فضاء نذير نبعة

تجليات نذير نبعة في صالة الأتاسي بدمشق
صور عالم يئن بالخرائب ويطلب الحب والرحمة

فضاء نذير نبعة

مثل شمس تسطع بعد شتاء طويل أطلت لوحات الفنان التشكيلي السوري نذير نبعة، حاملة معها الحب والاختلاف في معرضه الجديد الذي تقيمه حالياً صالة الأتاسي بدمشق تحت عنوان «التجليات»، وحين سألت الفنان الكبير عن سر صمته وغيابه لأكثر من عشرين عاماً عن صالات العرض في سورية، قال: «حين أقيم معرضاً جديداً يجب أن أكون متأكداً من أنني لا أكرر نفسي بل أقدم تجربة جديدة». هكذا هو، وهكذا مارس الفن، ولهذا ارتبط اسمه بأولئك المجددين والمؤصلين للوحة في تاريخ التشكيل السوري المعاصر منذ أن أطلت تجربته في أوائل خمسينيات القرن العشرين.

وإذا أردنا تتبع بعض التواريخ المفصلية في سيرته، فالفنان نذير نبعة من مواليد دمشق عام 1928، درس التصوير في القاهرة وتخرج عام 1964، ثم تابع علومه في باريس وتخرج في عام 1974، أقام ثمانية معارض فردية فقط، في كل من دمشق وبيروت فالإمارات العربية، حصل على جائزة تقديرية من بينالي الاسكندرية عام 1968، ودبلوم من معرض براتسلافا الدولي في مجال فن رسوم الأطفال عام 1979، وجائزة المدرسة العليا للفنون الجميلة عن أعمال تخرجه، وجائزة لجنة تحكيم بينالي القاهرة 1995. وإذا كانت لوحته عبر معارضه هذه قد وحدت ما بين الواقعية والانطباعية، وأدخلت المفردات الفنية المستقاة من التراث العربي والأساطير السورية والحكايا الشعبية، واحتفت بالألوان الزيتية بشكل أساسي، لتخرج بصياغات مختلفة، فما هي المناطق الجديدة التي يقودنا إليها الفنان في رحلته الجديدة هذه.

على المساحات الكبيرة وبمساعدة القماش وألوان الإكليريك بنى الفنان عوالمه هذه المرة، وهي عوالم تفاجئ ناظرها بمشهد ضبابي يشبه مشهداً صخرياً عالجته يد الزمن، أو جدار حفرت عليه الذاكرة كنوزها وأسرارها، وكتب التاريخ عليه سيرته وهمومه، مشهد يبدو للوهلة الأولى على أنه تجريد يحتفي بانفعالات الداخل ورعشة الألوان، لكن ما إن تمعن النظر حتى تفاجئك بقايا مدن أو شخصيات أسطورية أو حي مسكون بالحكايا، أو خارطة للخراب والخوف، براكين وأشلاء، جنان وجحيم وغيرها من الرؤى التي استحضرتها ذاكرة الفنان في لحظات التجلي والخلق، لتغدو مسرحاً للاحتمالات والإشارات والأخيلة، أو كما يقول هو نفسه عن عالمه: «هو المتحول في زحمة الاحتمالات، المتحرك في غلالات الضوء، الحي في صراحة الأشكال وفي فيض الإشارات».

مسرح متعدد الطبقات والظلال، وما بين النافر والغائر تستكمل الحكاية تفاصيلها، تستكمل الرؤى بصيرتها، وتكتسي بانفعالات الروح ودفقة الألوان، تارة تهزك من الداخل وأخرى تلقي عليك السلام، مرة تجرحك وأخرى تمسح دموعك، تقود قلبك من حزن إلى فرح ومن صمت إلى صخب، تسحبك إلى أعماقها أو أعماقك ببراعة الصانع وحبه وقوة اللون والأثر، فكتل اللون النافرة التي شذبها حد السكين بحنو ورقة، وجعلتها تعلو وتخفت، تصرخ وتئن وتقهقه بما تحفل به من تضاريس وانحناءات رهيفة، وما تدفع به من صدامات لونية أو تدرجات لون واحد تخفي وراءها أشكال غائمة حولت اللوحة إلى فضاء إشاري واسع الدلالات والمدى.

وإذ نتساءل في نهاية المطاف «لماذا التجريد الآن» يجيبنا الفنان: «محال أن نعبر عن البربرية بنفس الريشة التي رسمت جمال عشتروت، أصبح من الكذب أن ترسم شجرة أو بيتاً أو طريقاً، ثم تزين السماء بالغيوم، فقد أصبحت الشجرة من الشهداء، والبيت مذبحاً للأطفال والنساء والشيوخ، والطريق مرتعاً للدبابات والجنود، والسماء مجالاً لطائرات الأباتشي وصواريخ العم سام».

هكذا يهزك المعرض بمشاهداته وإجاباته الصريحة، فتخرج من الصالة مطرقاً خجلاً من أسئلة الحاضر، وربما يحضرك قول أبي العلاء المعري: «خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد».


تهامة الجندي