فضاء نزار صابور

العبور من مواجيد اللوحة إلى نافذة الأيقونة

فضاء نزار صابور

يوسم صابور أعماله الأخيرة بعنوان: «بوابات الروح»، وهي صفة لصيقة بروح تجربته، تقودنا من نافذة الأيقونة المؤسلبة لتطل على رحاب حريات اللوحة المعاصرة.

نجده يدعو المشاهد مع ألوان كل معرض إلى السياحة في غبطات ذاكرة التوأمين: اللوحة والأيقونة؛ دعونا ننصت إلى مقاماته الرهيفة بالعين، أقول:

ترفع مدارج الأزرق النيلي عقيرتها بالغناء، مترنحة بين «جواب» التركواز و«قرار» اللازوردي، مروراً بمراكب النيلة والكوبالت، وما إن يغرق المشاهد في هذا الأوقيانوس المحتقن حتى لا يأمل منه مخرجاً ولا يحدوه أدنى أمل بالنجاة، شأنه شأن «الغرق» في مواجيد الأصفر المتماوجة بين الذهبي والأهرة، مع الهندي والعسلي وغيرهم، يصبغ سلمها تحولات من أشكال الأهلة المقوسة أو المكورة المتناسخة عن الأكاليل النورانية التي تطوق رؤوس القديسين في تصاوير الأيقونات المحلية، يعيد صابور تشييد نفس العالم الفلكي، حيث تتحد في نسبيته الجواهر والأجرام، الكواكب والذرات.


من أعمال التشكيلي نزار صابور

تترصّع في مشكاة قبته جواهر ودرر قزحية كريمة، مستحضرة حرائق الشمس في الخارج، وهي تنسل عبر نجميات الزجاج المعشق إلى بواطن المعبد؛ تتراشح عمارة اللوحة لدى فناننا بنفس التبادل الرمزي بين «الخارج والداخل»، وهو ما يجري سرياً في المحراب، والمذبح، والمجسمات المدفنية التدمرية والنبطية، وقد يلامس في توليفاته بعض أنماط الصناعة التي تسكن خزائن اللاشعور الجمعي، على غرار الخزائن الخشبية ذات التيجان المصدفة، والمرايا ذات المصراعين، والتصوير على الخشب (العجمي) مستعيراً طريقة تحزيزه بالزخارف النباتية قبل دبغها بالصباغة المائية، وقد تصل فرشاة لا وعيه حتى أشباح «ديكورات وكواليس» مسرح الظل أو عمارة «ظل الخيال»، أو صندوق العجائب.

يأخذ الإطار الخشبي دور الوسيط (البرزخ الرمزي) في ثنائية الداخل والخارج، يمثل هامشاً للمساحة الباطنة، وغالباً ما يقودنا إلى هامش آخر، يتصل بإطار آخر، بحيث تتضاعف مدرجات الهوامش ابتداءً من الفراغ الداخلي، فتنقلنا بصورة تنزيهية من الحيز المادي إلى المطلق، تماماً كما هي إطارات الرؤوس المدفنية في تدمر، وكما هي هوامش المنمنمة العربية (التي تشرد إليها الرسوم الداخلية من عناصر وحليات)، تستعير لوحة صابور في هذا المقام دور «المعبر الرمزي»، فتنقلب مع الإطار إلى مجسم معبدي أو إلى ثلاثية أيقونية ذات مصراعين ومزاليج، وقد تحمل عتبة أحد أطرافه عناصر طقوسية، على مثال أنواع الشمعدانات والمباخر، وقد تستقل بعض منها لتربض على الأرض وعلى كثب من اللوحة، فتنتمي إليها بحكم عادة الوحدة الطقوسية؛ وهكذا يتحقق التوازن بين كفتي الخارج والداخل.

لا تقتصر هندسة التعبير على الهيكل الإنشائي العام، بل تطال أيضاً طريقة رسم العناصر الإيقاعية في الداخل إلى درجة الأسلبة، على غرار «موتيف» القديس وهلاله، والقلب الرمزي الذي يوشم صدره، ثم نعثر على الأبجديات الهندسية الأولى: الدائرة ـ المثلث ـ المربع، وعلى بعض الزخارف النباتية، ولكنها هندسية غير حاسمة، يعاني قرارها من التردد بسبب السيولة الغريزية في الصباغة وإطلاق مصادفات تفاعلاتها، ثم تعددية أنسجة الملصقات الخشبية وغيرها، نعثر في هذا الخليط المتناقض على تنازع حيوي يقع بين «ديكارتية» الهندسة البنائية، و«دادائية» الملصقات والتضاريس الأثرية العبثية. تخرج هيئة الشكل بالنتيجة من دلالته لتنقلب إلى مقترحات تجريدية نغمية-إيقاعية.

إذا ما عدنا من قصة عمارة «الخارج» إلى لوحة «الداخل» وجدناها محتشدة بحياكة فراغية، مقسمة إلى مفردات إشاراتية مكورة تختزل كل واحدة منها «موتيف» القديس وهلاله بطريقة غير تماثلية، تنتظم حركتها بشكل جبهوي إلى الأعلى والأسفل كما هي الألواح النحتية السورية القديمة، يتحول المشهد الديني بعد تجريده إلى تقاسيم من الكورال، تجري خامات الخشب وكتله مع مسطحات اللون حواراً يتقابل فيه النحت بالرسم. ثم تغمس مادة الداخل والخارج بنفس المقام اللوني (كالأزرق أو الذهبي) العام، وتعلق شظايا بقية الألوان في بطن الفراغ.

لا تستعيد لوحة صابور عصر النساك والزهاد والقديسين والحواريين بقدر ما تستجيب إلى صبوة الإنسان المعاصر في النكوص إلى رحم شفائي حميم، ومحاول الخروج من قمقم القحط الروحي و الميتافيزيقي والسحري، والسعي إلى التحرر من ربقة القهر المادي والإعلامي اليومي.

تبدو لوحته أشبه بحجرة علوية زاهدة، أو خلوة اعتكاف تصوفية، مطهرة من آثام العالم الاستهلاكي؛ كلما ازداد المشاهد توحداً، كلما انطوى على خصائص عالمه الذاتي، هذا هو شأن كينونة اللوحة واختلافها عن قانون التوارث والتماثل في تقاليد الأيقونة، لا توجد لوحة تماثل الأخرى، كل واحدة تعبر عن لحظة وجودية لا تقبل التكرار أو المراجعة، تتناقض لوحة صابور بالنتيجة في صيرورتها المستديمة مع ماهية الأيقونة، بما تحافظ عليه الأخيرة من وحدة اللبوس التقني والمضموني الديني، حافظة أمانته التوارث من جيل إلى جيل.

ولكن توليفاته كفيلة بصهر هذه الحساسية التقليدية، ففي لوحته تتلاقح تجربة «العبث» «الدادائية» (الملصقات الهشة التماسك) مع «الغبطة» الروحية (تضمين الأدوات الطقوسية الكنسية في العمل الفني)، وهو ما يكشف بحثه عن أشد الطبقات الجيولوجية غوراً في الذاكرة الروحية، قبل أن يصنع منها شهادة للزمان والمكان، يفضح هذا التأليف المركب في الفكر والأداء شدة الارتحال إلى عقيدة اللوحة، وطقوس اللون، وترياق الخط.

أو بالأحرى الاستسلام المطلق إلى غبطة التصوير.

26/2/2000


أسعد عرابي