طفل المدينة لعلي سفر...يعيد إنتاج الألم والذكريات في ولادة مختلفة

27 كانون الأول 2012

بعيداً عن الدهاليز التي رسمها في قصائده الأولى يختصر الشاعر السوري علي سفر (1969) في مجموعته الجديدة (طفل المدينة) الصادرة عن دار الأزمنة- عمان2012، كثيراً من اشتغاله الحذر على بلاغة الجملة الشعرية ومجازها اللغوي وتفاصيلها التي رافقته طوال خمسة عشر عاماً من الكتابة الشعرية

اليوم مع مجموعته الخامسة هذه يمكن للقارئ الذي اطلع على تجربة سفر الشعرية أن يجد مفاتيح مختلفة للقصيدة بعيداً عن ثقلها المعقد بالتشابيه والتفاسير القاموسية، فالقصيدة في (طفل المدينة) هربت من زوايا الميتافيزيقية إلى الشوارع العامة الواضحة، إلى الحياة بضجيجها وهموهاً وصخبها، جربت أن تلبس ثياب العمل وأن تحتك مع البشر والأشياء من خلال ألوانها المختلفة التي علق الشاعر إهداءه المرير على صدرها كأنه يرثي الشيخوخة القديمة التي لحقت بأحلامه، «إلى البدايات» يقول سفر: (وغداً قبل أن نرسل الزفرات، سنعرف أن غصة منسية قد قتلت حصان أيامنا!!)

حوّل صاحب (بلاغة المكان- 1994) نحت الجملة الشعرية هنا إلى نحت بصري أكثر طلاقة ومرونة ودهشة، العبارات تختزل فخ الثرثرة وتقدم حرارتها بأزمنة مختلفة دون أن تشعر أنها تتعلق بحدث معين، إنما تنبع من انشغالات إنسانية عميقة، يكونها السرد في ملعبه تحت شرط موسيقي معاصر يتناسب مع ولَه الصورة بالترحال من مكان إلى آخر: (نهمس الأشياء بالتراضي/ ثم نرتجل الحكاية/ على نمط العربات/ التي نسقطها من آفاقها/ ونرسم حواف مكانها الأخير..) إنه في سرد ألعوبته، يصور البدايات مجدداً، ويعتذر من الرحيل، كأنه يعيد ترتيب الريح في صمت ظله الذي هو على هيئة حقيقة واحدة: (وقد أفقد جسدي في محطةٍ/ يعبرها الذين يلبسون الثياب العتيقة/ فيمتطيه أولهم ولأصحبه/ عابراً بدوري إلى نزهة الفوضى والخراب).. هنا يولد سفر من جديد ويرمي كل ما قاله للريح. إنه يقارب قتل مخلفاته الماضية ويعلن انتماءه للقصيدة بدماء طفل سقط من الشعر للتو، لا يعرف سوى لغة الضوء التي تفكك قلبه وأحلامه إلى كلمات: (ربما سأنقض عهدي/ لأصبح الخائن الذي مضى في أوله، /وهو يحصي الخسارات والأرباح/ من عهود سحيقة وبائدة/ أقرأ اللوحة وهي تومض/ إلى حيث ما اعتقدت الاتجاه).

في مكان آخر يعود الشاعر إلى ديوانه (اصطياد الجملة الضالة-2004) ليلتقط عنوان إحدى قصائده (أغنية لأطفال موتى) ثم ليعيد إنتاجها في (طفل المدينة) بعنوان (أغنية أخرى لأطفال قتلى) في الأولى شراسة الرفض واقتفاء إثر الغضب (رأيتهم/ ورأيت أقدامهم/ استدارة سعيدة وتراباً يحتمل سيرة الغائبين/.. /قد نتبع الخطا فنصل ما خبأناه في الأغنيات من كبوات وآبار/ كدنا نقع فيها) أما في الثانية، الجديدة، فنرى القصيدة تطول أكثر بسبب تراكم الموت على وجوه الأطفال، يرثي الشاعر ألق الموت ويحتفل بخلاص الطفولة من هذه الحياة، من إقحام الطفولة بأغاني الأصنام والرموز القاتلة: (لن يعودوا/ إلى سيرة الاحتجاج أو الغناء/ على قارعة التماثيل فهنا صمت جليل/ يناسب الخرائب في التلال) في كلتا الحالتين نراه يعيد إنتاج الألم والذكريات، فتواريخ كتابة هاتين القصيدتين متقاربة إلى حد ما، لكن، الثانية ظهرت في الوقت الراهن، في زمن الموت الواسع.

في القصيدة التي حملت عنوان المجموعة (طفل المدينة) نشاهد سفر قد هيأ القارئ في مقدمة الكتاب بنص قصير عن ذكرياته في اللحظة الأولى لمغادرته منزل أهله ليدخل المدرسة برفقة أبيه منذ ثلاثين عاماً، هذه الحادثة التي غيّرت مجرى حياته تماماً، أعادته اليوم طفلاً مع اختلاف طفيف في الأدوار، إذ أصبح أباً يشاهد صورته في وجه طفلته التي تمرّن ذاكرته على الحياة وتطلقها لتنمو في الشوارع مع الأطفال: (الطفلة تُسقطُ من شرفتها/ ذاكرة أبيها/ فيلتقطها الصبية/ لتنمو معهم../ محض ذكرى/ توق أحلامهم/ وعاداتهم السرية والقلق..) مرارات الشاعر لا تتوقف في هذه الصور المتلاحقة التي تطارد أوجاعه وتشكل خليطاً للأمكنة والذاكرة، يستحضر الذين مروا في حياته ويبتسم لهم، يتذكر جحافلهم المتفجرة التي تنز إثر جرح في المخيلة، ويخاطب المدينة فيهم كأنه صوتها في القصيدة، وحارس الأمل الذي يبحث عن الطعنة الأولى كي يكويها: (سجلت مشاهدهم لقطة لقطة/ ولم أعثر على الطعنة الأولى..!) أيتها المدينة التي تقف على مفترق الزحام الروحي بالبشر والكحول والأحلام، لم يعد الشاعر يراك هنا سوى أصوات مبحوحة وزقاق حزينة: (أنهض من الماضي لأجد بيتك في حكايةٍ مرسومةٍ/ بلا نهايةٍ واضحةٍ/ بعد أن شق صفحاتها طفلي الصغير).

لا يتوقف صاحب (صمت- 1999) عند الذاكرة وينصاع لآثارها، بل يجمع الأحلام التي أفسدها الموت ويضعها على ماكينة النسيان كأنه خياط الوجع: (ربما أستطيع قياس المسافة بين العقل والقلب/ ولكنني أعجز عن معرفة ما يكفيني من مسافةٍ/ لإغلاق حصتي من الموت!!). بعد أن ينجز بعض مهام الأمل الخاصة، تجده يخرج عن هذا الصراخ كله باحثاً عن أرض جديدة ليقيم عليها مركبته الفضائية من أصوات وأحلام واستمرارٍ مجنون للمضي إلى آخر الأشياء، رغم كل ما استجد من فزعه وقلة طمأنينته ينادي: (خذيني يا بوابة النجوم/ على حواف من وهج العقول/ لا الأرض بيتي/ ولا الشمس سراجي/ دعيني في عتمة العيون/ أدرب حيث تأتي الحكايات/ وتحلم/ ببلاد معرشةٍ/ وراء الظلام).ش


صحيفة الوطن

الوطن

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق