فضاء نذير نبعة

أحبار نذير نبعه
والتحول من دلالة الخط إلى كينونته الحية

فضاء نذير نبعة

لا ندري ما إذا كانت ذاكرة نبعة البصيرية أكثر احتشاءً في أوقيانوس الخط منه في المقامات اللونية؟ ما هو أكيد أن ريشته ـ مثل فرشاته ـ تتسلل داخل حبيبات الورق، وذرات أديمه، تغرس تبصيمة مخلبها المحبّر في الأحشاء الدفينة تحت جلد السطح الأبيض، يتوغل المداد الأسود في مسام الأرضية الخشنة أو الصقيلة متدفقاً من رأس الريشة المعدنية بقوة التداعي، بدفقة «الحلم المتيقظ».

يوشم نذير الفراغ الأبيض بأثر أسود متعدد الأداءات، يعربد الأسود كل مرة في رحم الفراغ الأبيض، مستدعياً المعنى الشمولي لهذه الثنائية الكونية من ترميزات الشموس والدياجير، وتواترات الليل والنهار، متنازلاً عن البرازخ الرمادية المتوسطة بين المنزلتين، مقتصراً على الصراع الأقصى بين الحدين: الأسود والأبيض وإيلاج الواحد في الآخر.

يعبر فناننا في رسوم الحبر إلى حياكة من نوع آخر، حياكة تصبو إلى عقيدة السراط المستقيم، المنزه عن أي قرار أو صورة مسبقة، لأن تفاصيلها وليدة اللحظة الوجودية، المنفصلة عن السياق الزماني السابق واللاحق، تخضع حضرتها ـ التي لا تقبل التكرار أو السكونية لأن تخييلها مستديم الصيرورة ـ إلى قرار مستكين لا يحتمل أدنى إزاحة أو تعديل، يقتحم عبر طقوسه الغابات البكر المثيرة، حارقاً خلفه سفن العودة كما هو شأن عبد الرحمن الداخل (عند وصوله شبه الجزيرة الإيبرية)، يقذف تجربته في مخاطرة لا تقبل التراجع لأنها أحادية المسار.

يبدأ في مداهمة الفضاء باستبانة معالمه، وتأخذ خرائط الفراغ في التكشف بالتدريج، تقود الشبكة الخطية إلى متتالية تالية، ويسقط الحجاب بعد الحجاب حتى تتجلى العمارة العامة، تتعرى الطبقات «الجيولوجية» المدفونة تحت تغضنات الورق والضوء من خلال نبشها، طبقة إثر طبقة: من الظاهر إلى الباطن، وبقرار حاسم لا يحتمل الارتباك وإلا سقط تشييده الشطحي في ظلامات الرقابة العقلية؟ ينهش النور جسد الخط فترتعش كحلته، متعقباً في عناده الغريزي المسار الذي ترسمه الدودة في باطن التربة أثناء بحثها المرير عن الغذاء، وما أن تتجلى هيئة العمارة الضوئية حتى تتبدى الدقائق والتفاصيل والفروع، ينبجس الجزء من الكل، ثم يعاد النظر في الاثنين.

تتوقف مجاهداته عند محطة مباغتة وفي اللحظة غير المتوقعة، لحظة انفعالية زاهدة لا تقبل الإضافة أو الاستمرار في المعالجة، وإلا سقطت في المحسنات البديعية، وتعثرت في مهارات نذير وكياساته التقنية التي عرفت إرادته بترويضها، وعرف بحذاقته في قيادة إدراك المشاهد ضمن قنوات انفعالاته؛ يزهد بإغواءات الإطناب والاسترسال، قانعاً بجوهر الشكل، يقشر لبه حتى اللباب، محققاً نكوصه إلى براءة وعذرية الطفرة الغريزية الأولى، وفضولية حبواته الأولى (السابقة على مهاراته) والتي تعرف خلالها على العالم لأول مرة، يرفع يده عن الورقة مع النبضات الأولى للشكل الحي، في لحظة بواكير شهيقه وزفيره، تتحقق بالتالي الحتمية الغرافيكية من تناسخ هذا التقشف من ذاكرته الثقافية، من حضارة: «اجعلوا من رسائلكم تواقيع»، و«كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة» (النفري)، ومن تعريف المتبني للشعر: «الفن الإلماح». تعزز غريزية هذا السلوك أواصر القرابة العضوية التي تتمفصل على أساسها نواظم الشبكات الخطوطية، تتجمهر هياكلها في هول الفضاء، وتنسحب من أطرافه، فتتدرج الشدة البصرية من المركز الفرضي حتى تنعدم عند أهداب الورقة، تنقلب هذه الهوامش إلى هالة مكورة من النور، مؤكدةً تمركز الرؤيا في رحم التكوين، ورغم ما توحي به تشاريح هذه الحزم من المنهجة «الديكارتية» فهي وليدة إملاءات اللاوعي ولبوساتها المختزلة (حتى حدود الهندسة الروحية)، تتملص في فيضها التلقائي من الصناعة الحاذقة، ومن جعبة المحفوظات الطباعية التي لا يستهان بخبرته فيها، ذلك أن أشكاله تخضع لرقابة دائمة تصبو إلى تطهير سلوكها من الأسلبة والتنميط والبلاغة التقنية المبالغة، ورغم أنه يكتم أنفاس ما استكان إلى رسمه سابقاً، فيظل موشوماً بذاكرة التراكم وحساسيته التطورية تماماً كما هو حال رسم «الموجة» التي تنتمي إلى مياه الأوقيانوس التي صدرت عنه قبل أن تتفتت على الشاطئ، تصطخب قبل تلاشيها بألف حالة وحالة، والتي تجعل من رسم الموج حالات لا يمكن تماثلها، ولحظات تمر لا تقبل التكرار أو التناظر.

