فضاء وليد الآغا

الفنان السوري وليد الآغا
سر الحرف والدلالات

فضاء وليد الآغا

يتعامل الفنان وليد الآغا مع الحرف العربي من مدلول فلسفي، صوفي، مع التركيز على البعد التشكيلي والجمالي له أيضاً. والذي يشاهد معرضه الأخير في صالة السيد يرى ما لتلك الخاصية من دور في صياغة الأسلوب الخاص للفنان وفرادته الراقية. هنالك كتابات وأجزاء من كلمات غائرة في مسطحات لوحاته، وهي تظهر منثورة على بقايا الجدران والكتل بألوانها الزرق أو الداكنة، وتعطي إيحاء بالقدم، يتناغم مع رؤية الفنان في العمل على الموروث. ولتعامل وليد الآغا مع الحرف العربي تاريخ طويل، ابتدأ ربما منذ الطفولة، وقد دأب بعد ذلك على تجويد ذلك الاهتمام ورفده بالبحث والتنقيب، فكان أن درس الفن في جامعة دمشق، قسم التصميم الزخرفي نهاية السبعينات، حيث تعامل مع المخطوطات والمنمنمات كتوثيق وتشكيل، أمدته بخزين مادة بكر اشتغل منها خمسة معارض، أقامها بين دمشق وألمانيا ودول الخليج.

ولاحظ خلال ذلك أن المنمنمات تندغم مع النص المكتوب أكثر من التشكيل، أي امتزاج النص والكتابة، ضمن إطار خاص هو الزمن. وهذه الفكرة هي التي قادته إلى دراسة زمن الحرف وتاريخه وأشكاله الأولى، من ناحية تشكيلية ومن ناحية سره الكامن فيه وحوامله الروحية ورموزه الدلالية. فكان أن قرأ لعدد من الفلاسفة والكتاب الذين اهتموا بهذا الباب، وأشهرهم ابن عربي، وأبو حيان التوحيدي. وشيئاً فشيئاً راح الحرف يبتعد لديه عن دلالاته المباشرة، الأدبية، المقروءة، ليصبح مفردة تشكيلية. ثم دخل الفنان وليد الآغا تفاصيل الحضارات القديمة وأبجدياتها فغار في أنماط الكتابة القديمة ليصل إلى البدايات، عند اللغة المسمارية التي ابتدعها السومريون، وتوارثتها الأجيال مطبوعة على الجدران والأختام والتماثيل.

ومعرضه الأخير قائم على أساسين لاتخطئهما العين المتأملة، الأول الحرف العربي بدلالاته التشكيلية والصوفية ومضمونه الفلسفي والسر المتخفي في تلك الرموز المدعوة حروفاً، والثاني تاريخ المنطقة. أي الهوية الحضارية التي تنحدر من الفراعنة والسومريين والبابليين والكنعانيين والفينيقيين امتداداً إلى الحضارة العربية الإسلامية التي امتصت كل موروث قبلها. إن الحفاظ على المعنى الأدبي للحرف قد يأتي على حساب اللوحة والناحية الفنية للتشكيل، إذ ينصرف التركيز على المعنى لا على باقي عناصر العمل. لذلك تندر الكلمات ذات المعنى عند الفنان. هنالك كتابات وأجزاء من كلمات غائرة نحو الأسفل، تظهر فوق بقايا الجدران، أو ما يمكن تسميته آثاراً لكتابة. والكتابة تشبه الأوغاريتية، أو المسمارية، إن لم تكن عربية. ونلفي أيضاً شكل ألواح قديمة وتشكيلات لأحرف ونقاط وأقواس. النقطة لدى الآغا، هي المطلق، فالحرف يبدأ بالنقطة وهي ميزان للحرف، كما أنها أساس الكون لدى الصوفية. ودائماً ما تأتي الإضاءة من النقطة والحرف والقوس، لما لهم من كثافة روحية. وحتى الحروف المسمارية لها إضاءة خاصة، ودلالات على التفاؤل والانتشاء وتوهج المعرفة.

إضاءة اللوحات توحي بتوغل العين في التاريخ، فيجبهها لون الطين المائل للبياض، والسماوات البنية أو الرمادية، والأعمدة والأقواس المكتشفة حديثاً من تحت ركام التراب. ورغم أن الإنسان القديم، مرادف اللقي والألواح والأختام، لا يبرز واضحاً في اللوحات، لكنه يُقرأ من خلال الآثار والمخلفات التي تركتها يداه أو عقله. وأشد ما يبرز ذلك في عبقري الأبجديات التي ابتكرها، فهي تزين باباً أو تكتب جملة درءاً للحسد، أو تلون شباكاً أو تراقب ساحلاً. وكثيراً ما استخدم الآغا المثلثات والنقاط والحروف، مسمارية أو أوغاريتية أو عربية، لتشكيل تلك الملامح، وكأنه يفترض بذلك الوجه ملمحاً للحضارة. أما القوس فهو قوس النور والفضاء والكون غير المكتمل، مع دلالات نورانية تكشف وجود اللغة، في ألوان كامدة بين الأحمر الفاتح أو البني أو الأصفر المحمر أو الأزرق، المستوحى من السماء والبحر. وهو اللون الأزلي في تكوين الحضارات، وأكد حضوره الأكبر في الفن الإسلامي، حيث نراه في المآذن والقباب والبلاط والفخار والأواني.

