02/كانون الأول/2008
- مقدمة - سيرة حياته - ولادته وتعليمه - عمله واختصاصه - خطوبته وزواجه - بوادر النضال السياسي - الوحدة وعمله الثقافي - وفاة سلمى - عودة للنضال السياسي - بداية التمثيل الدبلوماسي - تداعي ذكريات مع الرئيس الراحل حافظ الأسد - عطاء للجامعة السورية - عودة للتمثيل الدبلوماسي - مرضه - وفاته - تأبينه - الأوسمة التي نالها وتكريمه - أعماله - الترجمات في الفلسفة - الترجمات في العلوم السياسية - الترجمات في التربية وعلم النفس - الترجمات في الأدب - مؤلفات - مخطوطات - مقالات في الدوريات - سامي الدروبي سياسياً وأديباً - أولاً - سامي الدروبي والوحدة العربية - ثانياً – سامي الدروبي في الترجمة - معنى الترجمة (سامي الدروبي نموذجاً) - دوستويفسكي بقلم سامي الدروبي - البعد النفسي في أعمال دوستويفسكي بقلم سامي الدروبي - ما قيل عنه - ملخص لكتابه «علم النفس والأدب: معرفة الإنسان بين بحوث علم النفس وبصيرة الأديب والفنان» - الفصل الأول: «بين الفن والعلم» - الفصل الثاني: «الحدس الأدبي والدراسة السيكولوجية» - الفصل الثالث: «بين علم الطباع والأدب» - الفصل الرابع: «التحليل النفسي للأديب» - الفصل الخامس: «الدراسة النفسية للآثار الأدبية» - المراجع
مقدمة
لعل حياته كانت دمعة انسكبت على وجه هذا الوطن.
لقد ذرف هذا الوطن دمعته فكانت «سامي الدروبي».
وكم من دموع ذرفها هذا الوطن، منها الصامتة، ومنها المجلجلة، منها دموع «الفرح»، ومنها دموع «الحزن».
إلا أن هذا الإنسان، الذي اشتعل في حياته، وكان شعلة عمل وعطاء متواصل لم يُقدَّر لها أن تنطفئ إلا على نحوٍ حزين، حتى أنها أبكت الوطن بأسره، من قادته الكبار إلى أحبته الصغار. وكما الشمعة حين تقترب من نهايتها تزداد اشتعالاً وتتوهّج، ثم تنطفئ، هكذا قُدِّرَ لسامي الدروبي، ثم إن المثل الشائع «وراء كل عظيم إمرأة» لم يخطئ البته، فقد تحدث الكثيرون عن عظمة هذا الإنسان وعطائه المنقطع النظير، إلا أن قليلين جداً الذين لاحظوا ذلك الملاك الذي أحاطه بعنايته وأعطاه الحب والوفاء والإخلاص والعناية، فلقد وقفت زوجته وقفة الأبطال، فأنجبت عظيماً لوطنه، والحال، تبدأ الزوجة حبيبة وتتحول إلى أم الرجل الذي تزوجته، إنها تنجبه إنساناً آخر من خلال حبها له، فلقد شهدت أقسى الظروف والأحوال، وتصدَّت لها بقلبٍ من نور أحاط سامي ولفّه بشغافه، وأعطاه زاداً في عمل صارم أفاد الوطن والأجيال على مدار السنين!!.
سيرة حياته
ولادته وتعليمه
وُلِدَ سامي الدروبي في 27/4/1921، ودرس في مدارس حمص الابتدائية والثانوية، ثم أكمل دراسته في «تجهيز دمشق، القسم الثانوي للبكالوريا».
والدته تدعى سامية أما أشقاؤه فهم سمير، الدكتور ثابت، عبد الإله، الدكتور غازي، المهندس عزام، الدكتورة إلهام.
عمله واختصاصه
مارس سامي الدروبي التعليم الابتدائي في مدارس الجولان بالقطر العربي السوري.
تابع دراسته في دار المعلمين العليا لمدة عامين، وعُيِّنَ معلماً، وظل في وظيفته هذه كمعلم سنة واحدة درَّس خلالها في قرية «المخرم الفوقاني» في محافظة حمص.
أُوفِدَ إلى القطر العربي المصري في أواخر عام 1943 حيث تعلم في القاهرة، فدخل كلية الآداب، قسم الفلسفة، وتخرَّج منها سنة 1946.
عاد إلى القطر العربي السوري عام 1947 فعُيِّنَ مدرّساً للفلسفة والمنطق بثانويات حمص.
انتقل خلال الأعوام 1948 – 1949 إلى دمشق (كمعيد في الجامعة).
أوفِدَ إلى باريس خلال الأعوام 1949 – 1952 لتحضير الدكتوراه في الفلسفة.
عاد من باريس وعُيِّنَ مدرّساً في كلية التربية، ثم أستاذاً لعلم النفس.
خطوبته وزواجه
في 7/نيسان/1954 كان اللقاء الأول بين إحسان بيات وسامي في الحرم الجامعي، وكان ما يُسَمّى بالحب من أول نظرة الذي وقع فيه الاثنان، حيث لم تمضِ أربعة أيام حتى فاتحها الدكتور سامي بطلب يدها، ولم يلبث أن قرأ الفاتحة معها في الحرم الجامعي. وهي تقول في هذا: «لعله كان أسرع قرار اُتُّخِذَ في قضية زواج قُدِّرَ له فيما بعد أن يكون ناجحاً كل النجاح». وقبل إبلاغ عائلتها بالأمر توجَّهَتْ فوراً إلى منزل صديقتها ونسيبتها ألفة الإدلبي، لتزفّ لها هذا الخبر، فإذا هي تبارك هذه الخطوبة وتهنّئها على جرأتها، وتقول لها: «يا ابنتي الزواج شيء شخصي جداً، ويعود قبل كل شيء إلى قناعة الزوجين ببعضهما». وفي اليوم الثاني أُعْلِنَتْ خطوبة الأستاذ سامي الدروبي على الطالبة الإذاعية إحسان بيات.
أما الأبيات الشعرية التي كتبها سامي بمناسبة حفل خطوبته لإحسان بيات، فهي:
«لا تخـافي سـراً يلوح بعيني رهيبـاً يفـوح كـالأفعـوانِ
لا تخافي الغموض فوق جبيني لا تخـافي ابتسـامة الكتمـانِ
هـو مـاضٍ خلفتـه فحذاري أن تفضـي أسـراره للعيـانِ
كنت لا أنشـد الحيـاة وجودي وانعدامي عن أفقها سيانِ
غير أنـي أحسسـت دفئـاً بعينـــيك يصب الحياة في أكفاني
فتمنيت أن أعـود لنفسـي وتكونـي لعـودتي ربـاني»
بعد الخطوبة طلب سامي من إحسان بيات الاستقالة من عملها الإذاعي للتفرغ كسكرتيرة له، وكان له ما أراد. وكان أول عمل مشترك بينهما كتاب «مذلون مهانون» لدوستويفسكي. كان يمسك النص الفرنسي بيده ويملي عليها بالعربية فتكتب وكانت هذه الطريقة في العمل توفر الكثير من الوقت، وكان قبل ذلك قد ترجم قصة نيتوتشكا لدوستويفسكي. وقد رُزِقا من زواجهما ليلى ومصباح وسلمى.
بوادر النضال السياسي
تذكر السيدة إحسان أنه في أواخر الخمسينات حين تمت دعوتهما من قبل وزير الخارجية السوري على العشاء على شرف وزير الخارجية السوفييتي شوبيلوف، وكان كذلك مدعواً إلى هذا العشاء الدكتور شوكت القنواتي والدكتور صلاح عمر باشا. وقبل الذهاب للعشاء كان سامي يقرأ إحدى الصحف وإذا به يقول بانفعال: «تصوَّري، هل هذا وقته، وأشار إلى عنوان في الصحيفة التي بين يديه، إقرأي ماذا كتب هنا. خطر الاتجار مع الاتحاد السوفييتي»، وما أن دخلا بهو نادي الشرق حتى رأيا الصحفي كاتب تلك المقالة فاتجه سامي نحوه وقال له معاتباً ومبيناً خطأ كتابة مثل هذا المقال في مثل هذا الظرف الذي نأخذ السلاح من المعسكر الشرقي وفي أول زيارة لوزير الخارجية السوفييتي لنا. وقد صُعِقَتْ السيدة إحسان بجواب ذلك الصحفي حين قال: «أستاذ سامي أرجو أن لا تعمل مثالية وبعثية، بصراحة وصلتني هذه المعلومات من السفارة الأميركية، فهل تريدني أن لا أنشره؟ هكذا قالها بكل وقاحة دون أن يطرف له جفن».
وفي حرب السويس قرر الحزب تحويل جريدته الأسبوعية (البعث) لجريدة يومية لتتابع الأحداث. وكان المسؤول عن هذا ثلاثة أشخاص الدكتور عدنان الفرا والأستاذ علي الأشقر والدكتور سامي الدروبي. وكان د.سامي يخرج في الثامنة صباحاً إلى الجامعة ويعود لتناول الغداء، وأحياناً لا يعود، حيث يذهب إلى الإذاعة للاستماع هناك إلى الأخبار العالمية ويكتب مع الأستاذ نجاة قصاب حسن بعض التعليقات على الأحداث. وكان يترجم ما سمع من أخبار، أي يقوم بدور وكالات الأنباء في يومنا هذا، ليعود إلى الجريدة ويعطي الآخرين تلك المعلومات التي يتوزعونها في مقالات.
الوحدة وعمله الثقافي
أوفِدَ إلى القطر العربي المصري عندما قامت الوحدة المصرية السورية سنة 1958 كمدير في وزارة الثقافة، ومدرّس في جامعة القاهرة عام 1959 – 1960.
عُيِّنَ مستشاراً ثقافياً لسفارة الجمهورية العربية المتحدة في البرازيل عام 1960 – 1961.
بعد الانفصال مباشرة طلب إعادته إلى دمشق حيث عاد للتدريس في جامعة دمشق.
وفاة سلمى
حصلت هذه المأساة حين عادت السيدة إحسان مع الأولاد بعد الانفصال من مصر إلى دمشق، حيث فقدت ابنتها سلمى مختنقة بالغاز أثناء الاستحمام، وفي هذا السياق نذكر مما كتبت السيدة إحسان حول هذا الحدث، فبعد أن سُجِّيَت الصبية على السرير، وجلست أمها على الأرض، ووضعت القرآن الكريم على الوسادة قرب رأسها، وبدأت تقرأ القرآن، وقامت فيما بعد بعملية غسلها خصوصاً أن الأحبة التي اكتظت بهم الدار حاولوا منعها من هذه المهمة، لكنها لم تعرَ أحداً منهم أذناً صاغية ولا حتى لتضرع أمها الخائفة عليها، وكانت حجتها حين قالت بعنف: «لا أحد يتدخل، لم أخدم هذه الصبية لا بحفل شهادة ولا خطوبة ولا زواج، دعوني وشأني مع حبيبتي سلمى في الدقائق الأخيرة التي لها على وجه الأرض». وهكذا ودعت «سلمى» الحياة على الأرض، وهي في الثانية عشرة من عمرها.
عودة للنضال السياسي
في الخامس من أيار 1962 وصل الدكتور سامي الدروبي إلى دمشق، وبدأ العمل الجدي والسري جداً الذي انتهى بثورة الثامن من آذار. وعاد سامي أستاذاً بالجامعة السورية، وفي السابع من آذار دُعِيَ إلى مهرجان خطابي تحوّل من ثقافي إلى سياسي، مهاجماً الانفصال، وخشي أن يتم اعتقاله في سجن المزة، ولكن في صبيحة الثامن من آذار، الساعة الرابعة والنصف صباحاً، استيقظ سامي وزوجته إحسان على صوت هدير الدبابات في شارع أبو رمانة، حيث كانت شقته، وفي الصباح الباكر طرق الباب السفير اليوغوسلافي مهنئاً بنجاح الثورة، معلناً أنه كان يعرف كم أن حزب البعث وحدوي. ولم يكد ينهي حديثه مع السفير اليوغوسلافي حتى قُرِعَ الباب وتم استدعاء الدكتور سامي، ولم تره زوجته بعد ذلك حتى سمعت من المذياع تشكيل الوزارة، وتسميته وزيراً للتربية.
بداية التمثيل الدبلوماسي
عُيِّنَ سفيراً للجمهورية العربية السورية في المغرب في 1/9/1963.
عُيِّنَ سفيراً للجمهورية العربية السورية في يوغوسلافيا في 1/12/1964.
عُيِّنَ مندوباً دائماً للجمهورية العربية السورية في الجامعة العربية في 1/9/1966. وهناك ألقى كلمته الشهيرة أمام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، بعد تقديم أوراق اعتماده، وقد بكى أثناءها، مما قال فيها: «إذا كان يسعدني ويشرفني أن أقف أمامكم، مستشرفاً معاني الرجولة والبطولة، فإنه ليحز في نفسي أن تكون وقفتي هذه كوقفة أجنبي، كأنني ما كنت في يوم مجيد من أيام الشيوخ مواطناً في جمهورية أنت رئيسها، إلى أن استطاع الاستعمار متحالفاً مع الرجعية أن يفصم عرى الوحدة الرائدة في صباح كالح من أصباح خريف حزين يقال له 28 أيلول، صباح هو في تاريخ أمتنا لطخة عار ستمحى، ولكن عزائي عن هذه الوقفة التي تطعن قلبي يا سيادة الرئيس، والتي كان يمكن أن تشعرني بالخزي حتى الموت، أنك وأنت تطل على تاريخ فترى سيرته رؤية نبي وتصنعه صنع الأبطال قد ارتضيت لي هذه الوقفة، خطوة نحو لقاء مثمر (بين قوى تقدمية ثورية) يضع أمتنا في طريقها إلى وحدة تمتد جذورها عميقة في الأرض فلا انتكاس، وتشمخ راسخة كالطود فلا تزعزعها رياح.
ذلك عزائي يا سيادة الرئيس وذلك شفيعي عندك، وشفيعي عند جماهير أمتنا العربية التي لا تعترف بالانفصال إلا جريمة، وشفيع من ندبوني لهذه الوقفة ثواراً شجعاناً يقفون في معركة النضال العربي الواحد على خط النار، ويؤمنون بلقاء القوى الثورية العربية لا بديلاً للوحدة، بل خطوة نحوها».
تداعي ذكريات مع الرئيس الراحل حافظ الأسد
في آذار 1971 وكان آنذاك مندوباً دائماً للجمهورية العربية السورية في الجامعة العربية، وكانت رئاسة دورة الجامعة العربية لسورية، ولم يحضر وزير الخارجية السوري. فترأس الدكتور سامي الدروبي الاجتماع آنذاك، ودعى الوفود العربية إلى العشاء، ولم ينم قبل الواحدة صباحاً، وكان مرهقاً والتعب ظاهر عليه، وكان عليه أن يستيقظ باكراً ليرافق نائب رئيس الجمهورية المصري السيد حسن الشافعي في سفره إلى دمشق. ولكن سامي أمضى تلك الليلة كلها تحت الأكسجين، وما أن استيقظ في السابعة صباحاً حتى همّ بإعداد الحقيبة للسفر إلى دمشق، فسافر إلى دمشق وكان يوماً حافلاً بالعمل المتواصل واللقاءات التي امتدت حتى الواحدة صباحاً لكن ضعف صحته أدت إلى إصابته بجلطة قلبية بعد ساعة من انتهاء الاجتماع في الساعة الثانية صباحاً، ونُقِلَ إلى المستشفى في حالة سيئة جداً.
وحين وصلت زوجته وأولاده، ودخلوا إلى غرفة العناية المشددة، سألوه، هل كنت تدري أننا قادمون؟
فأجاب: «عادني السيد الرئيس حافظ الأسد وسألني هل ترغب في أي شيء؟
قلت: «أرغب أن أرى أم مصباح والأولاد».
قال السيد الرئيس: «استدعيناهم وهم في الجو الآن، وماذا ترغب أيضاً، ونظر إلي كمن يقول: ليس الشهيد هو الجندي الذي يستشهد في الجبهة، بل هناك من يستشهدون أيضاً في سبيل العمل لخير أمتهم».
وبعد فترة العلاج والاستجمام امتدت ثلاثة أشهر عادوا إلى القاهرة.
عطاء للجامعة السورية
في صباح السابع من أيار 1971 قرر د.سامي تقديم مكتبته إلى الجامعة السورية. وفي 10/5/1971 وافق مجلس جامعة دمشق على قبول الكتب العلمية هدية منه إلى مكتبة الجامعة. وكانت حجة سامي على قراره حين احتجت زوجته قائلة أنها من حق أولاده: «لن أنسى ما حييت كم كنت أشقى حين كنت طالباً جامعياً وكنت أرغب باقتناء المراجع، وكان ثمنها باهظاً، ودخلي محدوداً».
عودة للتمثيل الدبلوماسي
عُيِّنَ سفيراً للجمهورية العربية السورية في مدريد بإسبانيا في 27/11/1971. وفي 12/10/1975 طلب إعادته إلى دمشق لأسباب صحية وبقي سفيراً في وزارة الخارجية، وظل يعمل في أعماله الأدبية وفي حقل الترجمة وإنجاز مشاريعه الأدبية رغم ظروفه الصحية القاسية.
مرضه
لقد أنجز سامي الدروبي ترجمة مؤلفات دوستويفسكي الكاملة ويربو عدد صفحاتها على أحد عشر ألف صفحة، وهو مريض في القلب مرضاً لا يمكّنه من أن يستلقي على سريره أثناء النوم، وكان لابد له من أن يبقى جالساً وهو نائم. بل أكثر من ذلك، فإنه أنجز خمسة مجلدات من المؤلفات الكاملة لتولستوي، والتي يصل عدد صفحاتها إلى خمسة آلاف صفحة وهو في صراع بين الحياة والموت، وكثيراً ما احتاج خلالها إلى أن يرقد لمدة ثلاثين ساعة وهو يتنفس من أنبوبة الأكسجين، كما ذكر الأستاذ فوزي الكيالي وزير الثقافة آنذاك.
ومن الجدير بالذكر أنه في عام 1969 تبين من الفحوص أن علة قلبية قد تقدمت بحيث أن احتمال بقائه على قيد الحياة لأكثر من عامين احتمال قليل، ولكن تمسكه بالحياة ونضاله الفذ ضد المرض مكنه من أن يعيش سبع سنوات منتجة بعد هذا التاريخ، تحمَّل خلالها ثلاث نوبات قلبية كبرى كل منها كانت تكفي لإنهاء الحياة، وحقق في هذه السنوات السبع نتاجاً أدبياً وفكرياً كبيراً.
أخيراً، وصل به المرض إلى درجة أصبح معها غير قادر على السير، وكان الأحباب يتعاونون في مساعدته على أن يخطو بضع خطوات، وبرغم ما كان قد أصابه من هزال وضعف، فإنه كان يتحدث بقوة وعزيمة، وكان هاجسه الأخير هو إخراج مؤسسة لكتاب الجيب تطبع روائع التراث العربي، وروائع التراث الإنساني، وتوزعها على الناس في الوطن العربي كله.
وفاته
كان سامي كما ذكرنا يعاني من القلب، وشرايينه الثلاثة مسدودة، وصماماته متضيقة، وتذكر زوجته أنه قبل ساعة واحدة من رحيله أصر على الجلوس إلى المكتب، قائلاً أنه سيصلح كلمة كانت قد أقلقته في الليلة السابقة، وعلى رغم احتجاجات الزوجة حرصاً على صحته، فقد أمسك القلم وأصلحها، وهو يعلم أنه يقف على مشارف الأبدية، وأخذت الزوجة تتأمل في هذا الإصرار العجيب على العمل أثناء وضعها لأنبوب الأكسجين في أنفه، ولم تكن تعلم أنها في حضرة الوداع الأخير، إذ بعد ساعة واحدة فقط كانت وفاته.
وهي تذكر أنها كانت مع ليلى ومصباح أبنائهما، وسامي متمدد على سريره في غرفة النوم، يناقش ليلى في المادة الأولى التي ستمتحن بها بعد يومين في 14/2 وكان وجهه مشرقاً ذا رونق رائع، وكان بصوته عذوبة وبكلامه حكمة وكانوا يتابعون ذلك باهتمام. فإذا بالمنية تنقض عليه دون رأفة أو رحمة. وإذا بالصوت يصمت، وإذا بلون الوجه الوردي ينخطف وإذا بالعينين اللتين يشع منهما الذكاء ينطفئ فيهما النور. وكان ذلك في 12/2/1976، حيث وافته المنية ورحل فقيداً للعروبة والفكر.
تأبينه
في 27/3/1976 أقام اتحاد الكتاب العرب حفلاً تأبينياً على مدرج جامعة دمشق لفقيد العروبة والفكر الدكتور سامي الدروبي بمناسبة أربعين يوماً على وفاته.
وقد حضر الحفل آنذاك ممثل السيد رئيس الجمهورية اللواء زهير غزال والأستاذ محمود الأيوبي رئيس مجلس الوزراء والأستاذ محمد حيدر نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، والأستاذ جورج صدقني عضو القيادتين القومية والقطرية رئيس مكتب الثقافة والدراسات والإعداد الحزبي، والسيد العماد الركن مصطفى طلاس نائب القائد العام للجيش والقوات المسلحة وزير الدفاع وعدد من الرفاق أعضاء القيادتين القومية والقطرية، ونجلا الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عبد الحكيم وهدى، وبعض السادة الوزراء، وآل الفقيد. كما حضر الحفل السيد رئيس وأعضاء المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب، وعدد من أعضاء السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي، وحشد كبير من رجال الفكر والثقافة والأدب.
