تنتسب إليه. وكما أنتجت هناك «القطب» و«الإنسان الكامل» مركز الكون، كذلك هي تنتج الشاعر الفرد الذي يحول النسبية إلى الإطلاق في صورة العارف والنبي والشامان، فهو إذن جماع المطلق والمقيّد الكلي والجزئي الإنسان-الإله».

  أما في المستوى الذي تحضر فيه «الحيرة» فيمكن أن نشير إلى مفردات مثل: «الدهشة» «التيه»، «المتاه»، «الذهول»، «الضياع»، الخ، كما في المثال التالي:

الضياع الضياعْ
الضياع يخلصنا ويقود خطانا
والضياع
ألقٌ وسواه القناع

ومن ذلك أيضاً ما نقرأه في مكان آخر:

لأنني أبحر في عينيّ
قلت لكم رأيت كل شي
في الخطوة الأولى من المسافة

يتقدم «الضياع» في الشاهد بوصفه مستوى من مستويات «الحيرة»، فهو انخلاع من يقين المنجَز والمتحقق ومغامرة بالماهية لمعانقتها معانقة أكمل وتحقيق امتلائها. ولهذا كان الضياع الأدونيسي قرين الألق والإشعاع ومؤشّر الانعتاق من جحيم الواقعة التي تضرب سياجها حول الذات والعالم. وخلاصة الأمر أن أدونيس استقدم مفهوم «الحيرة» من حقل التصوف فأعاد توظيفه في نصوص الأغاني بمستويات تناصية مختلفة مستخدماً قناع «مهيار» الذي يغدو بؤرة التشكل الشعري، ومركز البناء النصي، ومنطلق الصرف والتحويل والتشابك الدلالي. والذي يعنينا هنا أن موضوعة «الحيرة» تتركب على خاصية الخروج والانشقاق الفردي في شخصية «مهيار» وذلك ما يعيد على نحو ما، خاصية التفرد الصوفي.


أعماله

مجموعات شعرية
قصائد أولى، 1957
أوراق في الريح، 1958
أغاني مهيار الدمشقي، 1961
كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل، 1965
المسرح والمرايا، 1968
وقت بين الرماد والورد، 1970
هذا هو اسمي، 1971
مفرد بصيغة الجمع، 1975
كتاب القصائد الخمس، 1979
المطابقات والأوائل، 1980
كتاب الحصار، 1985
شهوة تتقدم في خرائط المادة، 1987
احتفاء بالأشياء الواضحة الغامضة، 1988
أبجدية ثانية، 1994

الأعمال الشعرية الكاملة
أغاني مهيار الدمشقي، وقصائد أخرى
هذا هو اسمي، وقصائد أخرى
مفرد بصيغة الجمع، وقصائد أخرى (دار المدى، دمشق، 1996)
الكتاب أمس، المكان، الآن I، دار الساقي، 1995
الكتاب أمس، المكان، الآن II، دار الساقي، 1998

آخر دواوينه
فهرس لأعمال الريح، دار النهار، 1998
تنبأ أيها الأعمى، دار الساقي، 2003
أول الجسد آخر البحر، دار الساقي، 2003
تاريخ يتمزق في جسد امرأة، دار الساقي، 2007

دراسات
مقدمة للشعر العربي، 1971
زمن الشعر، 1972
فاتحة لنهايات القرن، 1980
الثابت والمتحول، بحث في الإتباع والإبداع عند العرب، ط7، دار الساقي، 1994
سياسة الشعر، 1985
الشعرية العربية، 1985
كلام البدايات، 1989
الصوفية والسوريالية، 1992
ها أنت أيها الوقت، 1993
النظام والكلام، 1993
النص القرآني وآفاق الكتابة، 1993
موسيقى الحوت الأزرق، دار الآداب، 2002

