لقد ذكرنا قبل قليل أن البعد السياسي عند بدوي الجبل قد اتخذ أيضاً طابعاً ملحمياً، أشار إليه د.خليل الموسى، وذلك من خلال النزوع إلى القصائد المطوّلات مثل قصيدة «أين أين الرعيل من أهل بدر» في مئة وأربعة عشر بيتاً، وفي قصيدته «من وحي الهزيمة» وهي في مئة وخمسة وخمسين بيتاً.
يقول د.خليل الموسى: «إن الغضبة الملحمية لسبب داخلي تتجلى في قصيدة "من وحي الهزيمة" وهي تشكل غضبة عارمة لافتقاد البطل الملحمي الذي يقود الشعب من نصر إلى نصر، ولكن الحكام القائمين على الأمر والنهي هم الذين انهزموا في المواجهة في حزيران، وتركوا الشعب في السجون والأصفاد:
أما باب القلب فلا يُفْتَح إلا بعد توبة صادقة تقوم على الخوف والذل والدموع، وهذا ما نراه عند شيخ العاشقين «ابن الفارض» في هيامه في الصحراء، وعند ابن قيم الجوزية في روضة المحبين عن المحبة أنها: «شجرة في القلب عروقها الذل للمحبوب، وساقها معرفته، وأغصانها خشيته، وورقها الحياء منه، وثمرتها طاعته». وكذلك نرى هذه الوقفة عند باب القلب عند مولانا جلال الدين الرومي حيث يرى باب الله باباً للغفران. وفي هذا يقول أ.عريفي: «ومادام باب الله هو باب الغفران فقد وقف مولانا أمامه عبداً وضيعاً، خاشعاً، باكياً، وليس له أمام مولاه شاهد على عشقه إلا ما به من ذل ودموع».
أما الشاعر بدوي الجبل فهو يظهر هذه الوقفة من خلال «الدموع»، ويُقال أن «الدموع» هي صلة الوصل بين الروح والجسد، والولادة من الروح تعبر عنها الدموع، ويُقال أن دموع التائب تمحو الخطايا وتفتح باب السماء.
يقول البدوي:
ضحكت وساءلني زملائي ماذا تريد الرئاسة مني فتهربت من الجواب. كنت أعرف ماذا حرك شيطان الشعر في صدر صديقي، أو من حركه. فتناولت قلمي ورحت أجيبه، وكتبت تحت البيت الأول هذه الأبيات:
وهذه القصيدة التي يمكننا الاستماع إليها بالصوت الساحر، لسفيرة العالم العربي واللغة العربية إلى النجوم، المطربة الكبيرة فيروز، تأخذ السامع أو القارئ إلى عوالم غريبة وصور من الخيال الذي يتجاوز الخيال، إنها اللغة الساحرة التي تتدفق كماء ينبوع ثر المياه دافئ المنهل، فينهل منها متعبو الأرواح والطامحون إلى تجاوز قيود هذا العالم، والغوص في أغواره الروحية، من حب وصداقة ونعيم العيش، كل ذلك من خلال العشق الصادق والحب العميق.
وفي هذه القصيدة تبدو قدرة البدوي اللغوية. ولطالما تساءل النقاد عن قدرته في إيراد الألفاظ الصعبة، فتبدو في سياق القصيدة سلسلة عذبة ومن ذلك قوله: «يا للطيوف الغريرات المعاطير»، إذ أن كلمة «المعاطير» الصعبة اللفظ والمبنى بحد ذاتها، ترد هنا دون أي صعوبة تذكر، رغم توالي الحروف العصية اللفظ فيها كالعين والطاء والراء.
