فضاء نذير نبعة

نذير نبعة

فضاء نذير نبعة

اهتم نذير نبعة بعمارة الصورة وجعل هذه العمارة راسخة في بنائها كالهرم، واستهوته الأساطير فوجد فيها نبعاً غزيراً أثار أحاسيسه وفجر أبعاداً جديدة في أعماقه تمثلت في لوحة «الطلسم» ثم قصد ضياع الإنسان في لوحة «إسرافيل».

من هو نذير نبعه؟

ولد عام 1938 في المزة من عائلة متواضعة الحال. وعندما نزل دمشق للدراسة، تعرف إلى عدد من معلمي الرسم، منهم ناظم جعفري وصلاح الناشف، كما تردد على استوديو النحات فتحي محمد فترة من الزمن. واستطاع أخيراً أن يتخصص على حساب الدولة في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، التي حصل منها بعد ذلك على دبلوم الكلية بدرجة امتياز، وكان مشروعه عن «عمال الأحجار». حيث عين بعد تخرجه أستاذاً للرسم في دير الزور.

هل تستحق أعمال هذا الفنان كل هذه الضجة؟

قبل إعطاء رأي في ذلك، لابد من فهم هذا العمل الفني بتحليلنا له من جميع الزوايا حتى نستطيع الوصول إلى هذا الغرض.

من الناحية التشكيلية يظهر اهتمام الفنان بعمارة الصورة، وجعل هذه العمارة راسخة في بنائها كالهرم، وهذا الرسوخ يتأتى من ائتلاف العناصر التشكيلية في كل واحد. فتتحد المساحة مع اللون، وينشد الظل مع النور أغنية حزينة تتصاعد أنعامها وسط الضباب. ويقابل الخط المتكسر في عنف خطاً أفقياً مستقيماً يخفف من حدة التكسير.

في لوحة «إسرافيل»، وهو الملاك الذي تحدثنا القصص الدينية بأنه سيحمل البوق في نهاية الدنيا لينذر بقيام الساعة، نرى الصليب ملقى على الأرض إلى جانب حطام حديدي وكومة من الأحجار، في حين يتصدر منتصف اللوحة طفل تحيط به هالة من نور خفيف وقد رفع يديه في خط أفقي مستقيم بحيث أصبح هو أيضًا صليباً آخر، ولكن مرمياً في الفضاء.

يبرز الطفل في وقفته كأنه إشارة مرور تشير إلى السير في جميع الاتجاهات، فوجهة الطريق مفقودة، يؤكد ذلك الدبابة التي تربض في الظل كشبح له ألف عين مريبة النظرات، وأيد بشكل مدافع مصوبة إلى جميع الاتجاهات، يتبع أكثرها اتجاه يدي الطفل كأنما تريد المدافع ـ هي الأخرى ـ التأكيد بفقدان الاتجاه.

إننا لا نرى في هذه اللوحة علاقات خطية، فالخطوط الأفقية المتوازية تشعرنا باللانهاية والضياع، وينطلق الخيال وهو يرسم خطوطاً وهمية خارج اللوحة يكمل بها امتدادات الخطوط محاولاً تحقيق اللقاء فيما بينها، ولكن عبثاً فاللقاء أيضاً خارج اللوحة مستحيل، وأظن أن الفنان قصد هذا ليشعرنا بمعنى ضياع الإنسان في الحرب الشاملة التي تهدد الإنسانية بالمحو الشامل، وبالعبث الذي يحيط بوجودنا، واستبدل علاقة الخطوط بترديد الأشكال في شكل الطفل والصليب، وباتجاه اليدين مع اتجاه مدافع الدبابة.

وما تسمية اللوحة بـ «إسرافيل» إلا استعارة للإيحاء بما تجره الحرب المنتظرة من دمار وفناء يقضي على الحياة. فما اللوحة سوى صرخة متمردة أراد لها أن تتجاوز نفسه نحو الآخرين.

وقد استهوت الأساطير قلب الفنان، فوجد فيها نبعاً غزيراً أثار خياله وأحاسيسه فتفجرت في أعماقه عن رؤية جديدة غير واعية، لها أبعادها العميقة. ولوحة «الطلسم» هي إحدى هذه التفجرات.

عند خسوف القمر ينطلق الصبية الصغار يقرعون الأوعية النحاسية، ويقص الشيوخ في القرى بإيمان ساذج، أن سبب الخسوف هو أن الحوت يبتلع القمر، وأن لاشيء يجعله يترك هذا القرص الذي ينير كبد السماء من فمه الرهيب سوى القرع على النحاس، حيث يفزع من الصوت فيترك القمر في حال سبيله.

هذه هي الخرافة التي يؤمن بها البسطاء، أثار ما فيها من غرابة أعماق الفنان، ووجد فيها طلسماً لم يستطع خياله أن يجد له حلاً، ودون وعي اكتسبت الخرافة في الأعماق معناها خلال البحث عن الطلسم، فإذا بالحوت وفي فمه القمر، بينما تجرد الجزء الأخير من جسده ليظهر هيكله العظمي وكأنه مغارة الفناء، القمر ينير ظلام الليل، إنه الحقيقة في كبد السماء، فالوحش إذن يبتلع الحقيقة.

الحوت إذن هو الوحش، وهو يلعب نفس الدور الذي لعبته الدبابة في لوحة «إسرافيل»، وله نفس العين المريبة.

يبقى ذلك الإنسان الذي يتصدر منتصف اللوحة وقد جلس القرفصاء على الأرض بينما امتدت أصابع يديه ورجليه فوق سطح الأرض الخشنة في وضع أمامي مواجه للرائي فظهرت أصابع اليدين والقدمين طويلة ملتصقة في الأرض بثقل غريب.

مرة أخرى يشعرنا الفنان باستمرار خيالنا في رسم الخطوط الوهمية التي تشير إليها الأصابع الطويلة الثقيلة، فإلى الوراء تمتد لتلتقي في الأفق، فتجذب معها الجالس نحو الوحش كأنها المغناطيس، ومن الأمام تستمر خطوط الأصابع الوهمية في انطلاقها إلى لا نهاية.

يبقى الصحن النحاسي في زاوية اللوحة فارغاً، يشكو الفراغ والوحدة، يشكو الجوع إلى الحقيقة الضائعة في فم الوحش.

ومن أبرز العناصر التشكيلية في فن نذير نبعة اهتمامه بالكتلة التي تظهر في حجومه ذات صلابة وثقل ورسوخ، تذكرنا بصلابة التماثيل في النحت المصري القديم، ويظهر ذلك واضحاً في لوحة «الطلسم» و«العائلة المقدسة». وفي هذه اللوحة الأخيرة عودة أخرى إلى صرخة التمرد في «إسرافيل»، فالبشر انقلبوا إلى أنبياء يبحثون عن أنفسهم عبر المجهول. أنبياء من الأرض يشكون الجوع، الجوع لكل شيء.

من أهم واجبات الناقد الفني أن يعيش بوعي ما عاشه الفنان بدون وعي، فيبحث عن ذلك الشيء المختفي في كيان الفنان، الذي نلمس آثاره في العمل الفني ضرباً من الإيحاء، وبدون ذلك لن نستطيع فهم نذير نبعة وفنه الحزين الذي تتردد في جنباته، تلك الروح السريالية الحزينة المتعلقة باللانهاية، الباحثة عن الأعماق في قلق وتوتر يبلغ في تعبيره حد التمزق.

وليس معنى ذلك أن «نذير» فنان سريالي، وإذا لم يكن ذلك، فماذا يكون إذن؟

يقول عبد العزيز علون، وهو ناقد سوري، في كتابه «آفاق نذير نبعة». رداً على هذا السؤال: «اللوحة ككل عمل حديث يرفض أن ينضوي تحت شعار أي مدرسة. ولكن هذا الكلام لا يحفزنا على نكران استفادة «نذير» من السريالية أو التعبيرية وحتى التجريدية. ويعتمد نذير على وسائل غريبة يحملها أحياناً مدلول الرموز. ولكن هذه الرموز تظل هشة وبها شيء من لا مبالاة الخيال. وليست صعبة أو تساعد في كشف مضمون العمل وإنما تكتفي بترجيع أصداء بعيدة لها علاقة بالجو العام. وعلاقتها إذن باللوحة خارجية وتقنوية بحتة. وذلك واضح في الأقمار والعيون السوداء والأهلة والأصداف التي يوزعها نذير في أطراف اللوحات».

إلا أنه رغم عدم الانضواء الذي يتحدث عنه عبد العزيز علون، فإن اتجاه الفنان تغلب عليه الواقعية التعبيرية في كل عنفها، وإن كان هذا التعبير غير واضح أو محدد للمعاني، بحيث تثير اللوحة الواحدة عدة إيحاءات متباينة يساعدها على ذلك غموض تلك الرموز التي تتوزع في اللوحة بشكل أصداف وقواقع وقطط وأقمار، لو أردنا البحث عن مدلول محدد لها، لأعيانا البحث عن ذلك. إن تحديد الشكل، وإطلاق الحرية للفكرة جعل المعنى يبدو مكتسياً بانفعال الفنان ومغموراً في أعمق وجدانه.