ومما جاء في كلمة العماد الركن مصطفى طلاس نائب القائد العام للجيش والقوات المسلحة وزير الدفاع آنذاك:
«سأعود معكم إلى بداية كلمتي لأقوم بمراجعة صغيرة وتقديم كشف بالأعمال الصالحة التي نهض بها فقيد العروبة لنرى إذا ما كانت هذه الأعمال الجليلة تكفي لتخليد هذا الرجل إلى قيام الساعة؟ أعتقد أنه لا يوجد اثنان يختلفان في هذه البديهية، فلو أخذنا أعمال فقيدنا الغالي "ترجمة المؤلفات الكاملة لدوستويفسكي" إلى اللغة العربية ورمينا كل ما عمله غير ذلك في البحر لوجدنا أن هذا العمل الضخم قمين بتخليد صاحبه أبد الدهر.
وإذا كان جيلنا المعاصر لم يُعطِ حتى الآن هذا الجهد الكبير ما يستحق من اهتمام فإن الأجيال العربية القادمة ستذكر بالشكر والعرفان هذا العمل المجيد.
وختاماً ربما تقولون لماذا لم أعدد لكم مناقب الفقيد الكبيرة؟ وهي كثيرة، أرجو بكل تواضع أن تعذروني عن هذا الصنيع، لأنني محب، والمحب لا يجد في حبيبه إلا كل ما هو جميل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».
الأوسمة التي نالها وتكريمه
1) حصوله عام 1964 على وسام من الرئيس اليوغسلافي الراحل تيتو كسفير وكاتب وأديب.
2) حصوله عام 1971 على وسام من الرئيس الراحل حافظ الأسد لجهوده في إنجاز الميثاق الثلاثي، وإعلان الدولة الاتحادية بين مصر وسورية وليبيا.
3) تكريمه في الذكرى الثانية لوفاته في المركز الثقافي العربي بحمص وتسمية قاعة المحاضرات في المركز الثقافي باسم الفقيد الدروبي.
أعماله
الترجمات في الفلسفة
1) تفكير كارل ماركس: نقد الدين والفلسفة، تأليف: جان إيف كالفيز، ترجمة: سامي الدروبي، جمال الأتاسي.
2) المذهب المادي والثورة، تأليف: جان بول سارتر، ترجمة: سامي الدروبي، جمال الأتاسي.
3) المجمل في فلسفة الفن، تأليف: بندتو كروتشه، ترجمة: سامي الدروبي.
4) منبعا الأخلاق والدين، تأليف: هنري برغسون، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد الدايم.
5) مسائل فلسفة الفن المعاصر، تأليف: ج.م.جويو، ترجمة: سامي الدروبي.
6) الطاقة الروحية، تأليف: هنري برغسون، تعريب: سامي الدروبي.
7) الضحك: بحث في دلالة المضحك، تأليف: هنري برغسون، ترجمة: سامي الدروبي، عبد الله عبد الدايم.
8) الفكر والواقع المتحرك، تأليف: هنري برغسون، ترجمة: سامي الدروبي.
الترجمات في العلوم السياسية
1) مدخل إلى علم السياسة، تأليف: موريس دوفرجيه، ترجمة: جمال الأتاسي، سامي الدروبي.
2) معذبو الأرض، تأليف: فرانز فانون، ترجمة: سامي الدروبي، جمال الأتاسي، تعليق سليمان الخش.
الترجمات في التربية وعلم النفس
1) المعلم العربي: إعداد المربي، تأليف: روجه كوزينة، ترجمة: جميل صليبا، حكمة هاشم، سامي الدروبي.
2) علم النفس التجريبي، تأليف: روبرت س. ودروث، ترجمة: سامي الدروبي.
3) سيكولوجية المرأة، تأليف: ج. هيمانس، ترجمة: سامي الدروبي.
الترجمات في الأدب
1) وقائع مدينة ترافنك، تأليف: إيفو آندريتش، ترجمة: سامي الدروبي.
2) جسر على نهر درينا، تأليف: إيفو آندريتش، ترجمة: سامي الدروبي.
3) بطل من هذا الزمان، تأليف: ميخائيل ليرمنتوف، ترجمة: سامي الدروبي.
4) كونكاس بوربا، تأليف: ماشادو دي أسيس، ترجمة: سامي الدروبي.
5) الموسيقي الأعمى، تأليف: ف. كورولنكو، ترجمة: سامي الدروبي.
6) النول، الحريق، الدار الكبيرة؛ تأليف: محمد ديب، ترجمة: سامي الدروبي.
7) لحن كرويتزر، تأليف: ليف تولستوي، ترجمة: سامي الدروبي.
8) الأعمال الأدبية الكاملة (18 مجلداً)، تأليف: دوستويفسكي، ترجمة: سامي الدروبي.
9) الطفولة – المراهقة – الشباب (الأعمال الأدبية الكاملة؛ مجلد1)، تأليف: ليف تولستوي، ترجمة: سامي الدروبي.
10) أقاصيص سيباستوبول وغيرها(الأعمال الأدبية الكاملة؛ مجلد2)، تأليف: ليف تولستوي، ترجمة: سامي الدروبي.
11) القوزاق وقصص أخرى (الأعمال الأدبية الكاملة؛ مجلد3)، تأليف: ليف تولستوي، ترجمة: سامي الدروبي.
12) الحرب والسلم (الأعمال الأدبية الكاملة؛ مجلد4)، تأليف: ليف تولستوي، ترجمة: صياح الجهيم، سامي الدروبي.
مؤلفات
1) علم النفس ونتائجه التربوية، تأليف: سامي الدروبي بالاشتراك مع حافظ الجمالي.
2) دروس علم النفس، تأليف: سامي الدروبي، سمير الدروبي.
3) الموجز في علم النفس، تأليف: سامي الدروبي، عبد الله عبد الدائم.
4) علم النفس والأدب: معرفة الإنسان بين بحوث علم النفس وبصيرة الأديب والفنان، تأليف: سامي الدروبي.
5) علم الطباع: المدرسة الفرنسية، تأليف: سامي الدروبي.
6) الرواية في الأدب الروسي، تأليف: سامي الدروبي.
مخطوطات
1) من أغاني السكارى على نهر العاصي بمدينة حمص.
مقالات في الدوريات
1) مجلة «الشهر» العدد الثاني، أبريل 1958، مقالة: «النظر الفلسفي في ثقافتنا المعاصرة»، بقلم: سامي الدروبي.
2) مجلة المعرفة عدد 7 عام 1962، مقالة: «طبيعة الأدب»، بقلم: سامي الدروبي.
3) مجلة المعرفة عدد 8 عام 1962، مقالة: «طبيعة الأدب والفنان في ضوء التحليل النفسي»، بقلم: سامي الدروبي.
4) مجلة المعرفة عدد 12 عام 1963، مقالة: «الإنتاج الفلسفي في الثقافة العربية المعاصرة»، بقلم: سامي الدروبي.
سامي الدروبي سياسياً وأديباً
أولاً - سامي الدروبي والوحدة العربية
لقد دخل سامي الدروبي إلى السياسة من باب الثقافة، وكان أستاذ علم النفس في جامعة دمشق، ووزيراً للتربية وأيضاً سفيراً لسورية في عدة دول، ويرجع له الفضل في مواجهة الكثير من التحديات التي عصفت في المنطقة آنذاك. ولكن لنا رأينا بخصوص موقفه آنذاك من الوحدة العربية، نحب أن ننوه عنه!!.
كتب رجاء النقاش يقول: «سامي الدروبي كان مؤمناً بالوحدة العربية إيماناً شديد العمق والصدق، وكانت الوحدة العربية هي الأمل الأكبر في خلق حضارة عربية لها قيمة، وفي خلق إنسان عربي جديد قادر على مواجهة ظروف العصر وتحدياته الصعبة. وفي نفس الوقت كان إيمان سامي الدروبي بمصر وحبه لها نابعاً من نفس النبع الصافي، نبع إيمانه بالوحدة العربية. فقد كان مدركاً أشد الإدراك أنه لا وحدة بدون مصر، وأن مصر هي الأساس في أي حركة لها قيمة في الوطن العربي كله، كان مدركاً أنه لا عروبة بدون مصر».
ولكنني أتساءل، أين هي مصر ودورها الآن؟ ماذا تفعل؟! كيف تساهم في خنق شعب عالق في ويلات الحصار بإغلاقها معابر رفح، وترك عشرات العائلات المصرية بأكملها شهوراً عالقة في أرضٍ جعلناها ملعونة بعد أن كانت أرضاً مقدسة!!.
وكذلك أتساءل، أين هو موقف مصر العروبي أمام حرب العراق، وحرب تموز، وأمام هذا الشيطان الذي انفلت من جحيمه ليعيث فساداً في منطقتنا الغالية؟
وكذلك أتساءل بعيداً عن العاطفة، ومحكماً العقل، حتى في أيام الوحدة، وأنا لم أكن قد وُلِدتُ بعد، لكنه تناهى إلى مسمعي ما تناقلته الأجيال التي عايشت حدث الوحدة آنذاك، كيف فهِمَتْ مصر الوحدة مع شقيقتها سورية؟! هل ثمة وعي ناضج للقيام بخطوة على درجة من الخطورة كهذه؟! هل ثمة توازن للقوى والاستراتيجيات المشتركة للقيام بخطوة كهذه؟! أم أن الكبير سوف يبتلع الصغير؟! وبالتالي، فقد كانت قضية الوحدة، تحتاج تحضيراً كبيراً على مستويات عدة، تُحدِث تقاربات داخلية وخارجية، وتوازنات تهيئ المناخ لحصول اتحاد يحافظ على خصوصية كل منطقة!!.
ثانياً – سامي الدروبي في الترجمة
في إحدى الحوارات التي أُجرِيَت مع د. سامي يذكر الشروط اللازمة للقيام بمهمة الترجمة، يقول: «الترجمة العلمية سهلة طبعاً، وكذلك ترجمة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، فلغة هذه العلوم لغة لا أقول أنها فقيرة على إطلاقي كلمة الفقر ولكن أقول أنها فقيرة نسبياً، وإنما الفن والثراء في لغة الأدب.
أعتقد أنني لا أضيف جديداً إذا قلت أن الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يتصدى لترجمة الأعمال الأدبية هي كما تحصى عادة وكما يعددها سائر الباحثين في هذا الأمر ثلاثة، أولاً التمكن من اللغة الأجنبية التي تنقل عنها، ثانياً التمكن من اللغة العربية التي تنقل إليها، وثالثاً التمكن من المادة التي هي موضوع الكتاب أو البحث الذي تنقله إلى اللغة العربية. بالنسبة للتمكن من المادة، هذا طبيعي في الترجمة العلمية والفلسفية والاجتماعية والسيكولوجية والتاريخية، وهو التخصص في هذه المادة والتمكن منها.