ولربط الحياة المعاصرة بالتاريخ، يرسم الفنان بيوتاً فلاحية، بسيطة، بلون أصفر، لون الطين المحروق بالشمس المشرقية، وخلفية من سماء رمادية، أو زرقاء مغبرة.

إنه يستخدم أدوات بسيطة هي الأخرى، في إشاعة الخطوط المتعرجة أو الساذجة، في سطح اللوحة، كالمشط وكعب الفرشاة، إضافة إلى السكين. وتتعانق الكتل مع الأحرف مع الأشكال، أسماك وأزهار وطيور، بحيث تتكون اللوحة من عدة مستويات، لونية أحياناً أخرى، تهيؤ مجالاً واسعاً للسرد، وقراءة الرموز. ربما لا يتم الفنان لوحته دفعة واحدة، موضوعاً ولوناً، لذلك تتراكب الرموز وتتجاوز وتضاف الواحدة للأخرى، حتى تصير اللوحة منجماً، لا يمكن معرفة ما يحتويه من معادن وطبقات إلا بتأمل وتنقيب وغربة. فالعين ترى الخط العربي، الرقعي، والرسوم الموحية بالرموز الفرعونية، مع الألوان الغامقة، الأخضر المنور المائل للبني، والكتابات المسمارية والأوغاريتية. تدوم، تلف على محور اللغة السليل، اللغة العربية، كما تراءت لمحي الدين بن عربي وهو يستشرف الكون من انطلاقة الألف أو استدارة النون وعكفة الهاء.

الألوان القديمة: بني، أصفر، أزرق عميق، معبأة بالعرفان للأزلي والمطلق. صافية تتوهج بالضوء المنبعث من القوس الأكبر الذي لا يخضع للإطار غير المرئي لأنه أصل النور، والبقعة التي توزع الألوان. السنبلة تجاور الهاء، والسمكة تسبح على مياه من المسماريات زرقاء حد الدكنة، والألوان بحر تسبح فيه العين غوصاً نحو الحضارات البائدة، لتصل الأحاسيس إلى الختم، وقد جلبه الفنان من الركام، أو المتاحف، بكل ما يعبر عنه من حكايات وأساطير وتوهج سلطة.

كل لوحةٍ ختم يمهر به الفنان رؤيته لليوم والأمس والمستقبل. فروحه مثل الختم، زاخرة بالرموز والخيالات والأطياف المتولدة في هذه البقعة من الجغرافية. لقد زاوج الآغا بين الختم والحرف، أقام حواراً بين الحرف المسماري والعربي، وزاوج بين الأبجديات التي صاغت هذا الإنسان. لا ريب أن الأختام والألواح واللقي موجودة في المنطقة، متخفية في الأرض، لكنها لم تُقرأ قراءة بصرية، كما لم تعصرن لكي تدخل ضمن قيمة استعمالية في الحياة اليومية لبني البشر، حيث تقيم تواصلاً حقيقياً بين الآن والماضي.

والعلاقة بين الحرف والأبجدية والفكر الصوفي بسر الحرف العربي أو غيره علاقة صحيحة، وولادة طبيعية، وتأصيل للفرع الباحث عن جذور. والآغا يتعامل مع البعد البصري للحروف، يأخذ منها جماليتها التشكيلية أكثر مما تعنيه أدبياً، لذا ينتفي عنده البعد الديني لرؤية الكلمة أو الأبجديات عموماً. كل ذلك يجعل من اللوحة غابة من الرموز، كل رمز علامة استفهام، فالقوس رمز والنقطة رمز والنون رمز هو الآخر. مثلما السمكة والجدار المائل والزهرة المكونة من حرف الهاء والنافذة التي تتفتح على ساحل بحر. ويفضل وليد الآغا استخدام الأكريليك مع قليل من الزيت والباستيل والتيمبرا. أما التماعات المشاهد في اللوحات فبتأثير الورنيش، فهو يقوم بتلميع أخير للوحة، بحيث يستطيع التحكم بشفافيتها الداخلية.


شاكر الأنباري