مختارات
مختارات من شعر يوسف الخال (مع مقدمة)، 1962
مختارات من شعر السياب (مع مقدمة)، 1967
ديوان الشعر العربي (مع مقدمة)، 1964 – 1968/ ط3، دار المدى، 1966
مختارات من شعر شوقي (مع مقدمة)، 1982
الكتب التالية وُضعت بالتعاون مع خالدة سعيد:
مختارات من نصوص الكواكبي (مع مقدمة)، 1982
مختارات من شعر الرصافي (مع مقدمة)، 1982
مختارات من نصوص محمد عبده (مع مقدمة)، 1983
مختارات من نصوص محمد رشيد رضا (مع مقدمة)، 1983
مختارات من شعر الزهاوي (مع مقدمة)، 1983
مختارات من نصوص محمد بن عبد الوهاب (مع مقدمة)، 1983

ترجمات

حكاية فاسكو، وزارة الإعلام، الكويت، 1972
السيد بوبل، وزارة الإعلام، الكويت، 1972
مهاجر بريسبان، وزارة الإعلام، الكويت، 1973
البنفسج، وزارة الإعلام، الكويت، 1973
التحولات/ اوفيد، أبو ظبي
الأعمال المسرحية الكاملة لجورج شحاده، 1972 – 1975
السفر، وزارة الإعلام، الكويت، 1975
سهرة الأمثال، وزارة الإعلام، الكويت، 1975
الأعمال الشعرية الكاملة لسان-جون بيرس، 1976 – 1978
فيدر، ومأساة طيبة أو الشقيقان العدوان، لراسين، 1979
الأعمال الشعرية الكاملة لايف بونفوا، 1986


ملخص ودراسة لبعض أهم أعماله
الصوفية والسوريالية
دراسة، 1992
من الجيد البدء بعمل أدونيس «الصوفية والسوريالية» طالما تم الحديث عن شعره والصوفية. هو بحث حول الوجه الآخر لتصوفه من حيث هو طريقة في مقاربة العالم، كما يقول «صوفية المنهج لا صوفية الإيمان الديني»، وفي هذا الكتاب يُبرز أيضاً مكان المرأة، الأنوثة ودورها في الوصول لا إلى المعرفة والحقيقة وحدهما، وإنما أيضاً إلى «الألوهة» خصوصاً أن «كل مكان لا يؤنث لا يُعوَّل عليه» كما يقول ابن عربي، ويقول آخر: «فقط، عندما نسلّم بالأنوثة الجوهرية للخليقة، نصبح نحن أنفسنا رجالاً ونساءً أصيلين نتخطى محدودياتنا كذكور وإناث».

أسس الطريقة الصوفية في مقاربته للعالم حسب الكتاب
أولاً: «الظاهر» -ظاهر العالم والأشياء- ليس مكاناً للحقيقة أو للمعرفة الحقيقية ولا مصدراً، هذا المكان وهذا المصدر نجدهما في «الباطن» -باطن العالم والأشياء-. والباطن هنا يقابل -في السوريالية- ما يسمى بماوراء الواقع.

ثانياً: «الظاهر» متغير عابر منته، أما «الباطن» فحركة لا نهائية، وتبعاً لذلك ليست «الحقيقة» نقطة ثابتة نصل إليها ونقبض عليها وإنما هي انبثاق لا نهائي في تجليات لا نهائية، وهي إذن ليست جاهزة وإنما هي اكتشاف دائم، وتأسيساً على ذلك فإن المعرفة لا نهائية.

ثالثاً: اكتشاف الحقيقة يحتم على الإنسان أن يتجرد من «الظاهر» وأن يتعالى على جسده، أو أن «يقتله» لكي يتحول إلى شفافية خالصة تمكنه من الوصول إلى شفافية «الباطن» حيث تكمن الحقيقة. ويصل الصوفي إلى هذه الحالة من التطابق بين الشفافيتين: شفافية الذات وشفافية المادة، بأنواع من التدرب والرياضة «تميت» الجسد و«الظاهر».

رابعاً: في نقطة التطابق هذه بين الشفافيتين -ويسميها آندريه بريتون: النقطة العليا- تزول الفروقات والتناقضات بين الأدنى والأعلى، بين الظاهر والباطن، وتتم «الوحدة» بين الإنسان والله عند الصوفي، أما عند السوريالي فتتم المعرفة الحقيقية أو يتم «الكشف».

خامساً: هذه النقطة هي مكان الانخطاف، مكان لا سيطرة فيه للعقل أو للجسد أو للظاهر، وهي التي تتيح للصوفي أن يكتب شطحاته بوصفها إملاءً من فم الغيب الكوني. و«الكتابة الآلية» عند السورياليين هي ما يقابل «الشطح» عند الصوفيين. استطراداً: سقطت جميع الكتابات الآلية السوريالية وليس لها أية قيمة شعرية، أما الشطح الصوفي فلا يزال إشعاعه الشعري متوهجاً كأنه كتب اليوم.

سادساً: ليس للكون حد وليس للحقيقة ولا للمعرفة حد، والكون في ولادة دائمة وتجدد دائم، والإنسان في هذا كله هو المركز والمحور، إنه الكون مصغراً وفيه ينطوي «العالم الأكبر».

الثابت والمتحول
دراسة في أربعة أجزاء – دار الساقي، 1994
كان هذا العمل أطروحة الدكتوراه في جامعة القديس يوسف في بيروت، وفي هذا الكتاب حكم أدونيس على الجانب الحضاري أو الثقافي الذي ارتبط بالنظام السياسي العربي، أي نظام الخلافة، وإنما ما أُشِيرَ إلى أن الحضارة العربية ثابتة أو جامدة فإنما يعود إلى هذه الصلة بنظام الخلافة، وقيل عن هذا النظام أنه هو الثابت.

وأحكام أدونيس كانت تنطبق فقط على هذا النظام الثقافي السياسي الذي ساد، وقد أشار دائماً إلى القوى الحية التي تصارع هذا النظام الثقافي السائد والتي تطرح قيماً بديلة وثقافة بديلة وتصوراً حضارياً مغايراً، وعليه فقد سمى الجانب الأول -أي الجانب الثقافي الذي ساد والمتمثل بثقافة الخلافة- فقد سماه الاتباع، في حين سمى الجانب الآخر الإبداع. ولم يتكلم أدونيس عن الحضارة العربية ككل إلا ضمن هذا المنظور، ضمن الجدل بين الإبداع والاتباع وللأسف ولأسباب كثيرة فأن الجانب الاتباعي هو الذي ساد.

وهكذا فإن وصف أدونيس لتراث الشعر العربي كأصل ثابت يظل أكثر جدة من أي جديد، حيث يعتبر ما يُضاف إليه بأنه لا يقوم بعملية الإكمال وإنما يذوب فيه «ذوبان الموج في البحر». من هنا يتضح أن مفهومه للثبات يعني الجمود ويتجاهل الروح الجدلية للثبات، ويتعامل معه بوصفه زمناً وليس باعتباره شكلاً حاضراً لواقع متغير سابق إلى شكل جديد في إطار الاستمرارية بالتغيرية. فحين كان يقول أن الشعر العربي ذو أصل ثابت وأنه لا يمكن التجديد فيه، فكان يعني بذلك وجهة نظر السلطة وثقافتها ونقادها فقط، إذ كانت تقابل هذه النظرةَ نظرةٌ أخرى تجدد وتغير وتبدع. والدليل على ذلك أن الشعر العربي تجدد وخرج على الأصول كما خرج على النمطية الجاهلية.

كما يلاحظ القارئ بوضوح فإن أدونيس قد استخدم في هذا الكتاب منهجَ تحليل الظواهر الفكرية من زاوية ارتباطها بالعوامل الاقتصادية والمؤثرات الطبقية والاجتماعية، وهكذا في «الثابت والمتحول» كما في الكتابات الأخرى يخلق أدونيس انطباعاً بأن مفهومه للثبات ارتبط بشكل أو بآخر بآرائه بصدد أثر الدين الإسلامي في النشاط الفكري عند العرب مما جعله يربط بين الدين وما أسماه بمنحى الثبات في التاريخ العربي الإسلامي. ونستنتج بأن العقل لا الدين هو الذي يوحد الإنسان والإنسان، الأمر الذي يستدعي تحرير الدولة من الدين وإحلال العقل في قيادة المجتمع.

كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل
شعر، 1965
يقول أدونيس: «أن نملأ الفراغ يعني أن نعيش سلسلة من التحولات، أن يصير الماء ناراً والنار عشباً، فاسم الكتاب يعكس الجو السائد فيه، الذي هو جو صوفي سحري».

ويعكس تلك الصورة التاريخية وتلاقي المتناقضات: الموت والحياة، المحدودية واللانهائية، الليل والنهار، القبر والقيامة، الصليب والبعث.

المسرح والمرايا
شعر، 1968
ويضم هذا الكتاب عشر قصائد، كل منها تضم عدداً من المقاطع الشعرية التي يغلب عليها الجو الشعري المسرحي. والقصائد هي: جنازة إمرأة، لون الماء، الزمان المكسور، مرايا وأحلام حول الزمان المكسور، الرأس والنهر، السماء الثامنة، الممثل المستور، مرايا الممثل المستور، مرآة الطريق وتاريخ الغصون، وجه البحر.

في هذا الكتاب يقوم الشاعر برحلة شعرية شيقة، سفر من نوع غريب عبر القصائد وأناشيدها يتخطى الزمان والمكان ويحطم الحواجز والحدود ويستقر في أودية من الحلم والرغبة في جزر ملأى بكنوز الريح والضباب والغيبوبة والفرح. الشعر في هذا الكتاب مغامرة مع المستقبل، رؤيا على المستقبل المغلق يحاول تفتيقه بكلماته المليئة بالضوء والأشياء الحادة التي تنفتح كالحقيقة على عوالم مسكونة بالغيب والأمل.

إنه في «المسرح» يغيّر في المضمون والشكل. يتصاعد المضمون ليصلَ لحظات ذهول وعمق وتتكاثف الرؤيا لديه ويتآلف معها ويضعها على المسرح ويحاورها ولا يتركها بعيدة رمزية إلى حد الإغلاق. كما يغيّر في الشكل حيث لا تعود الشكلية الشعرية جموداً على خط معين، بل تصبح منسجمة في تطورها وإبداعها مع القصيدة ككل مع الشعر ككل.

هنا شعره مسكون بهموم المستقبل، إنه شعر ثورة. إنه الشعر الذي لم يثقله الفكر والتأمل والفلسفة على حساب الشعر، لقد ظل شعراً وتجانس مع الفكر، انسجما وكونّا وحدة من التناغم والإيقاع والرؤى وهذا شيء صعب جداً. إذ نجد شاعراً آخر مثلاً يضمّن قصائده فكراً وتأملاً فينقص من قيمة الشعر كإبداع، وهذا ما لا نلاحظه عند الشاعر وهذه ميزة من ميزاته العديدة.

في هذه المجموعة يعتمد أدونيس على الماضي أي على التاريخ العربي، والاعتماد هنا لا يعني الانكفاء والتقلص وإنما يعني عودة إضاءة لأحداث التاريخ العربي. عودةُ فهم جديد لأحداث هذا التاريخ في ضوء الحاضر الذي نعيشه والمستقبل الذي نتطلع إليه، هكذا تفرغ أحداثه من تاريخيتها العادية ومن وقتيتها لتصبح رموزاً. فالشعر هنا متصل بواقعنا الخارجي في الماضي والحاضر لكنه في الوقت نفسه ينفصل عنه تطلعاً إلى واقع آخر أبهى وأكمل، إنه يخلق التاريخ الآخر الإنسان الآخر، فهو شعر يتجه إلى المستقبل فيما ينبثق من الماضي. لكن قيمته الأولى تكمن في اتجاهه نحو المستقبل لا في انبثاقه عن الماضي، غير أن معرفة الماضي هي التي تتيح له أن يتجاوزه إلى المستقبل، فمن لا يعرف الماضي لا يعرف المستقبل ولا يعرف الحاضر كذلك. إن الشعر الذي لا يكون مسكوناً بالمستقبل لا قيمة له، والمستقبل لا يسكن الفراغ ولا يسكن الشعر المقتلع، الغائب الهائم، دون أصول أو تاريخ، فالشعر يرى نفسه يتحقق ويكتمل في التاريخ، هذا يعني أن الإبداع الشعري، لا يكتمل إلا بالإبداع التاريخي فالتغيير إنساني شامل لا فني وحسب.

