الصفحة الرئيسية | شروط الاستخدام | من نحن | اتصل بنا
|
يوسم صابور أعماله الأخيرة بعنوان: «بوابات الروح»، وهي صفة لصيقة بروح تجربته، تقودنا من نافذة الأيقونة المؤسلبة لتطل على رحاب حريات اللوحة المعاصرة.
نجده يدعو المشاهد مع ألوان كل معرض إلى السياحة في غبطات ذاكرة التوأمين: اللوحة والأيقونة؛ دعونا ننصت إلى مقاماته الرهيفة بالعين، أقول:
ترفع مدارج الأزرق النيلي عقيرتها بالغناء، مترنحة بين «جواب» التركواز و«قرار» اللازوردي، مروراً بمراكب النيلة والكوبالت، وما إن يغرق المشاهد في هذا الأوقيانوس المحتقن حتى لا يأمل منه مخرجاً ولا يحدوه أدنى أمل بالنجاة، شأنه شأن «الغرق» في مواجيد الأصفر المتماوجة بين الذهبي والأهرة، مع الهندي والعسلي وغيرهم، يصبغ سلمها تحولات من أشكال الأهلة المقوسة أو المكورة المتناسخة عن الأكاليل النورانية التي تطوق رؤوس القديسين في تصاوير الأيقونات المحلية، يعيد صابور تشييد نفس العالم الفلكي، حيث تتحد في نسبيته الجواهر والأجرام، الكواكب والذرات.
مع بداية التسعينات، عاد نزار صابور من موسكو حيث كان يتابع دراساته العليا في فلسفة الفن، وبدأ يتردد اسمه في فضاء الفن التشكيلي السوري. واليوم، وبعد عدد من المعارض التي عرفت الناس بأعماله، تكرس اسمه كواحد من أهم ممثلي الحركة التشكيلية السورية الشابة. هذه الحركة التي تتميز ببحثها الجاد المتنوع عن أشكال جديدة في التعبير تخرج من المصنف والمكرر وتعد بمستقبل إبداعي وضاء.
وقد تميز عمل صابور منذ معرضه الأول في دمشق (1991)، وحتى معرضه الأخير في كنيسة الصليب والذي يقدم غاليري أتاسي حالياً مجموعة منتقاة منه، تميز بالبحث الدؤوب في كثافة ثنائية فرضت نفسها على الإدراك البشري وأنتجت من جدل حديها، من تصارعهما، كبرى التصورات البشرية حول الخلق والخليقة. إنها ثنائية الغموض والكشف، الشك واليقين.
في أي مكان تزور الفنان نزار صابور ستجد أنه يعبر برزخاً ضوئياً ونورانياً، بين أعماله فيما قبل، وأعماله فيما بعد. أو حضوره في الإيقاع الزمني الذي يتعابره، خلال تعبيره عن التصورات والخيالات والأحلام، وحتى الكوابيس التي يمر بها، نتيجة صخب العالم واصطراعه، واضطرابه من حوله. وهو يمتص هذه المؤثرات عبر الرؤيا التشكيلية التي يتجاسدها، ويتجمهر ويتمركز فيها. حين يكون عليه العودة دائماً إلى الينابيع، إلى التراث الذي يخامره، والذي يفجر عناصره عبر لوحاته، التي كانت دائماً مثار دهشة ومثار جدل فني وجمالي ونفسي. فيما يتقارؤه ويتكاتبه من هذه التصورات. وفيما يخترع ويبدع من أبجديات تشكيلية تساعده دائماً على مد جسور ما بين مراحل تشكيلية يتغير فها الموضوع الذي يتطارحه، ويتجارحه، ويغامر فيه، وبين أدواته أو لغته الفنية التي يعبر فيها عن هذا الموضوع. وكان طويلاً ما يعتمد الألوان، وأحياناً غلبة اللون الواحد على بعض اللوحات، أو الفضفضة في اشتقاقاتها، وكيماوياتها، حتى يصير في قرابات النور، وفي تعاشقات واعتناقات هذه الألوان التي تتغشى، وتنتشر بعيداً عميقاً في لوحاته، بحيث يعتمد كثيراً على أناقة وصفاء ونصاعة هذه الألوان، وعلى الاحتفاء والاحتفال بالعين التي تبصر وتتباصر هذه الألوان بإيحاءاتها ودلالاتها، وقدرتها على الإفصاح والوضوح.
إنها لوحات فنية طالعة من صبابات الروح وغوايات العالم وحرائق الذات. وكل ما يجعل الإنسان تواقاً إلى حياته وحريته، وإيمانه وبراءته، وقداسة وجوده، وحتى ذهابه إلى العدم. وكأن الفنان التشكيلي نزار صابور يرى بعين صافية في الفجر، كي يحتفي ويحتفل بالرؤيا التي يستبصرها، ويقدمها لنا في لوحات كبيرة، فيها عودة من السماء إلى الأرض أصل البلاء، وكأنه يحسم الصراع القديم في جسده وروحه. ليجتاحه صراع جديد يعبر عنه بقوة وروعة وبداهة، ووعي ولا وعي، للوصول إلى جذوره، وإلى آثاره، وإلى ينابيع روحه الدفينة، في رهان غير مأمون بين الضوء والعتمة، ثم بين النور الذي يرشح في لوحاته قوياً متوهجاً، أو شحيحاً نائساً، كما هو الآن في لوحات التراب والفحم والرماد، دون أن ينطفئ، فإن شعل الحياة مازالت تتلظى وتلتهب، بالأحمر ومشحاته. وهو يرى ويحلم بأن شيئاً ما إيجابياً سيكون، لكن الآن لا شيء سوى شبهات الكابوس غير المتشابه، في لوحات يرسمها وكأنه مغمض العينين. فهو بعد رؤية الخارج كثيراً، وتزين المرئيات واللامرئيات، ينظر إلى دخيلته، ويقدح شرارات مخيلته، كي يكون على بينة من أمره، ومن شؤونه، وشجونه، وأمور فنه، وتعقيدات حضوره وحركته في عالم عنفي لا يرشح منه سوى الدم والحرائق.
هو ذا شاعر جديد يلتحق بالموكب.
شاعر لون ورهافة وأحلام.
شاعر حقيقي، يعيد بناء عالمه بشغف نبي أو عاشق أو ساحر أسطورة، كأن الأرض لديه غير الأرض، والمادة موقعه الأولي في مركز القلب!
هو ذا شاعر جديد يلتحق بالموكب.
شاعر لون ورهافة وأحلام.
شاعر حقيقي، يعيد بناء عالمه بشغف نبي أو عاشق أو ساحر أسطورة، كأن الأرض لديه غير الأرض، والمادة موقعه الأولي في مركز القلب!