إعادة بناء البيئة الحضارية في العصر الحجري القديم الأوسط في كهف الدوارة في تدمر بسورية الوسطى

10 07


وادي القبور في تدمر

تهتم هذه الدراسة الحالية بإعادة بناء الشروط البيئية للحوضة التدمرية خلال فترة البليستوسين الأعلى. إن المصادر الرئيسية التي اعتمد عليها هذا البحث هي التنقيبات التي جرت في الأعوام 1970، 1974، 1984، وذلك في موقع كهف الدوارة العائد إلى العصر الحجري القديم الأوسط في الحوضة التدمرية، حوالي 20 كم شمال شرق مدينة تدمر.

في هذه الدراسة لدينا مجموعتان من المواد الأثرية: عظام الحيوانات، وبقايا النباتات المتفحمة التي تم العثور عليها في الطبقات (3 و4) من الترسبات الموستيرية الموجودة في الكهف. إن الهدف الأساسي من هذا البحث هو اختبار المحيط البيئي للحيوانات القديمة وأصناف النباتات في منطقة تجمع الأمطار الموجودة عند كهف الدوارة.

وفي الخاتمة، أود أن أبرهن على نقطتين هامتين: الأولى، هي بيئة عصر البليستوسين الأعلى في الحوضة التدمرية، وخصوصاً الدورة المناخية التي تشبه الدورة المناخية الحالية والتي تتصف بصيف طويل وجاف وشتاء قصير وممطر. الثانية، هي منطقة الجبال في الحوضة التدمرية التي كانت مغطاة بالنباتات والغابات بشكل أكثر من أيامنا الحالية. هذا النوع من الوضع البيئي قد أعطى قدرة أكبر للمياه الجوفية خلال الأيام الطويلة والجافة في فصل الصيف. وبهذا فإن السبخات التدمرية تكون، وبشكل دائم، مليئة بالمياه حتى الشتاء القادم.

الوضع الراهن للحوضة التدمرية:
إن الوضع المناخي الراهن لمنطقة تدمر يتصف بدورتين موسميتين. فصل الشتاء البارد مع درجات حرارة تهبط الى 7 ْ ـ 8 ْ، وفي بعض الأحيان تهبط درجات الحرارة إلى ما دون درجة التجمد في المساء. بينما فصل الصيف هو فصل حار وجاف، وترتفع درجة الحرارة إلى 30 ْ، وفي النهار ترتفع إلى أكثر من 40 ْ وذلك في منتصف الصيف. ويبلغ معدل الأمطار بين شهري كانون الأول وآذار حوالي 125 مم، ويترافق ذلك أحياناً بسقوط الثلوج (Abdulsalam, 1996).

إن أكثر الأشياء المؤثرة هي منطقة الجبال الموجودة حول كهف الدوارة ذات الطبيعة الصخرية الواضحة والتي لا يوجد فيها منطقة رمال، أشجار ونباتات. إن الحوضة التدمرية هي منطقة واسعة خالية من الشجر، ذات أماكن مفتوحة من سفوح الجبال، وهي مزروعة بالنباتات بشكل متفرق، ونجدها قُطعت بسلسلة من الوديان. إن النباتات الجديدة في الحوضة التدمرية ضئيلة ومليئة بكتل من الأعشاب، مثل رجل الأوز ونباتات من الفصيلة المركبة. إن نوعاً من الشجيرات الصغيرة، والتي تدعى نبات الأفسنتين، هو من أكثر أنواع النباتات انتشاراً في الحوضة التدمرية. أما نوع الحيوانات الجديدة في الحوضة التدمرية فليست بالضرورة كلها من القوارض. من الحيوانات التي توجد في الحوضة التدمرية نجد الغزال، الجمل، والماعز، ونستطيع أن نرى الغزال، إلى الآن، في منطقة الجبال في الحوضة التدمرية وذلك في المناطق الشمالية في سورية، ولكن بالإضافة إلى ذلك نجد الضبع، الفرس العربية والوشق. يوجد في الكهف دليل هام على ذلك ولكن على شكل أعداد كبيرة من بقايا النباتات المتفحمة.