وقت بين الرماد والورد
شعر، 1970
يعبر غسان كنفاني عن هذه المجموعة الشعرية في حوار أجراه مع أدونيس: «وهو يجيء اليوم في شكل قصيدته الجديد لا ليطرب أو يغني أو يفرح بل ليخلخل ويعصف ويبدأ. وبداية الشاعر هنا شبكة مسكونة بهموم الكون وفعل ثوري يتسلل من «حصار المذابح» إلى «رفض الآخرين» الذين يقومون بعملية الحصار والذبح سلباً أو إيجاباً. ويريد أن نبدأ:
من أنين الشوارع من ريحها الخانقه
من بلاد يصير اسمها مقبره

  لم ييأس الشاعر بل انتفض، صار «الحلم والعيون» ظهر في «كوخ على الأردن» اقتحم الشاعر وارتفع صوته:
وجه يافا طفل
هل الشجر الذابل يزهو؟
هل تدخل الأرض في صورة عذراء
من هناك يرجّ الشرق؟
جاء العصف الجميل
ولم يأتِ الخراب الجميل
صوت شريد

ترى هل أن «العصف الجميل» هنا هو هذا «الخراب الجميل» أم أنه الوجه الآخر من الشعر؟ إن أدونيس في مجموعته «وقت بين الرماد والورد» شكل شعري جديد مغاير لشكل الشعر العربي لكنه إذ يحول القصيدة الحديثة من مسارها المألوف، ويتجاوز بها كل القصائد التي كتبها أو كُتِبَت قبله، يوقعنا في حيرة شعرية مذهلة بالنسبة للوزن وبالنسبة للمضمون كذلك».

هذا هو اسمي
شعر، 1974
هذه القصيدة هي «عالمه الجواني» يرفض كلَّ مقنن ثابت في الشعر، حيث يكتب أدونيس قصيدةً كونية تعانق الإنسان والعالم وترصد حركات الآتي من ناحية المستقبل، فهو الشاعر الرائي الذي يخلخل الثبات والمحدودية ويخترق ظاهر العالم إلى باطنيته، حيث مدائن الداخل الغنية بالإشراقات والتجليات، والشاعر بدوره يعبّر عن هذه القصيدة على أنها دليل على الحب الذي هو هدير في هذا السيل من الهيام بالكون.

ويقول غسان كنفاني: «إن أدونيس في حبه عاشق كبير، يكتب قصيدته العشقية "هذا هو اسمي" بعصب الجنون وأنين النار والثورة، يقول:
"كنت الصحراء حين أسرت الثلج فيك
انشطرت مثلك رملاً وضباباً
...
حين أدخلتك في صرتي تناسلت في خطوي طريقاً دخلت في مائي الطفل
استضيئي تأصلي في متاهي"

ومتاه «أدونيس» هو «خدر مثمر يعرش حول الرأس» و«جنون يمشي على جليد ملذاته» لكنه حين يتأصل في شمس حبيبته يأتي صوته صافياً أبيض ويصرخ:
"انصهرنا
دم الأحباء كالأهداب يحمي
سمعت نبضك في جلدي (هل أنت غابه؟)
سقط الحاجز (هل كنت حاجزاً؟)
سأل النورس خيطاً في البحر يغزله الربان على ثلج المسافر شمساً لا يراها (هل أنت شمسي؟)
شمسي ريشة تشرب المدى
سمع الضائع صوتاً (هل أنت صوتي؟)
صوتي زمني نبضك الشهي ونهداك سوادي وكل ليل بياضي"

هكذا كتب أدونيس قصيدة حبه بشكل جديد لم يألفه الشعر العربي لا في الشكل ولا في المضمون، كما كتب في الماضي قصائد أخرى كانت مستقلة بعضها عن بعض ومنفصلة عن موضوعاتها العشقية، لكن ما يهمنا من حب أدونيس الشاعر هو عشقه المسكون بأبد الحب!».

مفرد بصيغة الجمع
شعر، 1975
هي محاولة لإخراج القارئ من دائرة الأذن والسماع، من دائرة الخطابة إلى عالم التمعن والتأمل والبحث في عالم الكتابة. هكذا لا يعود العالم يتجلى للقارئ كخيط صوتي وإنما يتجلى كنسيج أو نص تتداخل فيه شبكياً الكلمات، والإشارات، والرموز، والخطوط، والأشياء، والتخيلات، والصور.

يقول أحد الباحثين عن قصيدة «مفرد بصيغة الجمع»: «إنها تنمّ عن اتجاهين: الأول يتميز بتمزق وتشتت وتصارع وتضاد، يمكن أن يقال عن ذلك كله بأنه فعل تعبير حر يرسم للإنسان نمطاً أو منحى. والثاني يتبلور بشكل هندسي معماري جديد، وبهيكلية جديدة مرتبطة بحضارة العصر (الحركات، الفواصل، الرموز، الأشكال، المعادلات، المداخلات... الخ). والتمحور حول الذات دعامة أساسية تدور عليها هذه القصيدة لتؤكده كظاهرة فريدة أو حالة استثنائية أو جواب فرد على سؤال الجمع، فالتركيز على التواريخ 1930، و1933، و1940، و1950، و1973، و1975 يدل كما يبدو على محطات رئيسة في حياة أدونيس ومراحله المختلفة».

ويقول أدونيس في حواره: «صحيح أن هناك تمحوراً حول الذات لكن ليس من أجل التقوقع فيها، بل من أجل تعميق الهجوم على الموضوع، أعني على العالم وعلى الأشياء ومن أجل مزيد من فهم العالم والأشياء. إنها ذاتٌ بصيغة الموضوع أي موضوعٌ بصيغة الذات، وهذا واضح جداً في الأقسام الأربعة التي تتدرج فيها القصيدة. ثم إن هذه التواريخ ليست إلا رمزاً للتمثيل لا للحصر، فهناك تواريخ في حياتي لم أذكرها، أكثر أهمية أو على الأقل لا تقل أهمية عن هذه التواريخ المذكورة».

الكتاب أمس، المكان، الآن
شعر، دار الساقي، 1995-1998
يقول أدونيس أن القصيدة الغنائية القصيرة المفردة أصبحت ضيقة على الشعر، ولم تعد تتسع له إلا مساحة بحجم التاريخ، هكذا يتمسرح التاريخ العربي في هذا الكتاب كأنه شريط سينمائي جامع، ترى في كل منظر منه أي على كل صفحة من هذا الكتاب، كيف تتقاطع الأزمنة الثلاث وكيف يتلاقى الذاتي والموضوعي وكيف يتصارع القديم والجديد. ويذكر أدونيس أن بنية الصفحة في هذا الكتاب تستفيد من الفن السينمائي.

ليس هذا الكتاب مجرد «حفر أركيولوجي في الجانب المظلم من التاريخ العربي»، وإنما هو حفر شامل في هذا التاريخ بوصفه كلاً لا يتجزأ بجوانبه المظلمة وجوانبه المضيئة على السواء، إضافة إلى ذلك الصوت الخافت تحت التاريخ أو على هامشه أو ما وراءه والذي يصفه بأنه صوت من لا أحد لأنه صوت الكل. وهو ما يتمثل على نحو خاص في القسم الأسفل من متن كل صفحة في الكتاب. وكم نستمتع ويذهب خيالنا بعيداً حين نسمع هذا الصوت ينشد مرة:
يسأل الرعد في هذه الغيوم التي
تتلبّد في يأسه
كيف يبقى بعيداً قريباً إلى رأسه؟

تاريخ يتمزق في جسد إمرأة
شعر، دار الساقي، 2007
يقول فيه الباحث بيار أبي صعب أن أدونيس في ديوانه الأخير هذا يسترسل في «نحته الواعي» للعبارات والصيغ والإيقاعات والصور كي تتسع للرؤيا ويستعيد تلك الأرض الخراب التي تحتضن حضارة على شفير الزوال، ليصوغ قصيدة درامية طويلة ربما على طريقة إليوت ويستسلم إلى «هجرة لا قرار لها والطريق امرأة».

نجد الكورس الإغريقي أو الجوقة، والراوية، والرجل، والبطلة التي تقارب إلكترا، وأندروماك وميديه أيضاً، حيث البطلة امرأة مضطهدة امرأة وطفلها: «هذه سيرة امرأة عبدة وابنها نُفيَت، لا لشيء سوى أنها كسرت قيدها، ويحكى أنها زُوِّجَت لنبي وأن ابنها صار من بعدها نبياً، ولكن لم يجئ في تعاليمه أنها حُرّرت».

إنه كتاب مسكون بالعناصر الأولى، بالغسق والقمر والسماء والنخيل، مسكون بالجسد والشبق والحب الصعب ونداء الحرية والكلمات المركبة والنبوة والمجاز: «أتراني أعيش مجازاً ولست امرأة؟ خطواتي قيود ولكن جسمي فضاء. آه ما أجمل الحياة وسحقاً لجنتها المرجأة». هذا نزوع صوفي شبقي بأكثر معاني الشبق تمرداً وجودياً وعصياناً ميتافيزيقياً: «سأصلي لجسمي لثنياته ولنهديّ مسترسلين، صعوداً هبوطاً إلى كل ما جهلته النبوات فينا».

ويعود الباحث بيار أبي صعب ليقول في نصه الشعري إن أدونيس يبدو بطريركاً خارج البطريركية يعرف أن الأنوثة هي الطريق إلى الحقيقة. إنه نبي خارج على النبوة وعرّاف لا يقيم وزناً لأحكام القبيلة يأخذ بطلته إلى ذروة الفاجعة يتركها «في حالة من العذاب كأنما ليس وراءه إلا الموت»، ثم يترك للجوقة أن تعيد إليه الكلمة عند ذروة المأساة: «إنها وابنها أسيران في ظلمات بداياتها لفظة ونهاياتها لفظة، يقرأ الطالعون من الوحي ما تيسّر منها: زمن بائد ودم نافر، إهدِهم إهدِهم أيها الشاعر».


خاتمة
لا شك أن أدونيس أكثر الشعراء العرب إثارة للجدل، فهو حيناً شاعرٌ وآخراً ناقدٌ لاذع أو فيلسوفٌ أو باحثٌ. لقد ترك أدونيس لنا تراثاً أدبياً وفكرياً كبيراً، عسى أن نتفاعل بصدق مع ذلك الصوت الذي انبثق من هذه الأرض الجميلة وهذا الوطن الغالي!



المراجع
حوار نُشِر في «عيون»، إعداد مارغريت اوبانك وصموئيل شمعون
كتاب الحوارات الكاملة 1960-1980، الجزء الأول، ط1، دار بدايات، جبلة، 2005

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع اكتشف سورية



نبيل سلامة



تعليقات القراء

المشاركة في التعليقات:

*اسمك:
الدولة:
بريدك الإلكتروني:
*تعليقك:

الحقول المشار إليها بـ (*) ضرورية

ضيف اكتشف سورية
أنطون مقدسي
أنطون مقدسي
حصاد عام 2008
حصاد عام 2008
دمشق القديمة
غاليري اكتشف سورية
غاليري اكتشف سورية
 

 
 


هذا الموقع برعاية
MTN Syria

بعض الحقوق محفوظة © اكتشف سورية 2008
Google وGoogle Maps وشعار Google هي علامات مسجلة لشركةGoogle
info@discover-syria.com

إعداد وتنفيذ الأوس للنشر
الأوس للنشر