يعمّر نذير إيقاعات الفراغ وفق منظومة (ربما تملك صلة ما بالأوابد الفرعونية المعجونة بالشمس)، تعتمد قياسها من مفردة تشكيلية (شبه هندسية) مضمرة، لا يبوح بمدماكها جدار التكوين إلا بخفر وتستر: وحدة نغمية أشبه بالعلامة الموسيقية في التنويط، يؤسس بها هيكل التكوين وعمارته، مدماك فوق مدماك، ولبنة بجانب لبنة برصفات بلاطية تشبه رصفات تربيعات السيراميك، أو مداميك الحجر أو الطوب، القرميد أو الآجر.

قُدّت الوحدة الإنشائية في حالتنا هذه من مادة الضوء، من بياض الأرضية وإشعاعها الفنائي، يبدو الخط أحياناً فاصلاً رهيفاً يقع بين كتلتين ضوئيتين، وقد يتسرب الفراغ الأبيض بالمقابل بين خطين متلاشيين. فيظهر شرخاً يشق الأسود، يتداخل الشق بالمشقوق والجرح بالمجروح في كل مرة يولج الأسود في بطن الأبيض والعكس بالعكس، ضمن لقاح تأملي متأن فيتفانى الواحد في الآخر (يتدانيان أو يتناءيان) أو ينعدم كل منهما ويتلاشى في الفراغ عن طريق التهشير أو التظليل الناجم عن مسح الحبر بالأصبع قبل جفافه، يبصم رسمه ويرسم ببصمته (بأنامله وسلاماته)، بمجسات سبابته وباهمه، وقد يعانق الحبر براحة يده، يلامس دمعات الحبر ليمسحها باتجاه واحد، مطوعاً مصادفات نفاذه وارتشاف الورق لسخائه أو مرور الريشة النصف جافة كالجرح المارق، تتنوع خصوبات الريشة وشبق الورق ودرجات تشبعه بدفقات الحبر؛ تخطر العين بترفق عبر هذه البرازخ البصرية المتوسطة بين حدي الأسود والأبيض، تعوم الخطوط في حوض من الزئبق الضوئي، تختلج ارتعاشاته السطحية دون أن تشي بأية حفرة أو نتوء حاد، تماماً كما ترف النسمة على أديم كثبان الرمال المتماوجة بنعومة، فالتظليل متوحد الشدة أو يكاد، تخرجه إيقاعية الخط وتعدادت أداءاته من رتابته الظاهرة، يعاني من حالات الخفاء والتجلي ضمن تدرجات لا نهائية من الغيبوبة والصحو، الحضرة والغياب، يذكر هذا العبور الرهيف للبصر بسياحة العين وسعيها بين تربيعات السيراميك المتجانسة الصياغة (يسيطر غالباً لون التركواز)، بحيث تخرج حيوية الفروق اللونية (الناتجة عن تنوع الشوي والوضعية على الجدار) من رتابة التعامد وتواتر البلاطات المربعة؛ تكفل تلونات الخط في حالتنا هذه تنوع التأثيرات الوجدانية، تبدو في تعدديتها فجة أو لدنة، مخملية أو متكسرة، صائتة أو مختومة بالصمت، توقيعية أو متوازية، شاردة أو متجمعة، سخية أو مقترة، إلى آخر هذه المقامات الحميمة، ينبجس في شتى هذه الأحوال عناء التحول مما يمثله الخط إلى مسلكه الروحي وكينونته الحية المستقلة عن المشابهة من أي نوع كانت، فسيميولوجية الوجه والأنامل والشفاء والإيماءات المستكينة المحايدة مثلها مثل بقية الدلالات والهيئات لا تتعدى في النتيجة أن تكون حجة أو ذريعة أو مبرر عبور من أجل مشاهدة سلوك وطبائع وأمزجة تآكلات الخط أو سريانه الهمجي، طفراته البكر أو ذواباناته في شدق العدم والشيب الأبيض، وقد تكمن حيوية الأداء خلف تجسيد الدلالة. إن موقع دائرة القمر من الفراغ والهيكل البنائي العام، وطريقة ارتعاش الخط أشد حضوراً من البعد «الميتافيزيقي» الذي يطبع رمزيته، أما تجريد الشبكات من قراءتها النصية فيقود حتماً إلى العبور إلى نواظمها السماعية (الإيقاعية والنغمية) التي تتسامى عن حسيتها البصرية، ويخرج بالتالي بصيرية المشاهد من مساحة الحكاية والرواية، الأقصوصة والأسطورة، المشهدية أو المضمون، الفحوى أو التنظير، وشتى أدبيات المعاني والرموز، ألا يمثل الخط وتوقيعاته موضوعاً أشد تشخيصاً من التعيينات والهويات الميثولوجية العامة؟ ألا يتفوق المربع (في بعده الشطحي) أحياناً على قوة تأثير هيئة الوجه؟ عند تأمل علاقة «المحتوى» «بالمحتوي» نجد أن أوشحة الأسطورة (التي يتشبث نذير بأهدابها) تفرض تعويم أشكالها، وتحريرها من ضوابط الجاذبية الأرضية، فهي تحوم في شتى الاتجاهات (ضمن فراغ تنزيهي مطهر من مادية هذه الجاذبية)، لعل هذا مما يسمح للعناصر الرمزية بممارسة تحولاتها ومسوخاتها الأسطورية، فالمرأة-الأم (المتناسلة عن ألوهية الخصوبة الأولى في الذاكرة السورية الرافدية) تنقلب إلى شجرة، أو أرض، تتداخل ثنيات الثوب مع ثنيات الجسد، وتستمر التلغيزات البصرية الملتبسة حتى يصب تشريح الحالتين (الرداء والكينونة العضوية) في وعاء الفراغ، كذلك حال العناصر الأسطورية الأخرى التي درج على استدعائها في بوتقة أسلبته للعالم الذهني، من مثال السمكة والديك والطير والفرس، ثم الزهرة وورقة العنب ...الخ.