أما بالنسبة للأدب هي توفُّر الذوق الأدبي، وهذه موهبة تُصْقَل ولكنها لا تُتعلم، فمن لم يكن ذا موهبة لن يُحْقَن بموهبة ولا يمكن أن يعلم كيف يتذوق الأدب. والتمكن من المادة هنا هو هذه الموهبة، هذا الذوق الأدبي. ولكن ما معنى التمكن من العربية ومن اللغة الأجنبية بالنسبة للأدب؟ لا تمكّن من العربية بدون معرفة آدابها معرفة عميقة».
«لا يعرف العربية معرفة تؤهله لأن يمسك القلم وينقل إليها من لا يقرأ القرآن دائماً، من لا يقرأ الجاحظ وأبا حيان التوحيدي، ومن لا يترنم بشعر المتنبي وأبي العلاء المعري وأبي تمام، لا يعرف العربية معرفة تؤهله لأن يمسك بالقلم، وينقل إليها من لم يملك الكنوز الثرة للغة العربية مختزنة في آدابها وتراثها».
«نأتي إلى التمكن من اللغة الأجنبية، يصدق هنا ما يصدق على التمكن من اللغة العربية، ليس كل من درس اللغة الفرنسية في المدرسة والجامعة بقادر على أن يترجم منها. وإنما ينبغي للمترجم في ميدان الأدب، أن يعرف اللغة الأجنبية في آدابها. وأجازف فأقول: أن معيار التمكن من اللغة الأجنبية هو الوصول إلى القدرة على تذوق شعرها، الإحساس بموسيقى شعرها، وقبل ذلك لا يكون ثمة معرفة تامة باللغة الأجنبية وأعود إلى التمكن من المادة، فأثير أنه يعني، بالإضافة إلى الذوق الأدبي، مصاحبة ومعاشرة المؤلف المترجم عنه. أعرف أناساً يشرعون في ترجمة رواية قبل أن يقرأوها كاملة».
أما مخاوف أو إساءات الترجمات الرديئة فهي تكمن في رأيه في نقطتين: أولاهما، إفساد اللغة العربية، والهبوط بها إلى الركاكة، في الحين أن الشباب متعطش إلى قراءة الإنتاج الأجنبي الدسم. وثانيهما، إفساد المؤلفات المترجمة مما جعل الظن فيها سيئاً وأعطى سلاحاً لأهل الجمود الذين يرفضون إلا التراث. وعلى هذا النحو يخلص سامي الدروبي إلى أنه على المترجم أن يكون من أصحاب الأقلام، أن يكون أديباً، ويقول أن أندريه جيد ختم حياته الأدبية الحافلة على ترجمة بعض مسرحيات شكسبير.
أما حول أسلوبه في الترجمة حسب د. وهيب الغانم: «الجمال والوضوح هما صفتان تلازمان جو كتاباته، فيشعر القارئ بالعذوبة تلف إنتاجه، عذوبة الأسلوب، عذوبة الجملة، عذوبة الكلمة. وبما أن مؤلفاته كانت نادرة، إلا أنه من خلال ما ترجم، تكشّف عن أديب موهوب، أصيل».
معنى الترجمة (سامي الدروبي نموذجاً)
في الحقيقة، الترجمة ليست قضية نقل من لغة إلى لغة، بل ترجمة، والترجمة تعني التأمل، وبعبارة أخرى ترجمة لمشاعرنا وأحاسيسنا بالجمال المختبئ، سواء في الطبيعة، أو في العمارة، ومنها العمارة الإسلامية التي أُعْجِبَ سامي أيما إعجاب بها، خصوصاً حين كان في إسبانيا وتعرَّف إلى مساجد طليطلة، أو بالأدب العالمي والثقافة الأوروبية التي أُعْجِبَ سامي بها أيضاً؛ إذن فسامي لم ينقل من لغة إلى لغة، بل تأمَّل، وأحسّ بالجمال المختبئ وتواصل معه تواصلاً حياً دفعه إلى ترجمته في ألفاظ وعبارات شفافة يفيد منها أبناء العروبة، أو أبناء وطنه، مما يعكس أمراً آخر في الترجمة أو التأمل، وهو الغيرية، فهو لم يشأ أن يعُبَّ من مناهل الجمال وحده بل أراد أن يشاركه «الآخرون» في هذا الجمال القدسي الذي تدخل النفس البشرية تجربتها الإبداعية في تواصل حي معه.
هكذا إذن، تغدو الترجمة رسالة حضارية تفيد منها الشعوب في مختلف بقاع الأرض، وتمد جسوراً غير مرئية تدفعها للشعور بوحدة التجربة الإنسانية، وإن تنوّعت الألسنة والثقافات والمعتقدات. وهنا يحضرني ما تعلّمناه في صغرنا حول برج بابل الذي أراد من خلاله الإنسان أن يتحدى الإله فعاقبه الإله بأن جعل ألسنة البشر تختلف وكل يتحدث بلغة مخالفة للآخر. إلا أن دراسة جميلة لرمزية برج بابل يذكرها المفكر ندره اليازجي، تقول أن برج بابل يعني برج إيل أو باب إيل، وهو على عكس ما نظن أنه يؤدي إلى التشتت والضياع والتمزق، فهو مدخل «إلى الوحدة التي تصدر عنها الموجودات واللغات والأشكال والمفاهيم والعلوم. هذا، لأن البرج أو الباب يمثل الوحدة التي تلحم جميع الأنواع والتعددات التي تنبثق منها. ففي باطن كل تنوع تكمن الوحدة، وفي باطن التعدديات تكمن الوحدة».
«هكذا، تشير رمزية برج إيل إلى الوحدة المتكثرة، أي الكثير المتنوع الذي يستدعي إعادة تأليفه في وحدة تأليفية متكاملة».
وبالتالي، فالترجمة انفتاح على الأمم والحضارات، والخروج من عزلتها القاسية المريرة، والنهوض من كبوةٍ فرضها الانغلاق والتقوقع والتعصب الذي يقيِّد الأمم بقيود أثقل من الحديد والفولاذ وهي قيود الجهل والتخلف!!.
والترجمة من هذا المنطلق، وكما علَّمَنا سامي، ليست تجارة رابحة تفيد منها جيوبنا، وتجدر الإشارة هنا إلى ما يسمى الترجمة العكسية، إن صح التعبير، وفي هذا السياق نذكر قول الأديبة الكبيرة غادة السمان، فهي تقول: «من الخطأ أن نضع أمامنا حين نكتب مواصفات معينة للعمل الأدبي، طلباً لبركة الترجمة ولعقاً لأحذية المستشرقين، لسنا مضطرين لشتم أوطاننا ونشر غسيلنا العائلي الوسخ والوطني استجداءً للترجمة، ولا للمباهاة في كبرنا بما كنا نخجل منه في صغرنا من أجل التهريج في سيرك الغرب ونيل البركة في حقل الترجمة».
ونعود فنقول أن الترجمة ليست سموماً يجد تنين الغرب قنوات ينفث بها سمه من خلالها في أرضنا الغالية، وفي نفوس شبابنا المعطاء. وإنما، وقبل كل شيء، إحساس بالمسؤولية تجاه «الكلمة» التي أترجم بها، إحساس بالمسؤولية مقرون بالواجب يتجاوز حدود «الأنا» في مستوى أوسع الـ«نحن». وبالتالي، هل يصبّ هذا العمل في مصلحة وخدمة الـ«نحن» وهنا المسؤولية، أم في مصلحة وخدمة الـ«أنا» وهنا الأنانية، والشعور بالفوقية، وحب الظهور، والكبرياء، والادّعاء الكاذب، والأقنعة المخيفة!!.
وبالتالي، فـ«الترجمة» قبل كل شيء، تعني «التواضع»، لأنه وبدون «التواضع» ليس بوسعي أن أقدِّر عظمة القيمة المختبئة في العمل الذي أترجمه، هذا من جهة، وبدون «التواضع» ليس بوسعي «احترام» الآخر الذي أترجم له هذه «القيمة الإبداعية» أو «الحضارية» أو «الجمال»، فإن كنت «متواضعاً» لنحَرْتُ أنانيتي وأظهرت «الآخر» المبدِع إلى «الآخر» القارئ، أما أنا فأكون قد تواريتُ في عدمي الخاص، في إحساسي بالخجل من أنني لا شيء، ولست شيئاً، ولن أكون يوماً شيئاً ما!!.
ولعل أقصى ما يمكن أن تعنيه «الترجمة» هو «الحوار»، الحوار بين الحضارات والأديان والمعتقدات، وبعبارة أخرى، إن لم أستطع ترجمة إيماني أو عقيدتي إلى الآخر في ضوء إيمانه وعقيدته، وكذلك إن لم أترجم إيمانه وعقيدته في ضوء إيماني وعقيدتي، فالحوار سيكون حواراً بين الطرشان، أو كل يتكلم بلغته وينعدم التواصل والالتقاء، وهنا يتحقق برج بابل أو «باب إيل» بمعناه السلبي الذي يشير إلى التمزق والضياع والتشتت. ويتوقف علينا الاختيار، هل نريد أن نعيش في برج بابل بمعناه الإيجابي أم بمعناه السلبي؟!!.
دوستويفسكي بقلم سامي الدروبي
يُصَدِّر فرويد دراسته عن دوستويفسكي (دوستويفسكي وجريمة قتل الأب)، بقوله: «يمكن أن نميز في شخصية دوستويفسكي الخصبة أربعة وجوه: الفنان، الخالق، العصابي، الآثم. فكيف يستطيع المرء أن يجد طريقه في هذا التعقيد المحير؟ أما الفنان الخالق في دوستويفسكي فهو أقل هذه الوجوه إثارة للشك. فمكانة دوستويفسكي لا تبعد كثيراً عن مكانة شكسبير. و"الإخوة كارامازوف" أعظم رواية كُتِبَتْ على الإطلاق، وعرض شخصية المفتش الكبير في هذه الرواية هو أحد قمم الأدب في العالم، لا يمكن إلا أن يُقدَّر تقديراً فائقاً. وعلى التحليل النفسي، للأسف أن يلقي أسلحته أمام مشكلة الفنان الخالق».
لاشك أنها مسائل عويصة يطرحها إمام التحليل النفسي، وتتلخص بمقولة الإبداع وسره العميق!!، وإن كان رأي عبقرية فذة مثل فرويد في أديب مثل دوستويفسكي على هذه الدرجة من التقدير، فما لنا إلا أن نقف أمام عبقرية أخرى ترجمت هذا الأديب إلى العربية!!.
أما السيدة إحسان زوجته الكريمة، فتذكر لنا أنها سألته مرة وهي ترتب المكتبة التي احتوت الكثير من الكتب والدراسات عن دوستويفسكي. «أرى أن هذا الكاتب قد استولى على اهتمامك أكثر من أي كاتب آخر، فلماذا هو بالذات؟. فضحك، وقال: لأنه من الأدباء الذين لهم نظرة فلسفية، أو الذين كانوا أدباء وفلاسفة في آن واحد، وتابع قوله بدأتُ بقراءة مؤلفاته بالفرنسية وأنا في السادسة عشرة من عمري فما انقضت بضع سنين حتى أتيت على آثاره كلها، أعيد قراءتها بلا كلل أو ملل، حتى لقد أخذت أترجم بعض فصوله منذ ذلك الحين. استهواني ووجدت نفسي فيه، وما أظن أنني أخطأت التقدير منذ ذلك السن، ولاشك أن دوستويفسكي يمتاز بأنه معاصر دائماً. حتى أننا نرى الآن كثيراً من المذاهب الفكرية والتيارات الأدبية المختلفة تنتمي إليه وتزعم بنوّتها له. وتابع يقول بثقة: كم أتمنى أن أنهي الأعمال الكاملة لدوستويفسكي لتضم المكتبة العربية هذه الأعمال حتى يستطيع المثقف العربي أن يقرأ هذا الكاتب الفذ».
«وراح يعمل بجدية خارقة على ترجمة دوستويفسكي، فكانت هذه الأعمال تتوالى من بين يديه الواحد بعد الآخر، وفي عام 1966 تم التعاقد بين وزارة الثقافة المصرية والدكتور سامي الدروبي على نشر الأعمال الكاملة لدوستويفسكي، ولقد كان لهذا القرار هزة في الوسط الثقافي المصري».
البعد النفسي في أعمال دوستويفسكي بقلم سامي الدروبي
«العالم الذي يعيش فيه دوستويفسكي، من حيث هو فنان، عالم أفراد من البشر يدرك دخائلهم ويعايشهم حياتهم، وينفذ إلى سرائرهم ثم يصورهم كما رآهم في حقيقتهم الفردية هذه. وهو يلاحق هؤلاء الأفراد في اضطرابهم بين جنبات الحياة. يرى كيف يتصرفون وماذا يعانون وبماذا يحسون، وذلك كله من خلال الرواية التي يخلقها. إن الشخصيات التي يصورها دوستويفسكي هي في الدرجة الأولى شخصيات متمزقة متعبة معذبة مريضة. وإذا اعتبرنا أن العالم الذي يعيش فيه الفنان يخضع لسلسلة من التخصصات فهو أولاً عالم الألوان والأشكال، أو هو عالم الأنغام أو هو عالم أفراد البشر، أو هو عالم الذات الحميمة، وهو ثانياً في نطاق هذا التخصص عالم الألم أو عالم الفرح أو عالم الشهوة أو عالم المرض، وهو في نطاق عالم المرض مثلاً يدور على عقدة أوديب أو عالمٌ يُرَى من خلال الشعور بالدونية، أو هو غير ذلك. وبناء على هذا نستطيع تصنيف التخصص الثالث في العالم الذي يعيش فيه دوستويفسكي».
«إن كل فنان مهما يكن مشدوداً بسلسلة من التخصصات إلى عالم خاص، يظل في نطاق هذا العالم الخاص متعدداً متكثّراً، فلئن صح أن يقال عن عالم دوستويفسكي إنه عالم أفراد من البشر معذبين ممزقين قلقين، وإن ذلك يرجع إلى ما يعانيه هو نفسه من قلق وعذاب وتمزق لعل له صلة بمرضه (الصَرَع)، فإننا نظل نستطيع أن نسأل: أين الوحدة بل أين التشابه في الشخصيات المعذبة التي يصورها دوستويفسكي، من راسكولنيكوف في "الجريمة والعقاب" إلى بافيموف في قصة "نيتوتشكا نزفانوفا" إلى ميشكين "الأبله" إلى أمير "المذلين المهانين" إلى أليوشا (الإخوة كارامازوف)؟ ولو كان الكاتب لا يخرج من نفسه، ولا يصور إلا نفسه، فكيف يستطيع أن يصور نساء وهو الرجل؟، وأن يبلغ في الغوص إلى شعورهن ما بلغ؟. الحق أن هذا هو ما يميز الإبداع الأدبي عن الخيال الذي يعمل في اختبار من اختبارات الشخصية».
«ومن جهته، فإن لوسن - مؤسس المدرسة الفرنسية في علم الطباع – يعترف بأن الفرد لا يُعْرَف حتى يُعْرَف النموذج الذي ينتمي إليه، فمعرفة نموذجه الأساسي أو الفرعي بداية لمعرفته وليست نهاية، وإنما تكون معرفة فرديته بمعرفة صفاته الناشئة عن تفاعل طبعه مع إرادته الحرة، وبناء على هذا، فإن مدرسة لوسن تزهو على علم النفس العام بأنها لا تتحدث عن الحب لدى "الإنسان" عامة، وإنما تتحدث عن الحب لدى العصبي، والحب لدى الدموي، والحب لدى الهلامي، والحب لدى سائر النماذج الثمانية الأساسية التي تتألف من اجتماع المقومات الأساسية الثلاثة، ثلاث ثلاث».
«ووفق جاستون برجيه تم تصنيف أنواع من الحب مختلفة تنشأ من تزاوجات شتى بين مختلف العوامل التي يتألف منها الطبع، ونكتفي بذكر هذه الأنواع بدون ذكر العوامل: هيام، حب مجنح، حب تملك واستبداد، حب خصام، حب نزوات، حب دلال وغنج، حب فلسفي، حب ذوق، حب تقدير».
«وإذا عدنا للتحليل النفسي، فإن فرويد يرى أن جميع الناس يعانون عقدة أوديب. ولكن عقدة أوديب معنى مجرد. إنها عند فلان من الناس غيرها عند فلان الآخر. والذي ينفذ بنا إلى عقدة أوديب ويجعلنا نشاهدها واقعاً حياً، لأنها فردية، إنما هو الأديب، وكمثال على هذا نراه في رواية "نيتوتشكا نزفانوفا"».
«يقول لنا فرويد إن البنت تحب أباها وتكره أمها، تحب أباها حباً جنسياً، وإن هذا الحب يولِّد في نفسها شعوراً بالإثم إليه يرجع ما تعانيه من قلق واضطراب وخوف.
إنما دوستويفسكي وحده هو الذي سيرينا عقدة أوديب في شخص نيتوتشكا، يرينا إياها بأم العين وأم القلب جميعاً، كما كان ليوناردو دافنشي قادراً وحده على أن يرينا عين موناليزا بأم العين وأم القلب جميعاً».
«ومن جهة أخرى يقول فرويد أن الطفلة في سن المراهقة أو قبلها بقليل تمر بمرحلة جنسية هي حب شخص من جنسها نفسه. ولكن دوستويفسكي يرينا أن نيتوتشكا في هذه المرحلة، كانت كائناً حياً فريداً، فذاً، يحب هذا الحب، ويبكي من أجله، ويأرق ويتعذب، ويجد لذة في عذابه، في تضحيته. وهذا ما يشير إليه فرويد – أعني لذة العذاب – مطلقاً عليه اسم المازوخية. وأمام المراهِقَة نيتوتشكا يعرض لنا دوستويفسكي المراهِقَة كاتيا، البنت اللعوب، التي تحبها نيتوتشكا أيضاً، ولكنها تجد لذة في تعذيب حبيبتها وفي الظهور نحوها بمظهر من لا يحبها، بمظهر من يحتقرها، بمظهر من يسخر من عواطفها، وهذه هي السادية التي تحدث عنها فرويد في مقابل المازوخية. فلا شك أن مازوخية نيتوتشكا هي من المازوخية، وإن سادية كاتيا هي من السادية، ولكن المازوخية والسادية عنوانان لحياة عارمة، غنية بالتفاصيل والألوان، ليست هي عينها عند فردين اثنين».
«أين هي المازوخية الناعمة المحببة من مازوخية مازوخ، وأين هذه السادية الطفلة من سادية ساد؟».
«إن دوستويفسكي لا يفعل مثل آدلر أو فرويد حيث يركز كل منهما على ناحية من المنظومة النفسية ويهمل النواحي الأخرى، ولكن دوستويفسكي الأديب يدرك الدوافع كلها تصطرع وتتفاعل وتتناغم لتتألف منها سمفونية الحياة الأصيلة المتجسمة في فرد. فإذا عزف لك هذه السمفونية نبضت حياتك الداخلية معها، وعشتها في ذات نفسك. إن نيتوتشكا مثلاً مازوخية ولكنها لا تنسى برغم ذلك أن تثور في وجه حبيبتها كاتيا ثورة جامحة حين وجهت إليها هذه كلمة احتقار بصدد ثوبها الذي كانت ترتديه، وإنها لتشعر بغير قليل من الزهو إذ تتفوق على حبيبتها في تعلم اللغة الفرنسية بسرعة. هنا يتصالح فرويد وآدلر في حدس دوستويفسكي، الفنان الذي لا ينظر إلى الواقع من أحد وجوهه وهو خارج عنه، وإنما ينفذ إلى داخله، فيراه كله دفعة واحدة، واحداً كثيراً في آن».
«وفي هذه الرواية نفسها (نيتوتشكا) التي نرى فيها أفكار فرويد حية تسعى، يتصالح فرويد وآدلر مرة أخرى في حدس الفنان، فنرى أفكار آدلر كذلك حية، أين؟ في شخص بافيموف، زوج أم نيتوتشكا. إن بافيموف هذا موسيقي، أوتي موهبة لعلها كان يمكن أن تبدع، لولا أن صاحبها لم يُؤْتَ العزم الكافي لتثقيف الموهبة، وإعمالها في خلق آثار موسيقية، فظلت الموهبة مختفية تحت الكسل، متوارية وراء عوائق التمرين، ويكاد بافيموف يشعر بالهوة بين ما يصبو إليه وهو كثير، وبين ما هو عليه وهو قليل، فيكون من ذلك في تمزق وقلق قاتل، ولكنه يظل مع ذلك يجاهد الحقيقة ويغطيها زاعماً لنفسه ولغيره أنه هو العبقري الفذ، وأنه إن لم ينتج فإنما تقع تبعة هذا على امرأته التي لا تفهم من أمور الموسيقى شيئاً، والتي تقيد حريته وتخنق موهبته، وتقع تبعة ذلك أيضاً على ما هو فيه من فقر مدقع وبؤس. إن بافيموف مخفق، ولكنه يغطي إخفاقه ولا يريد أن يراه، ويصر على توكيد ذاته، توكيد تفوقه، وستر نقصه، أو التعويض عن نقصه. فكيف يكون سبيله إلى ذلك؟ السبيل هو السلبية، وهو النقد الذي يوجهه مراً إلى كل موسيقي، هو الوقاحة يصفع بها وجوه أصدقائه قبل أعدائه، هو الزهو والصلف والكبر والادعاء العريض في غير طائل، هو الإدمان على الخمرة تغشى سحبها واقعه، هو التشرد من عمل إلى عمل سعياً إلى نجاح يلوح طيفه هنيهة ثم يموت. وتأتي اللحظة الحاسمة، فيستمع صاحبنا إلى موسيقي كبير يعزف موسيقى كبيرة، ويصحو المخفق من منامه، منام العبقرية، ويشعر أنه لا شيء، وأن أوهامه أوهام، وأن موهبته باطل كقبض الريح، فيتحطم، يتحطم توازن عقله أولاً، فيجن، وبعد الجنون يأتي الموت، في حفرة عند الغابة بعد انتهاء الطريق، وتهدأ العاصفة».