كهف الدوارة:
يقع كهف الدوارة حوالي 200 كم شمال شرق دمشق، و20 كم شمال شرق تدمر في الصحراء السورية الشمالية. يقع الكهف في منتصف الطريق على جرف كلسي في الجهة الجنوبية الشرقية بجانب الصحراء، وعلى ارتفاع 550 متراً فوق سطح البحر. يبلغ عرض مدخل الكهف حوالي 10 أمتار وعمقه 14 متراً وارتفاع سطحه 12 متراً من مركز المدخل. إلى الشمال نجد الجزء الباليوجيني الكلسي والرئيسي من جبل الدوارة يرتفع إلى حوالي 700 متر فوق سطح البحر. أما إلى الجنوب نجد سفح الجبل يتجه إلى سبخة موح الملحية والتي تشكل المركز الأرضي للحوضة التدمرية.

إن الحوضة التدمرية هي عبارة عن انخفاض بيضوي (إهليلجي) محاط بسلسلة من الجبال التدمرية. يقع مركز الحوضة في سبخة الموح في منخفض مساحته التقريبية 300 كم2 ومحيطه 380 متر. وتقع أكثر نقطة انخفاضاً فيه في حدود أقل من 370 متراً فوق سطح البحر، وتعتبر السبخة دليلاً على وجود بحيرة تدمر القديمة. في شمال الكهف، يقع حوض صغير أحديدابي يطلق عليه (حوضة الدوارة)، يحيط به جبل الدوارة الذي يشكل الحدود الجنوبية للحوضة التدمرية. يقع هذا الحوض الصغير حوالي 500 متر ـ 700 متر فوق سطح البحر، ويغطي مساحة تقدر تقريباً بـ 8 كم شمال غرب و5 كم شمال جنوب. إن كهف الدوارة هو كهف طبيعي تشكّل عن طريق تآكل الجرف الكلسي الذي يشكل المنحدرات الجنوبية من حوضة الدوارة. تحتوي الحوضة على أدوات حجرية تغطي فترة تمتد من العصر الآشولي الأخير حتى عصر النيوليت ما قبل الفخار (PPN). في الشمال يقع جبل أبو رجمين، وهو يعتبر أعلى منطقة جبال في الصحراء السورية، ويبلغ ارتفاعه أكثر من 1000 متر فوق سطح البحر.

التأريخ:
إن عملية تأريخ الطبقات المختلفة العائدة للعصر الحجري القديم الأوسط في كهف الدوارة قد تمت بإتباع طريقة الفحم المشع وذلك لتوضيح العلاقة بين المستويات (الثالث والرابع). وأيضاً بين المستويات الفرعية. وإن معظم التواريخ التي تحددت هي الحد الأدنى لعمر طبقات كهف الدوارة. بالإضافة إلى ذلك، فإن التواريخ التي تم الحصول عليها من مصادر مختلفة كانت تقريباً متشابهة، وذلك دون فارق زمني ملحوظ. لقد لجأنا إلى وسائل عدة واستخدمنا عينات مختلفة جمعت من المستويات (IIIB, IVB).

الأشكال الافتراضية للبيئة في العصر الحجري القديم الأوسط في الحوضة التدمرية:

يوجد لدينا رأيان افتراضيان قد تم إثباتهما: الأول هو (ساكاغوتشي)، وهو الرأي الجيومورفولوجي، والثاني هو رأي (باين) وهو الرأي المستند إلى دراسة الحيوانات القديمة.

الدراسة الجيومورفولوجية (ساكاغوتشي):

تم إجراء دراسة جيومورفولوجية أولية على الحوضة التدمرية. وقد زودتنا هذه الدراسة بهيكل أولي نستطيع الاعتماد عليه في إعادة بناء الدلائل الفيزيولوجية والجيومورفولوجية في هذه المنطقة. انطلاقاً من دراسة الترسبات الجيرية والمترافقة مع الترسبات الأرضية، استطاع (ساكاغوتشي) أن يشكل فرضية تقول أن البحيرة التدمرية وجدت في منتصف الحوضة التدمرية وذلك خلال العصر الحجري القديم الأوسط من حياة كهف الدوارة.

بكلمة أخرى، يفترض العالم ساكاغوتشي أن العصر الحجري القديم الأوسط في هذه المنطقة كان دافئاً وممطراً صيفاً وبارداً شتاءاً. إن هذا الوضع هو في تباين قوي وشديد مع الطقس في الوقت الحاضر في هذه المنطقة.
وبالاعتماد على هذا التفسير، فإن هذا الوضع قد نتج عن الاختلاف الموجود في الواجهات القطبية وذلك قياساً بالأمثلة الموسمية في غرب آسيا. إن فرضية ساكاغوتشي قد تحصل على الدعم المطلوب عن طريق نتائج الفحوص الأولية لبقايا النباتات الموجودة في الكهف.

الدراسة النباتية:

إن الفحص الأولي لبقايا النباتات الموجودة في الكهف قد تدعم فرضية ساكاغوتشي. لقد تم تصنيف بقايا النباتات الموجودة في الكهف كأنواع متعددة من النباتات المختلفة. ويدل وجود بقايا هذه النباتات في كهف الدوارة على أن الظروف المناخية في الحوضة التدمرية كانت أجف. إن معظم النباتات التي كانت موجودة هي عبارة عن شجيرات صغيرة، ويمكن إرجاع التشابه بين النباتات إلى تشابه الظروف المناخية في آسيا الوسطى وساحل المتوسط وذلك خلال العصر الحجري القديم الأوسط.

دراسة العظام الحيوانية (باين):

نعود الآن إلى فرضية (باين)، الذي درس جميع المكتشفات من عظام الحيوانات اللبونة والتي جمعت من تنقيبات عام 1974، ولقد سجل ووثق حوالي 29 نوعاً منها. لقد قسم (هاريسون) المنطقة إلى منطقتين جغرافيتين: الأولى في الشمال من آسيا الوسطى، والثانية في المنطقة الجنوبية. بشكل آخر، فإن المواد الموجودة في كهف الدوارة هي أجزاء من حيوانات الصحراء مثل الجمل والغزال. بالاعتماد على هذه الفرضية نجد أن (باين) يحاول إعادة بناء الظروف المناخية في العصر الحجري القديم الأوسط وذلك بناء على المعطيات الموجودة في المجموعات المتوفرة في المناطق المختلفة.

التحليل المركزي لكهف الدوارة:

لقد تم عرض فرضيتين لشرح الظروف المناخية في الحوضة التدمرية خلال العصر الحجري القديم الأوسط في كهف الدوارة:
1ـ لقد ساد جو رطب في هذه المنطقة. هذا النوع يطابق الوجود الطويل المدى للبحيرة التدمرية القديمة، وتوسع الغابات المتوسطية داخل منطقة الأراضي البرية.
2ـ لم تكن الشروط البيئية مختلفة عن شروط الصحراء الواسعة والخالية من الأشجار والتي تنتشر في أيامنا الحالية. اعتمد هذا التضمين البيئي على بقايا الدلائل المتعلقة بحيوانات المنطقة في تلك الفترة والموجودة في الكهف.

الخاتمة:

من الدلائل السابقة، نجد أن كهف الدوارة يقع بين منطقة جبال مليئة بالغابات وبين منطقة مفتوحة بها أعشاب وشجيرات صغيرة. هذا الموقع الاستراتيجي للكهف لم يهدف فقط إلى تأمين مصادر العيش، وإنما هدف إلى تأمين مقلع للمواد الحجرية الخام (الصوان) وذلك في أثناء عملية تصنيع الأدوات الحجرية في المشاغل المجاورة. إن النسبة المنخفضة للبقايا الحيوانية وللأدوات الحجرية تدل على أن سكان العصر الحجري القديم الأوسط قد سكنوا في الكهف بشكل موسمي، وعموماً في الفترة الواقعة بين فصلي الصيف والخريف، وهو موسم نضوج الثمار البرية. إن هذا النوع له دلالة وأهمية لأنه يشير إلى وجود إستراتيجية محددة للصيد والالتقاط لدى السكان الموستيريين.


تاكيرو أكازاوا

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

ناصر محمد سليمان سعد السلطني :

أريد تزويدي بمواقع العصر الحجري القديم الأوسط في مناطق سوريا

الجماهيريه الليبيه

الجماهيريه الليبيه

nassima:

ممكن العواقب السلبية التي تنجز عن قلع الحجارة ورمال الاودية والشواطىء من تركيب المنظر الطبيعي

algérie

:

جميل جدا