دمشق
قافلة النجوم في سجادة خضراء
ثديان من جمر وبرتقال
دمشق
الجسد العاشق في سريره
كالقوس
والهلال
يفتح بالسم الماء
قارورة الأيام
بشعر أدونيس، افتتحت نضال الأشقر أمسيتها «موسيقى الصوت الشعري» احتفاءً بمجلة «شعر» على خشبة مسرح الحمراء بدمشق.
أتَتْ نضال الأشقر مع مجموعة عازفين ومنشدين للاحتفاء بالدورية الأدبية صاحبة الأثر العميق في الشعر بشكل عام وخط الحداثة بشكل خاص، حتى يمكننا القول إن كل السلالات الشعرية الحداثية بعد «شعر» هي من نسلها أو فرع من أصل. إذ رغم قصر عمر المجلة نسبياً (8سنوات) والتي ترأّس تحريرَها الشاعرُ اللبناني يوسف الخال، إلا أنها جسدت حركة شعرية حداثية حمل لواءها طليعة من الشعراء الذين أسسوا لمشروع الحداثة، وعلى رأسهم: يوسف الخال، وأدونيس، وأنسي الحاج، وبدر شاكر السياب، ومحمد الماغوط، جبرا إبراهيم جبرا، فؤاد رفقة، خليل حاوي، وشوقي أبي شقرا؛ فقد استطاعت المجلة بمن فيها أن تؤسس لنهج الحداثة وتشق طريقاً لم يتوقف بعد. كما أسَّست لتجديد الفكر النقدي والنظرة النقدية للأدب على ضوء ما نظّر له أدونيس خاصةً، وانفتح شعراؤها على التجارب الشعرية الحديثة ليتفاعلوا مع مفهوم الحداثة من خلال ترجمة عدد من الشعراء الغربيين إلى العربية.
بهذا أنتجت المجلة أسماءً بارزة في الساحة الأدبية، إذ جمعتْ نجوم الشعر والحداثة من الصف الأول، ولم تستطع أي مجلة مجايلة لها أو آتية بعدها أن تقوم بهذا الفعل، لذا استحقت أن تفرد لها الأشقر جناحاً من موسيقى الصوت الشعري في ليلة مسرح الحمراء.
من إخراج نضال الأشقر وإعدادها، بالمشاركة مع عيسى مخلوف، وإلقاء شعري من جاهدة وهبي، وخالد العبد الله، وعلي الحوت، وعبد قبيسي، وبمشاركة مجموعة من العازفين، أتى الاحتفاء بمجلة «شعر» في أمسية كانت قصائد نجوم المجلة عمودها الفقري، وصوت الموسيقى والإنشاد لحمها ودمها.
مع أدونيس -صاحب الريادة وصاحب الاحتفاء باللغة والفكر في موسيقى شعره-، كان قبس من «قصائد أولى» بدأتها الأشقر:
أعيش مع الضوء عمري عبير
يمر وثانيتي سنوات
وأعشق ترتيلة في بلادي
تناقلها في الصباح الرعاة
لترحل المجموعة بعدها شرقاً نحو العراق نحو السياب، ابن جيكور، أول من حوَّل المطر إلى أنشودة، الفقير مالاً، عاشق ابنة الجلبي، الغني تجديداً وشعراً وتفعيلةً، وتسمو اللحظة الشعرية ويتألق القارئون: جاهدة وهبي، وخالد العبد الله، ونضال الأشقر مع اندماج العازفين، بحيث التحمت الأصوات صارخة بخليج السياب:
يا خليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى فيرجع الصدى
كأنه النشيج
يا خليج
يا واهب المحار والردى
بعدها، كان الدور لرأس التحرير، لشعر يوسف الخال، الذي لم يتنازل عن شعر إلا لانقطاع التمويل المالي، ولاصطدامه باللغة العربية التي كان يدعو إلى نفي إعرابها وقواعدها جانباً والإبقاء على جمال أدبها؛ كانت قصائدٌ من مجموعته «قصائد في الأربعين»، فأُنشدَت ملاعب العروق ثم اعتراف لتختم بقصيدة العبور:
أنا هنا وحيد
وجهي على الحجر
أعل قهوتي وليلي
وأرقب السحر
حبيبتي تنام باكراً
حبيبتي بشر
وها أنا وحيد
وجهي على الحجر
ثم نشيد من قصيدة «أوراق الشتاء» لفؤاد رفقة، الشاعر الحداثي المستند إلى فكر أغنَتْه التجربة وأنعشته دراسة الفلسفة النازع دائماً نحو التأمل والفلسفة، والمسهب في الأسئلة الكونية، فانبثق الرمز والنور يشفُّ من خلفه أبداً:
وحده الحارس باب الكلمة
يلمح البرق ويهدي
لحنين الأكمة
ضوء عينيه ويخطو ألمه
وحده الساهر يصغي
لصنف العتمة
أما شوقي أبي شقرا الملتصق قرب التوحد بالطبيعة وعناصرها، لينبشَ حداثتَه من بين تفاصيلها وكرومها، أبي شقرا الذي اختلف مع «شعر»، أو بالأحرى مع أدونيس، ضمن سلسلة «خلافات» في وجهات النظر التي سادت أواخر أيام المجلة، كانت قصيدته «التمثال»:
آه قد جاء الخريف
كحصان خشبي
للسفر
صاح كالديك القمر
ثار في حنجرتي شعب الغجر
صرت شيخاً كالهواء
صرت تمثال رفاقي الشهداء
ثم أتى دورُ المبدع أبداً والثائر أبداً، محمد الماغوط الذي ثار على نفسه عندما لم يجد من يثور عليه، المجدد المؤثر في أجيال شعرية أتت بعده بالذات، فقد استطاع أن يحفر نهجاً واضح المعالم مشت عليه مجموعة من الشعراء السوريين، بأسلوبه الميال إلى التقرير، الكاشف دائماً عن الحقيقة كما هي دون تجميل. لقد اختلف الماغوط مع «شعر» وشعرائها، لكن اسمه ظل مرتبطاً بها كغيره من نجومها. ومن قصيدة «الدموع» احتفت المجموعة به وأنشدَتْ:
تحت مطر الربيع الحار
أنتقل من مدينة إلى مدينة
وحقائبي مليئة بالجراح والهزائم
ثم أتى دور أنسي الحاج الذي أعلن رفضه منذ اللحظة الأولى لكل ما هو تقليدي في اللغة وأسمى أولى مجموعاته الشعرية «لن»، فانفك من أسْرِ أوزانها ليعتمد موسيقى شعرها، ويرحل بشعره إلى الرمزية الشفافة، يشرق من خلالها نورٌ يوصل مقاصد الكلمة ورحلة المُفردة في ذهنيته المتجددة حتى اليوم. واحتفت المجموعة بقصيدته «ماذا صنعتُ بالذهب؟ ماذا فعلتُ بالوردة؟»:
من أخبر فيلدني ناسياً
إلى من أصرخ فيعطيني المحيط
صار جسدي كالخزف ونزلت أوديتي
صارت لغتي كالشمع وأشعلت لغتي
مسرحة الشعر وتحويله إلى لغة مسرحية مع ما أضفته الموسيقى والإنشاد من جمال، كان الإطار الرائع لهذه الأمسية، التي أبقت الرهان قائماً على الفن وجماليته، بعيداً عن التشويه والانحياز نحو السهل الرديء والاستهلاك النازع نحو مزيد من الشراسة وشهوة السيطرة، رهاناً على الفن وختاماً بمختارات للأصوات الشعرية السبعة بأداء رائع «أسكرنا دون خمر» وحلق عالياً في فضاء الشعر وموسيقى مكنوناته.