كما تبدو قدرته التصويرية الهائلة في نقل القارئ إلى سياق مشهدي تتوالى فيه الصور، التي تحفز مخيلة القارئ، فهي صور ليست من هذا العالم، وعليه أن يرتقي إلى الحالة الشعورية التي تخلقها القصيدة، كي يعيش فيها ولها أجمل لحظات الإحساس والإبداع. وأظن أن هذه القصيدة أو مثيلاتها هي ما يتحدث عنه المخرج السينمائي السوري أسامة محمد، حين ينقل عنه الناقد السينمائي محمد الأحمد، في أنه تعلم عشق السينما من أبيات بدوي الجبل، ويرى أن قصائده تحتفي بمشهدية سينمائية عالية.
وربما دفعت هذه القصيدة بالذات بعض النقاد إلى إبداء وجهة نظر تقول، أن قارئ شعر البدوي، يحس بأن للكلمات ظلاً في قصائده، يسير معها، ويستثير القارئ في التعمق في أغوارها ومحاولة اكتناه معانيها العميقة.
بدوي الجبل والحداثة الشعرية
لا يمكن اعتبار بدوي الجبل شاعراً حداثوياً وفقاً لمعايير الحداثة المتعارف عليها اليوم، فهو شاعر كلاسيكي بامتياز، من حيث التزامه بعناصر الشعر العربي العمودي لغة ومحسناتٍ وبديعاً وأوزاناً وقوافيَ وروياً.
إلا أن شعر البدوي يتحدى مفاهيمنا الحداثوية من حيث جدّته الفكرية، وقدرته المذهلة على الوصول إلى جوهر المعنى ولب الفكرة، رغم القيود اللغوية التي يفرضنا الوزن، فإذا بالصورة أو الفكرة جلية واضحة دون زيادة أو نقصان، ودون تكلّف أو إضافة ليس لها معنى.
إن معالجة البدوي لموضوعات معاصرة، سواء في الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية أو العاطفية، يجعله ابن زمانه، يعبر عن أحاسيس عصره وطموحاته وأشجانه ومشاكله وأحلامه، ويستشرف رؤاه المستقبلية، مما يجعله شاعر حداثة وليس شاعر ماضوياً، فنظرته دائماً إلى المستقبل، حيث الابتكار والإبداع سيدا موقفه الفكري وأدواته الشعرية.
إلا أن البدوي لا يرى التحديث في شكل الشعر العربي، بل التجديد في الأفكار والصور والخيالات، والابتكار في استخدام الألفاظ ومطاوعة اللغة العربية والوزن الشعري، لتعالج موضوعات الحاضر والمستقبل، وتبدع في اقتراح الحلول وطرح المشكلات.
وليس أدل على ذلك من علاقة البدوي برواد الحداثة الشعرية في الشعر العربي، من أدونيس إلى محمد الماغوط وشوقي أبي شقرا ويوسف الخال وغيرهم، فقد احترمهم واحترموه، ونشر قصائده في مجلة «شعر» التي كانت الناطقة باسم هذه المجموعة من الأدباء، ورأى فيهم شعراء ابتعدوا عن جادة الشعر، وتمنى لو أنهم رجعوا إليها، ومن ذلك ما يقال أنه كان يرى في أدونيس شاعراً عبقرياً ضلّ الطريق، في إشارة إلى رغبته في أن يكتب أدونيس الشعر الموزون المقفى.
ويعبر عن ذلك قول الشاعر الكبير بشارة الخوري (الأخطل الصغير) واصفاً السمات الشعرية لدى البدوي: «إن الشعراء في سورية كأصابع الكف الواحد عدداً وحجماً، وبدوي الجبل إحدى هذه الأصابع في نفسه شاعران، إذا انتصر أحدهما للقديم اعترضه نصير الجديد ، فما خرجت القصيدة من نفسه إلا وعليها طابع الشاعرين، هذا هو بدوي الجبل في شفق عمره فكيف به وهو في رأد الضحى».
ويقول أحد رواد مجلة «شعر»، الشاعر شوقي أبو شقرا في لقاء معه أجراه الأستاذ يقظان التقي: «مجلة شعر، ربما لا تكون صورة صحيحة كاملة عن التجربة الشعرية الحديثة أو عن المغامرة بأسرها، ذلك أنها مجلة حاولت أن تستقطب الاتجاهات من مختلفة ومن قريبة وأنها من الدرجة الأولى كانت ذات منحى صحفي، أي يريد أن يحتوي ما هو جديد وكذلك ما يُصنع من سائر الشعراء ولا سيما الفحول منهم الذين كانوا أحياء آنذاك: جورج صيدح وبدوي الجبل وخليل حاوي (على ضفة أخرى)، وأذكر أن بدوي الجبل كان تجاوب مع ما صنعنا وكان مثلاً يقول لي كلما التقيته معلقاً على قصيدتي "من أكياس الفقراء" ومردداً و"تنقر الباب على الله"».
أما الشاعر والكاتب ممدوح عدوان فيبدو أنه قد توصل إلى نتيجة أخيرة تقول أن قصيدة حديثة الشكل ليست بالضرورة قصيدة حديثة، وكذلك فإن قصيدة موزونة مقفاة ليست بالضرورة قصيدة غير حديثة، فهو يقول في لقاء معه أجراه الأستاذ أنور بدر في مجلة القدس العربي: «اكتشفت مع الأيام أنني مع الشعر ولست مع شكل الشعر، فمؤخراً جمعت مختارات من شعر بدوي الجبل وهو شاعر كلاسيكي، انتقيت له قصائد اعتبرها أفضل من كثير مما يسمى بالشعر الحديث».
ويمكن القول أن أدق وصف تناول موقع شاعرنا البدوي من الحداثة الشعرية قد ورد على لسان الشاعر الكبير أدونيس في حوار له مع مجلة عيون حيث يقول: « كان بدوي الجبل الصدر الذي يحتضن جسد الشعر العربي، ويعيد تكوينه في اللغة وبها، أنيقاً، مترفاً، بهياً. عرفت في شعره كيف تكون الذاكرة ذِكْراً، وكيف تتداخل فيها أصوات الشعراء القدامى وتتآلف قريبة بعيدة في صوت واحد. وعرفت فيه كيف يصير الماضي حاضراً، دون أن يلبس الثاني ثوب الأول، ودون أن يدير الأول ظهره للثاني. وعرفت كيف يكون الشعر سلكاً ينتظم فيه العقل والقلب، الغضب والحب، المرارة والطمأنينة. كان بدوي الجبل جبلاً، لكنه كان في الوقت نفسه موجاً».
ما قيل فيه
لقد تبوأ بدوي الجبل مكانته في الشعر العربي، وحظي بحب وإعجاب النقاد والأدباء، ناهيك عن جمهوره الكبير من محبي الشعر العربي ومتذوقيه، فأخذ مكانته بين عمالقة شعراء عصره، الذين لم يخفوا إعجابهم العميق بهذا الشاعر الكبير.
ويبدو ذلك واضحاً في آرائهم التي أدلوا بها في مناسبات مختلفة، ونثبت هنا بعضاً منها:
فيقول سعيد عقل:
«بدوي الجبل أحد قلائد الشعر في الدنيا».
وأمين نخلة:
« بدوي الجبل أمير الشعراء وأوفى الأوفياء».
ونزار قباني:
«بدوي الجبل السيف اليماني الوحيد المعلق على جدار الشعر العربي، في حنجرته ألف لبيد وألف شريف رضي وألف أبي تمام».
وعبد الوهاب البياتي:
« من يكتب الشعر بعد بدوي الجبل سنرميه بحجر».
والعلاّمة محمد كرد علي، مؤسس المجمع العلمي العربي بدمشق:
« إن بدوي الجبل هو في مقدمة شعراء العرب، الذين يحملون لواء وحدتها ويقودونها إلى سبيل سلامتها وعظمتها».
وشفيق جبري:
«بدوي الجبل لا يدانيه شاعر من شعراء العصر، في شعر البدوي ديباجة الشريف الرضي، والشريف الرضي أشعر شعراء قريش».
وكذلك تناوله النقاد في دراساتهم فنجد د. عمر الدقاق يقول عنه:
«اتسم شعره بديباجة جميلة تجعله يسمو في شعره الى آفاق البحتري والشريف الرضي, ولعله آخر شاعر كبير في سلسلة الشعراء التقليديين».
أما عباس محمود العقاد فيقول:
« إن شعر البدوي يطلع من أعماق نفس القائل ليرتد إلى أعماق نفس السامع لا ليروي طريفاً أو يثير انفعالاً بل ليستقر ويُحفظ بعد الإلقاءة الأولى كل هذا في أناقة مترفة».
وتقول الأديبة الكبيرة الدكتورة نجاح العطار في تعليق لها بعد وفاته:
« السلاطة كانت حتماً ووعداً وغدت في الخيال حقيقة، أحييها من بعيد كفاء صنع شاعرنا الكبير البدوي في تحياته لدمشق، وأعلن عجزي عن رد بعض صنيعه لعجز عن مثل قصيده».
ونختتم بقولين لاثنين من كبار الشعراء، أحدهما من عمالقة شعراء الحداثة الشعرية وآخر من عمالقة الكلاسيكيين:
الأول هو أدونيس ويختصر كل هذه المقولات عن البدوي بقوله:
«بدوي الجبل أكبر شاعر كلاسيكي معاصر، وواحد من كبار شعراء العربية في مختلف عصورها».
ولعل الجواهري لم يعن إلا نفسه حين قال:
«أكبر شاعر عُرِف في هذا العصر: بدوي الجبل، وشاعر آخر».
ونختتم هذه المجموعة من الأقوال بالحادثة الطريفة التالية المروية عن الشاعر الكبير عمر أبي ريشة ورأيه في البدوي:
يحكى أن جلسة أدبية في دمشق، أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، جمعت كلاً من الشاعرين الكبيرين نديم محمد وعمر أبي ريشة، والناقدين الكبيرين د. أمجد طرابلسي ود. عبد الكريم الأشتر، وآخرين.
سأل أحدهم نديم محمد: أيهما أشعر، عمر أبو ريشة، أم بدوي الجبل؟ وقد اعتقد السائل أن نديماً سيتردد في تفضيل البدوي على عمر أبي ريشة، لأن الأول كان من المغضوب عليهم سياسياً وقتها، وكان يعيش خارج البلاد، فضلاً عن توهمه بأن سؤاله قد يحرج نديماً بوجود عمر أبي ريشة. إلا أن ظنون السائل سرعان ما خابت، وما كان من نديم محمد إلا أن أشار بيده إلى بيت في جبل قاسيون قائلاً: هل ترون ذلك البيت على سفح قاسيون؟
السائل: لا نسألك جغرافية، وإنما نسألك أدباً؟
نديم محمد: وأنا أجيبكم أدباً، والله ما عمر أبو ريشة بجانب البدوي، إلا كهذا البيت بجانب قاسيون.
استغرب الجميع إجابة نديم محمد واستنكرها، إلا الشاعر العملاق عمر أبي ريشة، الذي علق ببداهة المبدع الواثق، وبساطة الشاعر الكبير الحق، الذي يعرف قدر بدوي الجبل ومكانته الشعرية: يشرفني أن أكون البيت المزين على سفح بدوي الجبل.
ولعل أجمل ما نختم به، هذه الأبيات لبدوي الجبل المليئة بالروحانية الممتزجة بالإحساس بالكرامة البشرية، والعزة والإباء، التي تعتبر المكون الأساسي لشخصية الإنسان العربي الأصيل، التي عاش الشاعر وهو يحلم أن تتمثلها أمته: