فضاء فاتح المدرس

رحيل جسد.. خلود ثقافة

فضاء فاتح المدرس

لن أرثي فاتح المدرس، فرحيل جسده كان القضاء، أما بقاء فنه وثقافته التي كان هو شخصياً مصدر إشعاع ساهمت نتائجها في بناء الحداثة الجديدة، فهو القدر.

ورحلة فاتح المدرس الطويلة القصيرة ابتدأت مع موهبته المبكرة، فالفنان الراحل بجسده عن دنيانا، هي واحدة من الشعلات القليلة في حياتنا الثقافية من فن تشكيلي ورؤية أدبية خلافة وتفكير متألق نحو الأمام، فكلنا الآن يدرك أن لوحات المدرس قد استوحت ألوانها وأشكالها من تربة الأرض تعكس شمساً شرقية وتكتوي بنار الإنسان المتجذر في الأرض السورية التي جمعت في مطبخها ثقافات عديدة تعاقبت على الجغرافيا لتصنع تاريخاً غنياً.

فاتح المدرس هو ابن المرحلة التي اختزلت حيوات الثقافات السالفة بالإضافة إلى الثقافة القائمة، وخط حياته العضوية التي ابتدأت منذ أكثر من سبعين سنة، هو واحد من أعمدة الإبداع الثقافي، ولقد عاصر فاتح فترة الاستعمار الفرنسي والحرب الكونية الثانية، وشهد استقلال سورية، ورافق أحداث الوطن الصغير والوطن الكبير، واشتد عوده في بداية مرحلة استقلال جديدة في سورية تجلت في رغبة البلد ببناء مجتمع جديد بعلاقات عادلة وثقافة متحررة، فكانت أعمال فاتح المدرس التي تابعها باجتهادٍ خلاَّق انعكاساً صادقاً لرغبة المرحلة الجديدة في الحكم في الستينات وحتى يوم رحيله إلى العام الآخر من نهاية القرن.

كان الطموح في أحشاء المجتمع يهدف إلى بناء ثقافة جديدة، متواصلة، متنبئة، ولقد حقق فاتح المدرس بوجوده وإنتاجه جانباً فعالاً ومعبراً عن ذلك الطموح، فرؤيته المستبصرة وشجاعة تفكيره المغامرة، كانت ممثلاً شرعياً لثقافة شعب يتطلع إلى المستقبل.

لم يكن تقليدياً بمعنى تكرار أعمال سابقة، وذلك التحرر من قيود (الأمر الجاهز)، هو التعبير الأصدق عن رغبة الثقافة في أن تحقق ذاتها، أي أن فاتح المدرس كان مدرسة متكاملة من الصدق والطموح تعطي شرعية الحداثة لثقافتنا المعاصرة، لذا كان أمثولة بين الفنانين يتطلعون إليه نموذجاً لنجاح أية حداثة يتطلع إليها المجتمع، وقد أصبح فاتح المدرس أهم علامة في بناء الطموح الثقافي الحداثي.

وتغلب الإبداع الفني التشكيلي عند المدرس على الإبداع العشري والنثري، لكن آراءه الشفوية والمكتوبة أحياناً كانت تعكس شخصية بناءة مرتبطة بالأرض وبالشعب وبالتالي بمسيرة الحلم العام، خلاصة القول أن مسيرة حياة الفنان فاتح المدرس، بكل تفاصيلها العامة والخاصة،كانت تعكس بشكل عادل ثقافة تجاهد في تحقيق الطموح الكلي وتمثل حرية العقل. كان أستاذاً مؤثراً في الذين يلتفون حوله، طلاباً ومعجبين وأنصاراً.. وكان تلميذاً مجتهداً لحركة المغامرة في التاريخ ولتطلع الإنسان الدائب إلى الحرية والتحرر والإبداع.

هل يمكن اعتبار المدرس نموذجاًَ صحيحاً لفنان الثقافة المتقدمة؟ نعم هو ذا ما حققته مسيرة الفنان الراحل، والذي ستبقى آثاره علامة على التجديد وروح المغامر، ولقد كان انسجامه المتمرد على مسيرة المجتمع الذي يطمح إلى الحداثة، دليلاً على قدرة الوطن ومسيرته الطويلة المتحدية لبناء مستقبل يليق بعراقة بلد مجيد.
لذا، لن نقول وداعاً فاتح، بل سنكرر دوماً مرحباً بك في طيات ثقافتنا محركاً وفعالاً ومستمراً.


وليد إخلاصي