«هكذا يتصالح فرويد وآدلر على يد حدس أدبي. ذلك أن الحدس الأدبي لا يضع منظومة من الرموز هي في حالة العلم الراهنة مؤقتة، فيطبقها على الواقع، أو يطوقه بها، وإنما هو يرى هذا الواقع رؤية حية».
«إننا، عندئذ، من فرط معايشتنا للحالة الروحية التي يحياها بافيموف، لا نكاد نرى في سلوكه ما يثير الدهشة بله الاستنكار. إننا نفهمه فنكاد نسوّغه، وإنا لنحبه ونشفق عليه، كما نحب أنفسنا ونشفق عليها. لكأن دوستويفسكي قد أيقظ في كل منا بافيموف نائماً».
«وعلى نحو ما يفعل علم النفس الفيزيولوجي، فإن دوستويفسكي لا يغفل عن الإشارة إلى أن بطله قد اصطبغ وجهه بحمرة شديدة حين استشاط غيظه، أو أنه امتقع وشحب حين بلغه النبأ الرهيب. والمهم عند دوستويفسكي أن يجعلك تشعر بالانفعال الذي عاناه بطله».
«إن الرؤية الأدبية يمكن أن تهضم المعرفة العلمية وأن تمتصها، ولكنها تضفو عنها وتربو عليها. إنها أغنى منها وأعقد، لأنها رؤية حالة فردية تصورها كما هي، بدلاً من أن تردها إلى مخطط مجرد وتصورات عامة».
«وفي الواقع فإن فرويد هو الذي تعلم من دوستويفسكي، وهو الذي تعلم من سوفوكل، حتى لقد أشار غير مرة أن الأدباء هم أساتذته، فهم الذين أدركوا بحدسهم الأدبي وبصيرتهم الفنية ما انتهى هو إلى تقريره بمناهج البحث العلمي».
ما قيل عنه
كتب جورج صدقني يقول: «ولكن سامي الدروبي كان يعيش مع الموت في كل يوم: يسير معه في طريقه، ويجلس بجانبه إلى المائدة، وينام معه في السرير. كان في سباق رهيب مع الزمن، وكان أكثر ما يخشاه أن يخذله جسده فلا يستمر في العمل والعطاء. كان أسوأ ما في المرض في رأيه أنه مذل مهين، ترفضه طاقة الروح، ولكن طاقة الجسد تسلمها للخذلان.
سألته مرة عن حاله فقال: علة قلبي على حالها، ولكنني مصاب بالأرق، إنني أكاد لا أعرف طعماً للنوم. ثم أضاف: ولكنني وظفت هذا الأرق في ترجمة تولستوي. تعال انظر كيف أعمل.
وأخذني من يدي إلى غرفة عمله الصغيرة: غرفة كالمحراب، طاولة في ركن منعزل، وكتب وأوراق وأقلام، ومقعد، ونور هادئ. ثم قال: هنا أعمل. الكل ينامون، وأعمل هنا حتى مطلع الفجر. قلت في نفسي: راهب في صومعة. هذا الراهب ذو الجسد العليل قدم للمكتبة العربية زاداً يغذي نفوس قراء العربية إلى زمن طويل».
أما الأستاذ أنطون مقدسي فقد كتب يقول: «وفي الأيام الأخيرة، إذ نزوره، ينتصب، لا ليرى دمشق (فهي حاضرة في خياله) ولا ليمتع ناظريه بأرض العرب (فهي وجوده) بل ليضم الكل – والأهل والأصدقاء والرفاق – إلى قلبه المحب، وعيناه تقولان:
وأمتكم أمانة في أعناقكم،
بلى، يا صديق. إلا أننا – كلنا – شارفنا على نهاية الدرب.
وتلك سُنَّة الأحياء.
ولقد قامت أجيال أخرى فيها الكثير من الزؤان وبعض من الحنطة، الكثير من الدخيل، وأقل منه الأصيل.
والأمة تنتظر.
وسوف يطول الانتظار.
فقد رأيناك، في الأيام الأخيرة، كما في الأولى، وراء مكتبك تسطر الكلم الجميل، وتنثره كي يكون وجودنا جميلاً، وليكون البعث ما أردناه:
حواراً أكثر منه عقيدة.
وانفتاحاً على النبيل والعظيم.
وحرية سينعم بها يوماً شعبنا.
وكانت علامة حضورك ابتسامة ما تزال بيننا تشير إليك».
ملخص لكتابه «علم النفس والأدب: معرفة الإنسان بين بحوث علم النفس وبصيرة الأديب والفنان»
الفصل الأول: «بين الفن والعلم»
في هذا الفصل يصل د.سامي إلى العلاقة المشتركة بين الفن والعلم، فكلاهما ينشدان المعرفة لكن بطريقتين مختلفتين، وفي أعلى درجاتهما يصبح الفن علماً، والعلم فناً.
ومن هذا المنطلق يربط د.سامي الفن بفعل «الكشف»، فهو يقول أنه ليس بوسعنا أن نعرف الشيء إلا إذا أحببناه كما يقول باسكال. وإن هذا الحب هو من فعل «الكشف»، شرطه الأول وباعثه العميق، وبدونه تعبر العين على الشيء عبور من لا يباليه، فلا يراه.
وعلى هذا الأساس فالفن الحديث على خلاف الفن الكلاسيكي، يوغل في تغيير الطبيعة إلى أبعد مما هي عليه. إنه يبدل الطبيعة تبديلاً حقيقياً. فأين «الرؤية» هنا؟ الحق أن الرؤية هنا قد استحالت من رؤية بالقلب إلى رؤية في القلب، أو قل إن البصر قد استحال هنا إلى بصيرة، فالعين التي كانت ملتفتة إلى العالم الخارجي تلتفت الآن إلى العالم الداخلي. أو هي تقف على الحدود بين العالمين فتراهما في آن واحد، وتزاوج بينهما، فإذا الأثر الفني يعبر عنهما معاً.
لكن د.سامي ينتقل من عامل الرؤية في الفن إلى عامل آخر هو الإصغاء، فهو يقول لعل قدرة الموسيقى على التعبير عن الحالة النفسية تكون أقوى من قدرة أي فن من الفنون على ذلك، لأن الإصغاء إلى أنغام هذه الحالة النفسية يتم بلا وسيط من أشكال أو ألفاظ لها وظائفها في غير مجال هذه العملية الفنية. فالإدراك والتعبير يتمان في الموسيقى على نحو أكثر مباشرة منه في التصوير والشعر مثلاً.
«والحال على ما ذكرنا من تشابه بين عالم الأصوات وطبيعتنا العميقة، أن تكون حركة الأصوات ترجماناً لحركة النفس. إننا نتوحد من تلقاء أنفسنا، على نحو لا يقاوم، مع هذه الأصوات التي تخطر أمامنا، نصعد معها ونهبط، ونكبر ونصغر، ونتسع ونضيق. إن ذلك الصوت الذي يظل معلقاً وهو ينشر قلبه الرنان لهو نفسنا وهي تحلق. إن ذلك الصوت الذي يتحفز ويصعد لهو نفسنا وهي تثب. إن ذلك الصوت الذي يهبط لهو نفسنا وهي تهوي إلى القاع. إن هذه الأصوات التي تتلاحق عجلى لهي حالاتنا النفسية وهي تتلاحق سريعة. إن هذه الأصوات التي تتلبث لهي حالاتنا النفسية وهي تسكن. إن هذه الأصوات التي تسير سيراً متقطعاً لهي حالاتنا النفسية وهي تصطدم بحاجز».
وأخيراً يأتي الرقص، فالرقص هو روح الموسيقى، والحال أن الرقص موسيقى أنغامها حركات يقوم بها الجسم، ويمكن القول أن كل موسيقى هي رقص، رقص في النفس أولاً، وفي الجسم ثانياً. الرقص بعبارة أخرى ترجمة الموسيقى إلى حركة وإلى خلق!.
«إن الرقص الحديث يحاول، كالموسيقى التي تهجر تمثيل حكايات أدبية أو تاريخية، أن يعبر عن انفعالات، عن حركات في النفس يغنيها الجسم بالإيقاع. إن مطمح الرقص الحديث هو أن يجعل الجسم يشف عن الروح، هو أن يجعل الجسم من فرط تساوق حركاته مع حركات موسيقى الروح، كأنه هو الروح. وما أصدق قول الراقصة ايزادورا دنكان: المشهد هو أنا، لا تقولوا هو حالة نفسية، بل قولوا هو حركة نفس، اندفاعة نفس، انفجارة نفس، إنني أرقص حركات روحي».
الفصل الثاني: «الحدس الأدبي والدراسة السيكولوجية»
يشير عالم النفس الكبير يونغ إلى أن هناك نوعين من الخلق الأدبي، يطلق على الأول منهما اسم الأدب السيكولوجي، ويطلق على الثاني اسم أدب الرؤيا.
والأول نراه ممثلاً في دوستويفسكي خير تمثيل كما رأينا في فقرة سابقة. وعلى هذا الأساس، فالفرق بين النوعين من الإبداع الأدبي يظهر لنا من المقارنة بين الجزء الأول من دراما «فاوست» وجزئها الثاني. وهما جزآن يختلف كل منهما عن الآخر اختلافاً عميقاً. فالتجربة التي تمد التعبير الفني بالمواد اللازمة في أدب الرؤيا ليست تجربة عادية مألوفة. إننا هنا إزاء «شيء غريب يستمد وجوده من الأغوار السحيقة للنفس الإنسانية، فيذكرنا بتلك الهوة الزمنية العميقة التي تفصلنا عن عصور ما قبل التاريخ البشري، أو تثير في أذهاننا صورة عالم فائق للبشر يسوده تضارب النور والظلام. ولاشك أن مثل هذه التجربة الأولية البدائية تفوق كل قدرة بشرية على الفهم. عدا أن الإنسان معرض دائماً لخطر الخضوع لسلطانها. على أن قيمة هذه التجربة وقوتها إنما تظهران أولاً وقبل كل شيء في ضخامتها وغرابتها. إنها تنبع من أغوار سحيقة لا زمانية، فتبدو لنا غريبة باردة متعددة الجوانب شيطانية خارجة على المألوف باعثة على السخرية. لكأنها عينة من السديم الأزلي انفجرت على حين فجأة فأتت على معاييرنا وقيمنا البشرية وحطمت ما لدينا من مقاييس للصور الجمالية».
إن التجارب العادية لا تمزق حجب العالم ولا تزيح النقاب عن الكون ولا تتجاوز حدود الإمكان البشري، وهي لذلك تقبل الصياغة الفنية بسهولة، وتلين لمطالب الفنان في يسر. أما التجارب الأخرى فإنها تجيء فتمزق من القمة إلى القاع ذلك الستار الذي رسمت عليه صورة عالم منظم، فتتيح لنا أن نلقي نظرة خاطفة على الغور السحيق لما لم تدركه الصيرورة بعد. أنحن نعاين عندئذ عوالم أخرى، أنحن ندرك الغموض الذي يحف بالروح، أنحن نرى بداية الأشياء فيما قبل العصر البشري، أنحن نستشف أجيال المستقبل التي لم تر النور بعد؟.
إننا نجد مثل هذا الانكشاف في «راعي هرمس» لدانتي وفي الجزء الثاني من «فاوست» وفي الفيض الديونيزي عند نيتشه، وفي «خاتم نبلونجن» لفاجنر، وفي «الربيع الأولمبي» لشبتلر، وفي شعر وليام بلايك، وفي «أبنيروماشيا» للراهب فرنشسكو كولونا، وفي الشطحات الفلسفية والشعرية ليعقوب بوهمه. ونجده كذلك، على نحو أشيق، لدى رايدر هاجارد في روايته «هي أو عائشة» وفي كتابات بنوا عامة...الخ.
إن الروائي هنا لا يذكرنا بشيء مما يقع في حياتنا العادية، بل يضع أمامنا جملة من الأحلام والمخاوف الليلية والخبايا المظلمة من النفس مما ندركه في بعض الأحيان إدراكاً غامضاً تخامره رهبة، وهكذا نجد في هذا الأدب أن المضمون في القصة يفوق الحبكة القصصية في دلالته وخطورة شأنه، مهما يظهر لنا أن أحداث القصة تطغى على هذا المضمون.
ولئن كان الهوى البشري يدخل في نطاق التجربة الشعورية، فإن موضوع الرؤيا قائم فيما وراء تلك التجربة، وإذا كانت إحساساتنا وإداركاتنا تكشف لنا عن جانب من الواقع هو الجانب «المعلوم» فإن تجارب الرؤيا تكشف لنا عن جانب آخر، هو الجانب المجهول.
ويرى يونغ أن ما تكشف عنه الرؤيا المعبر عنها في هذا النوع من الأدب إنما هو «اللاشعور الجمعي».
الفصل الثالث: «بين علم الطباع والأدب»
لقد رأى أصحاب علم الطباع فيه وسطاً بين علم النفس والأدب، ولما كان منهجه استقراءً وحدساً معاً، فإننا ندلف في هذه الدراسة.
ويرى د.سامي أن المقومات الأساسية للطبع عند أصحاب المدرسة الفرنسية هي: الانفعالية والفعالية والترجيع، ومن تآلفها ثلاث ثلاث تخرج ثمانية نماذج طبعية أساسية. وكل نموذج من هذه النماذج الأساسية يتخصص بعد ذلك ويتفرع على أساس انضياف مقومات ثانوية هي (ساحة الشعور، الذكورة والأنوثة، الاستيلاء، الاهتمامات الحسية، المودة، الهوى العقلي).
الانفعالية: وهي درجة التأثر بحدث ما، وعلى درجة التأثر يوصف الشخص أنه انفعالي أو غير انفعالي.
الفعالية: وهي مقياس درجة العمل والإقبال عليه دون الشعور بالتعب، وإذا ما شعر بالتعب فإن قسطاً صغيراً من الراحة كافٍ لتجديد قواه.
الترجيع: وهو مقياس ردود الفعل من قبل شخص أسيء إليه، وعلى هذا النحو يوصف بأنه ذو ترجيع قريب إذا اضطرب بسرعة ثم لم يلبث أن عاد إلى حالته الأولى من الصفاء، في حين أن الذي لم يضطرب إلا في بطء ثم ظلت الإساءة تعمل في نفسه مدة طويلة ولو في أثناء غياب تصورها عن ساحة الشعور فهو ذو ترجيع بعيد.
ومن تزاوج هذه المقومات الأساسية ثلاثاً ثلاثاً تتكون النماذج الطبيعية الثمانية التالية:
العصبي: وهو الانفعالي اللافعال ذو الترجيع القريب.
العاطفي: وهو الانفعالي اللافعال ذو الترجيع البعيد.
الغضبي: وهو الانفعالي الفعال ذو الترجيع القريب.
الجموح: وهو الانفعالي الفعال ذو الترجيع البعيد.
الدموي: وهو اللاانفعالي الفعال ذو الترجيع القريب.
اللمفاوي: وهو اللاانفعالي اللافعال ذو الترجيع البعيد.
الهلامي: وهو اللاانفعالي اللافعال ذو الترجيع القريب.
الخامل: وهو اللاانفعالي اللافعال ذو الترجيع البعيد.
أما العوامل الثانوية التي تدخل في تخصيص هذا الطبع وتلوينه فهي:
سعة ساحة الشعور:
إن ضيق ساحة الشعور يركز الفكر على شيء بعينه مستقل عن غيره. ولاشك أن هذا يسهل ملاحظة الشيء بدقة ويسهل تحليله واستنفاد عناصره. ولكن من شأنه أيضاً أن يبعد عن بؤرة الشعور كل ما عدا ذلك الشيء الذي يستأثر بها. أما سعة ساحة الشعور فهي تتيح للفكر أن يطوف ويحوم. فما يسيطر على الذهن تصور بعينه يحتكر ساحة الشعور بل يعانق الانتباه أشتاتاً من التصورات يضيئها كلها بنوره ويصهرها في بوتقته، وتترقرق في الفكر موجات من التأثرات ليس بينها انقطاع ولا حدود.
وعلى هذا النحو فإن الاختلاف في سعة ساحة الشعور لدى شاعرين مثل بودلير وفرلين هو الذي يطبع قريض كل منهما بطابعه الخاص ويفرض عليه روحه الخاصة. فبودلير الضيق الشعور يميل إلى ما هو محدد القسمات واضح الملامح ثابت لا يتحرك، أما فرلين الواسع الشعور، فينفر من ذلك كله، ويغرق في الحركة والغموض والإبهام.
الذكورة والأنوثة:
لكل واحد من الناس طريقته في معاملة الآخرين، فهو إما أن يسير إلى تحقيق أهدافه بمصارعتهم، وإما أن يسلك إلى ذلك سبيل إغرائهم. والحق أن جميع الناس، رجالاً ونساءً، يغلب على بعضهم الطابع الأول، ويغلب على بعضهم الآخر الطابع الثاني. ولذلك يمكن تصنيفهم في نموذجين، نموذج يطلق عليه «النموذج مارس» (إله الحرب في الأساطير)، والآخر نطلق عليه «النموذج فينوس» (إلهة الإغراء في الأساطير). إن جورج صاند تنتمي إلى النموذج مارس، وإن شوبان ينتمي إلى النموذج فينوس.
ومن الجدير بالذكر هنا الإشارة إلى أن بعض الباحثين يرى أن شاعراً كبيراً مثل بدوي الجبل ينتمي إلى النموذج مارس، خصوصاً أن هذا النموذج يبحث عن الصراع والتنافس والخصومة، فإذا كان من المنشغلين في الأمور العقلية مثلاً رأيناه لا يكل من المجادلة، إنه لا يبحث عن النقاط التي يمكن أن ينعقد حولها اتفاق بل عن النقاط التي يمكن أن يحتدم حولها الصراع.
الميل إلى الاستيلاء:
هو «هذه الحاجة التي يشعر بها الإنسان إلى إدخال العالم الخارجي في ذاته وإحالته شيئاً من مادته». ولهذه الرغبة في إدخال الأشياء إلى الذات وجهان أولهما الأخذ وثانيهما الاحتفاظ.
وعلى هذا النحو إذا كان صاحب الميل إلى الاستيلاء ينتمي إلى النموذج مارس أخضع الآخرين بالقوة والضغط المباشر، وإذا كان من النموذج فينوس عمد إلى الإغراء لتسخير الآخرين لمآربه دون أن يطلب إليهم في ظاهر الأمر شيئاً.
والاستيلاء والمودة قد يجتمعان في نفس واحدة فيتصارعان، وإذا كان الفيلسوف الألماني نيتشه قد أجاد في وصف إرادة القوة فلأنه عرف نداءها بتجربة حية في ذات نفسه، ولكنه كان إلى ذلك رقيق القلب مفعماً بروح الشفقة فكان إذ يحارب الشفقة إنما يحارب نفسه.
الاهتمامات الحسية:
إنما لا يمكن لامرئ أن يبدع أثراً فنياً تشكيلياً إذا كانت اهتماماته الحسية ضعيفة مسرفة في الضعف. وعلى هذا النحو، إذا انضافت الاهتمامات الحسية إلى قدر كافٍ من الهوى العقلي رأينا الشخص يعنى بالمشكلات الفنية ويفكر فيها، حتى إذا كان الهوى العقلي غالباً رأينا حب الفهم ينتصر عنده على حب الإحساس.
المودة:
أول مظاهر المودة في الرجل ميله إلى النساء، فالمودة على صلة بالدافع الجنسي، ومن آيات المودة في الشخص ميله إلى الصداقة، لا الصداقة التي هي تبادل منافع ومتعة حديث فكري، بل اتحاد روحين وهبت كل منهما نفسها للأخرى، فإذا الصديق يحب صديقه ناسياً نفسه، وإذا به يعنى بأفراحه وشجونه أكثر مما يعنى بما له هو من مثل ذلك.
ومن آيات هذه المودة أيضاً حب الأطفال. فحين لا يكون اهتمام الرجل بالمرأة مشفوعاً بميله إلى الأطفال يكون راجعاً إلى اللذة الشهوانية لا إلى المودة. وعلى هذا النحو كان لافونتين يحب النساء لا الأطفال.
ومن آيات المودة ما أطلق عليه اسم الطيبة أي القدرة الطبيعية على مشاركة الآخرين انفعالاتهم. كما أن المودة لا ترجع إلى الانفعالية، فرب انفعالي بغير مودة، ورب ودود بارد العاطفة.
الهوى العقلي:
يجب أن نفرّق بين الهوى العقلي الذي هو رغبة في الفهم وبين الذكاء الذي هو قدرة على الفهم، كما يجب أن نفرق بين حب المعرفة الذي ينشأ عن الهوى العقلي وبين حب للمعرفة ناشئ عن الميل إلى الاستيلاء. وعلى هذا النحو فالشاعر غوته كانت المعرفة لديه سبيلاً إلى الكمال الشخصي، وكان انفتاحه للعالم يهدف إلى تمثل العالم والازدياد به لا إلى التمتع بفهمه من أجل الفهم ذاته.
إذن، هذه هي المقومات الأساسية التي تتكون من تآلفها ثلاث ثلاث النماذج الطبيعية الثمانية، وتلك هي المقومات الثانوية التي تخصص النماذج الأساسية وتلونها. وعلى هذا النحو فهذه نماذج الطبع الثمانية المذكورة آنفاً.
أخيراً، الطبع في تعريف لوسن هو «مجموعة من الاستعدادات الفطرية التي تؤلف الهيكل النفسي للإنسان»، وهو إذن موروث، وثابت لا يتغير. وفي مقابل الطبع هنالك الشخصية وهي تتضمن الطبع أولاً، وتتضمن كذلك جميع العناصر التي اكتسبها الفرد خلال حياته، فخصصت طبعه على نحو كان يمكن أن يكون مختلفاً. والطبع والشخصية هما طرفا علاقة تشبه علاقة صورة بمادة. وفي قلب هذه العلاقة التي تجمع الطبع إلى الشخصية هناك مبدأ فعال يقول عنه لوسن إنه حر، إشارة إلى أنه كان يستطيع وما يزال يستطيع أن يخصص الطبع فيخرج منه شخصية أخرى، وهذا المبدأ الفعال هو «الذات»، وقولنا عن الذات إنها حرة لا يعني أنها قادرة على كل شيء، فإن الذات مسلحة بالطبع محدودة به على نحو فطري ثابت. ويرى لوسن أن لعلم الطباع أربعة مستويات يجب أن يمر بها حتى يصل إلى معرفة فرد من الأفراد معرفة عميقة غنية.
وقد سبق أن بيّنا في دراسة سابقة كيف أنه يصعب التسليم بما ذهب إليه لوسن من أن الطبع الذي هو عنده حصيلة الوراثة لا يتطور ولا يتبدل.
إلا أن لوسن يصرح أنه قد أعمل في فهم الطباع التي رسمها حدساً وصفه بأنه الحدس الأدبي، وقال عنه إنه نفذ به إلى وحدة الطبع الذي تنبع منه مظاهر السلوك.
ونعود فنقول إذا كان علم النفس يصف لنا الشخصية، فإن الأدب يصور هذه الشخصية في تفاعلها مع الأحداث مكونة مصيراً شخصياً.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول إن لوسن اعتبر علم الطباع وسطاً بين علم النفس والأدب.
الفصل الرابع: «التحليل النفسي للأديب»
لاشك أن التحليل النفسي يطرح مشكلتين: الأولى: ما الذي يجعل الفنان فناناً أو الأديب أديباً؟ أما الثانية: فكيف نعرف شخصية الفنان أو الأديب من آثاره؟
ولعل المشكلة الأولى تكمن في أن التحليل النفسي ينظر إلى الفن كتعويض تصعيدي عن غريزة مكبوتة. والتصعيد عند فرويد وأتباعه هو القدرة على أن يحل محل الغاية الجنسية الأولية غاية أخرى ليست جنسية ولكنها مرتبطة بالغاية الجنسية في نشأتها. وبعبارة أخرى، فالتصعيد هو أن النتيجة النهائية ذات قيمة أعلى.
وفي هذا السياق يقول دراكوليدس: «يبرهن لنا علم نفس اللاشعور على أن الخلق الفني في جميع مظاهره ليس إلا ظاهرة بيولوجية نفسية، ليس إلا تعويضاً مصعداً عن الرغبات الأساسية التي ظلت بلا ارتواء بسبب عقبات في العالم الخارجي أو في العالم الداخلي».
إن الأحلام والتصعيد الديني أو الفني والعصاب النفسي، كل ذلك إنما هو طرق تسلكها الرغبات الغريزية المكبوتة في اللاشعور لترتوي ارتواء رمزياً أو مصعداً. إن الطريق الذي يؤدي إلى الفن، كما يؤدي إلى أنواع أخرى من النشاط الاجتماعي، إنما هو التصعيد. والتصعيد ينقذ من العصاب.
إن الصراع مع الواقع، هذا الصراع الذي يولِّد كبت الرغبات الغريزية ويحرمها من الارتواء، يبعد الفرد عن العالم الخارجي، ويقوي اهتمامه بالعالم الداخلي اهتماماً يذكيه الخيال والحلم، وهذا الانطواء يؤدي إلى تحليل الذات وإلى الاستبطان، ويؤدي إلى الإبداع الفني.
إن الحب هو المخصِّب الفذ للإبداع الفني، ولكن الحب الذي يخصب الإبداع الفني هو الحب الذي لا يرتوي. وكما يقول أحد الأدباء: «إن إيروس إله الحب، هو الذي كان ينبغي أن يُصوَّر ممسكاً بيده القيثارة يقود جوقة آلهة الشعر، بدلاً من أبولو إله الشعر».
ويشير دراكوليدس في كتابه «التحليل النفسي للفنان وآثاره»: «إن الفنان يسعى من خلال خياله وآثاره إلى إرواء رغباته. إنه من وجهة النظر السيكولوجية، بين الحالم والعصابي. ففي هذه الحالات الثلاث (الحالم، الفنان، العصابي) هناك هروب من الواقع وعودة إلى العالم الخيالي، مع فرق واحد هو أن الحالم يعود إلى الواقع حين يستيقظ، وأن الفنان يعود إلى الواقع بالخلق، وأن العصابي هو الوحيد الذي يستمر على الانحباس في حلم عالمه الخيالي، غير أن التعويض التصعيدي لا يستبعد التعويض العصابي. فبعض العناصر العصابية يمكن أن تتسرب إلى التصعيد الفني، كما أن بعض عناصر الميل الفني يمكن أن توجد في العصاب».
على هذا النحو، فإن النتيجة في التصعيد أعلى من سببها، ولكن المدرسة الفرويدية تكاد ترى أن السبب والنتيجة واحد في التصعيد، فالفرويديون يرون أن التصعيد ليس إلا تقنيعاً للميل الجنسي. إلا أن مدرسة يونغ ثارت على هذا التفسير الجنسي الصرف خصوصاً لدى المتزمتين من الفرويديين.
ومع هذا نسمع تصريح فرويد في كتاب ماري بونابارت عن إدجار بو يقول فيها: «إن بحوثاً كهذا البحث لا تدعي أبداً أنها تفسر عبقرية الخالقين، وإنما هي تبين ما هي العوامل التي أيقظتها، وما هي المادة التي فُرِضَت عليها».
وفي هذا السياق يسير ليوثل تربلنج في بحثه «الفن والعصاب» إلى ما يلي: «إن حرصنا على أن نربط قدرة الكتّاب بالعصاب، يوجب علينا أن نربط كل قدرة عقلية بالعصاب؛ فيجب علينا أن نجد جذور قدرة نيوتن في شذوذاته الانفعالية، وأن نجد جذور قدرة داروين في مزاجه العصابي جداً، وأن نجد جذور عبقرية باسكال الرياضية في الاندفاعات التي كانت تقوده إلى أقصى درجات المازوخية الدينية..الخ. إننا إذا جعلنا العصاب والمقدرة متلازمين، كان ينبغي أن نعتبرهما كذلك في جميع ميادين النشاط، فلا المنطقي ولا الاقتصادي ولا عالِم النبات، ولا عالِم الفيزياء، ولا عالِم اللاهوت ولا صاحب أي مهنة أخرى يمكن أن يكون أرفع من أن يخضع للتعليل السيكولوجي».
وعلى هذا النحو، فالنجاح العقلي لا يجب في هذه الحالة أن يعزى وحده إلى العصاب، وإنما يجب أن يعزى إلى العصاب أيضاً الإخفاق والقصور، ومعنى هذا أن نعزو إليه النجاح والإخفاق والتخلف جميعاً إلا أن تربلنج ينتهي إلى هذا القول: «ولكن العصاب الذي يعلل كل هذه الأمور، لا يمكن أن يعتبر تعليلاً خاصاً بمقدرة الإنسان الأدبية».
وباختصار، فالتحليل النفسي لا يستطيع أن يقول لنا شيئاً عن العبقرية الفنية، وإنما يستطيع أن يكشف لنا عن العلاقة بين شخصية الأديب وبين آثاره.
الفصل الخامس: «الدراسة النفسية للآثار الأدبية»
يمكن تصنيف الدراسات السيكولوجية للآثار الأدبية على أساس المدرسة السيكولوجية التي تنتمي إليها، فهناك الدراسات السيكولوجية التي قام بها علماء الأمراض العقلية، وهناك الدراسات التي قام بها علماء الطباع، وهناك الدراسات التي قام بها علماء التحليل النفسي وهي الأوفر عدداً من سائر الدراسات السيكولوجية الأخرى، إلا أنها تصنف أيضاً بنوع من التصنيف في مدارس: فهناك الدراسات التي تستلهم نظريات فرويد، وهناك الدراسات التي تستلهم نظريات آدلر، وهناك الدراسات التي تستلهم نظريات يونغ. وهناك دراسات أخرى لا تتقيد بنظرية من هذه النظريات وإن تكن متأثرة بها، وإنما هي تستفيد منها، مع تحرر يزيد أو يقل مما فيها من مذهبية.
والواقع أن اختلاف هذه النظريات يرجع إلى أنها تنتبه إلى جوانب مختلفة من الواقع، أكثر مما يرجع إلى تعارض في تفسير جانب بعينه من الواقع.
وقد اخترنا أن نعرض ثلاثة نماذج من هذه الدراسات السيكولوجية للآثار الأدبية تمثل أنواعها، فالأولى هي الدراسة التي تناول بها رونيه لوسن دراسة شخصية ألفرد دوفيني من خلال آثاره وحياته على أساس من علم الطباع، وأما الثانية فهي التي تناول بها الدكتور فروتيه دراسة شخصية الشاعر مالارميه كما تتجلى في حياته وفي آثاره أيضاً، وذلك على ضوء علم الأمراض العقلية، محاولاً أن يرد شعره الذي يعبر عن العدم إلى تجربة العدم التي عاشها الشاعر في أثناء نوبات الماليخوليا، وأما الدراسة الثالثة فهي التي تناول فيها شارل مورون دراسة هذا الشاعر نفسه مالارميه ولكن من وجهة التحليل النفسي!!.
المراجع
1) سامي الدروبي، تأليف: إحسان بيات الدروبي.
2) علم النفس والأدب: معرفة الإنسان بين بحوث علم النفس وبصيرة الأديب والفنان، تأليف: سامي الدروبي.
3) الطريق إلى الحوار، تأليف: ندره اليازجي.
4) غادة السمان، إعداد: نبيل سلامة.
|