فيوض وتجليّات ربانيّة أتت على لسان الأولياء 09/أيلول/2008
ثاني ليالي الموسيقى الروحية في قصر العظم بدمشق 8 أيلول 2008 كانت صعيدية، مصرية بامتياز أحياها الشيخ أحمد التوني الملقب بـ«ساقي الأرواح» و«سلطان المنشدين».
ولد الشيخ احمد التوني في صعيد مصر في محافظة أسيوط، ليجد نفسه منشداً لما تمتع به من حلاوة الصوت، والقدرة على حفظ الإشعار وإتقان أداء المقامات الموسيقية على اختلاف نغماتها، وكان أول ما تلقى تعليمه في الإنشاد سماعياً على الشيخ الشبيتي، وخلال حوالي الستين عاماً من الإنشاد أصبح له شخصية فريدة على مستوى مصر والعالم العربي قادته في أواخر تسعينيات القرن الماضي إلى مسارح باريس ليقدم الموسيقى الصوفية بطريقتها الفطرية كما ولدت لأول مرّة في أرياف مصر النائية.
بعد هذه المسيرة الحافلة زار الشيخ التوني دمشق لأول مرّة في حياته ليقدم أول حفلاته في بلاد الشام على مسرح قصر العظم. وعلى هذا المسرح أبدع لما يزيد على الساعة والنصف في إنشاد مآثر الشعر الصوفي لأبن الفارض والإمام أبو العزايم والحلاج وغيرهم، وسط دهشة الحضور حيال قدرة هذا الشيخ السبعيني في الانتقال بين المقامات الموسيقية وتقديم عرضه الخاص بطريقةٍ فطرية وارتجالية بحتة دونما أي تحضيرات مسبقة.
فقط اختبارٌ بسيط للصوت قبل الحفلة ليترك لتخته الشرقي البسيط المؤلف من الرق والكمان والناي مهمة تقدم موسيقى في الخلفية تتبع صوته وطريقته في الإنشاد، مع أداء حركات الحضرة بشكلها المبسط إمعاناً في السلطنة والاستعانة بكأس زجاجي بين فترةٍ و أخرى لتقديم إيقاعه الخاص بواسطة النقر بالمسبحة على الكأس.
«اكتشف سورية» رصد أجواء هذه الليلة من خلال حديثٍ قصير إلى الشيخ أحمد، عبرّ من خلاله عن سعادته بزيارة أرض الشام وبحسب قوله هناك قرابة تربط أهل صعيد - مصر بالسوريين «الجد واحد».
وأكّد لنا على أصالة الموسيقى التي يقدمها فهي تراثية مائة بالمائة وتتفق مع كل ألوان الموسيقى الشرقية الأصيلة فالموسيقى الغربية برأيه لا تتفق مع المنطق الصوفي. ويرفض الشيخ التوني فكرة تسمية الكلمات التي ينشدها بالأشعار فهي من وجهة نظره: « فيوض وتجليّات ربانيّة أتت على لسان الأولياء»، وهو يؤديها كما تناقلها المنشدون وأرباب الطرق الصوفيّة و سالكوها عن أسيادهم: «البدوي، والرفاعي، والشاذلي، والجيلاني، و أبو العزايم».
وتأكيداً على فكرة الفتوح الربانيّة والفيوض لا يقوم الشيخ في مطلق الأحوال بالتحضير لبرنامج الليلة التي يحييها «بسيبها على الله».
فرقة الشيخ احمد التوني المؤلفة بشكلٍ أساسي من أربعة أشخاص ينظرون إلى شيخهم على أنه الفنّان والمعلم والمعجزة، فهو من وجهة نظرهم ليس له مثيلٌ في مصر والبلاد العربية بأسرها، ويتعاملون مع صوته على أنه سحرٌ، فمصطفى عبد الرحمن يعزف في فرقته على الناي منذ ستة عشر عاماً، ويؤكد لنا أن صوته كل يوم يتغير إلى الأفضل ويصبح أكثر سحراً من اليوم الذي سبقه ويصف هذا الصوت بقوله «صوت الشيخ التوني فيه رنينٌ يجذب المستمع، بل أعتقد أن الناس يستمعون إليه بقلوبهم قبل عقولهم. لدى شيخنا قدرةً فائقة على أداء المقامات الموسيقية إلى درجةٍ محيّرة».
تضم الفرقة أيضاً حسن محمد علي عازف الكمان والعود في آنٍ معاً، وولدي الشيخ التوني محمد عازف الرق، ومحمود منشد.
علمنا من الفرقة أن محمود بعمر 32 عاماً هو المُرشّح للإنشاد بعد الشيخ باعتباره تتلمذ جيداً على يديه ويمتلك صوتاً جميلاً، سألنا محمود عن تعلقه بأداء الأناشيد التراثية، ونظرته لهذه الموسيقى باعتباره ينتمي إلى جيل الشباب وهل يفكر في دراستها أكاديمياً، فأجابنا برأي واثق أن الدراسة الأكاديمية في غاية الأهمية بالنسبة للمطربين لكنها تقلل من إمكانيات المنشد لأن ابداعه في الأداء يعتمد بصورة أساسية على الارتجال، وهو يرى بأن العصر القديم الذي نشأ فيه والده أجمل بكثير من هذا العصر: «هو عصر أم كلثوم وأسمهان، وفريد، ومحمد عبد الوهاب، والأغاني القديمة هي الطرب الأصيل الذي ليس له وجودٌ في الوقت الحالي. إن والدي الشيخ أحمد يُعتبر فيما يقدّمه مجدداً ومعاصراً لأن الساحة الموسيقية اليوم فارغة أصلاً، فلا يمكن اعتبار الموجة الهابطة السائدة اليوم في عالم الغناء اليوم طرباً أو موسيقى»، وضرب لنا مثلاً بكون الدول الأوربية تقوم أحياناً باستعادة تيارات الموضة القديمة كما هي و يبرر ذلك بقوله: «لأنها الأصلح لهذه المرحلة»، وعن سرّ نجاح الشيخ التوني عالمياً قال محمود: «الشيخ أحمد نجح في التجربة العالمية لأنه تلقائي والأوربيون يميلون إلى الطبيعة ويقدرون الطريقة الفطرية في الحياة».
وأخيراً كان لنا لقاءٌ مع الفرنسي جون نيرفي فيدال -متعهد حفلات الشيخ التوني- منذ أواخر التسعينات، وتعرفنا منه كيف التقى به وأخذ بيده إلى العالمية، «أنا أعمل في شركة فرنسية باسم "زمان"، تهتم بالبحث عن فنّانين من كل أنحاء العالم خاصة أفريقيا والشرق الأقصى، وهدفنا تعريف الغرب بالموسيقى العالمية، وضمن هذا الإطار التقيت بالشيخ التوني أواخر التسعينيات في أحد الموالد بأقاصي الصعيد، واتقفنا على العمل معاً لتبدأ سلسلة حفلاته الناجحة في أهم مسارح فرنسا، وأوربا، والأمريكيتن، وسجلنا حفلاته على اسطوانات تباع بأسعار عالية نسبياً لكنها تلقى رواجاً جيداً، واعتقد أن شهرة الشيخ التوني والمكانة التي يتمتع بها جعلت تعاوننا مثمراً»، تلك كانت قصة ليلة «ساقي الأرواح» في دمشق، سردناها لكم بالكامل من قصر العظم. ومازالت ليالي الموسيقى الروحية مستمرة.
|