كلما شحبت الدلالة بشكل عام، وتراجع مداد التمثيل، كلما اشتد ساعد «التجريد»، يصل تهميش هذه الدلالة ذروته عندما تمارس الخطوط أحابيلها الكرافيكية، تسعى الخطوط في خداعاتها إلى الاقتراب من مخملية حركة ذرات برادة الحديد حول المغناطيس، أو حومان ذرات الغاز أو نبضات الخلايا الحية في المشاهد المجهرية.

تتناسخ هذه الأحابيل من ذخائر الموروث الكرافيكي، سواء الهندسي منه (ألاعيب الرقش) أم القريب من بعض طرز أقلام الكوفي المربع والديواني، يتزامن في شتى هذه الحالات إدراك الأطروحة وعكسها بسبب تساوي الشدة البصرية، مما يؤدي إلى الالتباس في تأويل الصورة، يتداخل السالب في الموجب، والشكل بالأرضية، والامتلاء بالخلاء، تماماً كما هو نظام التبادل الجبري في مناوبات رقعة الشطرنج، تسمح هذه التقنية المخادعة بالتحول من صورة ميثولوجية إلى أخرى، في واحدة من رسومه لايمكن قراءة هيئة السمكة إلا من خلال تبين الأرضية، وبالعكس فالتعرف على هيئة العروس لا يتم إلا بحذف هذه «الأرضية» والاقتصار على «الشكل» وذلك ضمن تداخل الإدراك في نظرية «الغشتالت» الألمانية المعروفة.

يسمح هذا النوع من القراءة ـ من جهة أخرى ـ باستدعاءات جحافل الصور المخزونة في اللاوعي دون أي تشويش كمي متراكب، لأنها تعتمد على إعادة رصفها وتجاورها: تارة مرصعة في «الأرضية» وأخرى متموضعة في وطن «الشكل»، وهو ما يمنهجه الفنان البلجيكي إيشير في حشود صورة الأندلسية، وبطريقة لوغاريتمية آلية، ولكن استدعاءات نبعة تقوم على الاصطفاء الحميم، وهو فرق نوعي بين استشراقية إيشير وصفائية نذير؛ فإذا كان لابد من عقد مثل هذه المقارنات الإستطيقية بهدف منهجة تعيين خصائصه الإبداعية المستقلة، فلن نجد ما يبرر محاذيرها إلا إذا تمت مع مادة وفكر ماكس إرنست (وخاصة في جوانبه التي تعصى على مصنف السوريالية)، تتجاوز المقاربة بين هذين المختبرين احتفائهما بالطبيعة في أوشحتها الحلمية والكرافيكية إلى اعتماد آلية التداعي الميتافيزيقية وخاصة خلال أحوال «حلم اليقظة» (التي اعتمدتها استعارة إرنست من تجارب علم النفس)، والتي استخرج بواسطتها غاباته الكوابيسية المثيرة بطريقة الحك والكشط والتبصيم، وإذا اعتمد نذير نفس التقنية في السابق فقد أدت به إلى نتائج صورية بعيدة في حساسيتها، خاصة وأنه يرتشف أساطيره من اللاوعي الجمعي (وليس الفردي) والمرتبط بالخصائص التنزيهية التي تضبط الخيال بالاختزال، وبصبوة التواصل الإيقاعي، لعل هذا شأن اختلافه أيضاً مع السوريالية النباتية لغراهام سوترلاند، فهو أشد انتماء إلى كوكبة الفنانين الروحانيين الذي يسوحون في عالم الخلق والخليقة إجلالاً كسر التكاثر التوقيعي، على غرار عوالم أرشيل غوركي وتنويطات بول كلي، يجتمع معهما ومع إرنست في مواضيع الخصوبة والعناصر الإيكولوجية التي ترمزها الزهرة وفلقة المدقة والسداة، وغيرها من أجهزة الكائنات النباتية أو الحية. يخرج هؤلاء جميعاً من إيحاءاتها الجنسية ليعبروا إلى أرحام الكون، وامتداداته وتكاثراته النسبية، يشرد نذير بدوره من المساحة الإيكولوجية والحلمية ليؤكد حياكته الذهنية التجريدية، فمنطق اللاوعي الآلي بالنسبة إليه لا يقل خطراً في تناسخه الصوري عن منطق الوعي، ذلك أنه يعتمد على تصفية مركبة في تأويل أشباح هذين المخزنين، فتتفوق استغراقاته الإيقاعية والأدائية على استطراداته الأسطورية، ناهيك عن تفوقه في ملحمية التخطيط الموروث من خبراته التعبيرية الحادة التي تتأججت في رسوم الشهيد في سنوات السبعين.

ولعله من الجدير بالملاحظة أن الإحساس بوحدة الوجود (حيث تتحالف تجربة نبعة مع كلي) لاترجع إلى الدلالة، بقدر شمولية النواظم الإيقاعية، التي تجتاح بنظامها الطبيعي النوطة البصرية، ينفذ الاثنان (كما هو حال جلال الدين الرومي) إلى أوقيانوس الكينونة النباتية من وريقة ذابلة، وإلى أوقيانوس الصحارى من حبة رمل، وإلى لا نهائية المحيط من قطرة ندى، نعثر في هذا المقام الشمولي على التطابق النسبي (المينيماليست) بين إيحاءات المشهد المجهري والمشهد التلسكوبي، بين رسم الفلك الأعلى وهيئة الجوهر الفرد، بين اجتماع المجرات واجتماع الذرات. قبل أن يتوحد الوجود في مشهد واحد فيقترب جسد الإنسان من هيئة جذوع السنديان والصنوبر والتين والزيتون، كما كانت «أشجار الغرب» (في مرحلة دير الزور في السبعينات) تتشخصن وتقترب من سلوك البشر، ثم تنسحب هيئتها على جذع بطله الملحمي الشهودي، تتفتح فلقة الحب في ثنيات الجسد الأنثوي، وكثيراً ما تتداخل معه ستائر التماجن والخفر المستعارة من أوشحة ألف ليلة وليلة، تتلون الغابات البكر بقزحيات مزارع الحلم في الجسد الإنساني، تتماثل في هذا التوحد الهيئات «الكبيرية» مع الهيئات «الصغيرية» ضمن حدود التصور الصوفي الذي يجعل من «الإنسان كون صغير، والكون إنسان كبير» (الجيلي).

لعله من العبث بمكان البحث عن خصائص تجربة نذير الإبداعية من خلال ترصد سيرته الذاتية أو المهنية خارج سلوك الخط ورسم الفراغ، فهو النموذج الفني الذي يؤكد أندريه مالرو بخصوصه أن سيرته الذاتية لا تخرج عن سياق وسيرة مأثورته التشكيلية.

باريس، 10-8-1997


أسعد عرابي