انطيوخس الرابع


الدولة السلوقية

.

اغتصاب العرش


وكان انطيوخس الابن الأكبر لـانطيوخس الثالث وشقيق الملك القتيل رهينة في روما كما أسلفنا، وعندما سمع باغتيال أخيه وتنصيب ابن أخيه الطفل ملكاً انطلق بتشجيع من روما إلى آسيا الصغرى مطالباً بدم أخيه وعرشه أيضاً، وتمكن بمساعدة قوة قدمتها له مملكة برجامه (حليفة روما) من طرد الوزير هليودوروس والحكم بصفته شريكاً لابن أخيه في العرش.

وكان انطيوخس (الرابع) -رغم ما تذكره عنه الكتابات اليهودية من أوصاف سيئة لأسباب سنبينها فيما بعد ورغم أنه حمل في بعض المناسبات لقب الإله المتجلي أو (ثيوس ابيفانس)- ملكاً ذكياً مقتدراً ونشيطاً، دمقراطي الطابع تحلو له مجالسة الأدباء والفلاسفة، واعتنق من المذاهب الفلسفية المعاصرة الرواقية ثم انصرف عنها إلى الابيقورية بتأثير من الفيلسوف الابيقوري فيلونيدس (فيلسوف اللاذقية في سورية) ويبدو أن تأثره بالفلسفتين السابقتين قد دفعه إلى إبداء حماس منقطع النظير في نشر مظاهر الحضارة الإغريقية بين رعايا إمبراطوريته مما أدى إلى قيام عدة حركات داخلية معارضة ومؤيدة كان من الممكن أن تؤدي صراعاتها إلى تهديد وحدة سورية وتحد من قوتها لولا حزم أنطيوخس الرابع ومهارته في معالجة هذه الأمور.

إذ في أثناء فترة ارتقاء أنطيوخس الرابع العرش توفي بطلميوس الخامس وترك وراءه ولدين وبنتاً كان أكبرهم بطلميوس السادس الذي كان في السابعة من عمره، فتولت الوصاية عليه أمه كليوباترا الأولى ابنة أنطيوخس الثالث وشقيقة الرابع، وبفضلها بقيت علاقات مصر مع سورية وديّة خلال مدة وصايتها التي لم تعمر طويلاً إذ توفيت كليوباترا سنة 176ق.م، وتسلم الوصاية بعدها مربي الملك «يولايوس» الخصي «ولنايوس» السوري، اللذين أيدّا منذ تسلمهما السلطة الحزب المؤيد للحرب مع سورية لاستخلاص جوف سورية الغني في محاولة لإنعاش مالية البلاد.

وفي سنة 170ق.م احتفل بلاط الإسكندرية ببلوغ بطلميوس السادس الرابعة عشرة من عمره (وهو سن الرشد السياسي في العرف الإغريقي)، وأوفد أنطيوخس أحد قادته المدعو ابولونيوس لتمثيله في حفل التتويج. وعندما عاد ابولونيوس من مصر أكد لمليكه أن الوصيين يولايوس ولنايوس يعدان العدة لاستعادة السيطرة البطلمية على جوف سورية، وكشفت بعض الحوادث من قيام حزب يهودي في فلسطين ينادي بالتعاطف مع مصر نكاية بملوك سورية ما أعده الوصيان من مداخلات تمهيدية لحملتهما على جوف سورية.

الحرب السورية السادسة


ولم ينتظر أنطيوخس في عاصمته سماع أخبار تقدم الجيش البطلمي باتجاه جوف سورية بل سارع إلى إيفاد أحد قادته إلى روما لشرح الموقف وتحميل بلاط الإسكندرية تبعة الحرب، وزحف هو بجيشه باتجاه مصر، وقبل وصوله إلى (بلوزيون) الحصن البطلمي المنيع على الحدود المصرية في سيناء، التقى انطيوخس بالجيش البطلمي عند تل (كاسيون) وأنزل فيه هزيمة فادحة فُتِحتْ نتائجها أمامه أبواب مصر، وبعد استيلائه على بلوزيون تقدم باتجاه العاصمة المصرية القديمة (ممفيس). وهكذا نجح أنطيوخس فيما فشل فيه عدد من سبقه من قادة العصر الهيلنستي السابقين بما فيهم والده انطيوخس الثالث، منذ الاسكندر الأكبر أي منذ مدة تزيد على قرن ونصف لم يفلح أي قائد في غزو مصر من ناحية سورية.

حصار الاسكندرية


عندما وصلت إلى الإسكندرية أخبار الهزيمة، بادر بطلميوس السادس إلى الفرار منها بإيحاء من بعض قادته، وقبل أن يفلح بالابتعاد عن الشواطئ المصرية، ألقت بعض سفن الأسطول السوري -التي كانت تحاصر الإسكندرية بعد هزيمتها الأسطول البطلمي واستيلائها عل قبرص- القبض على الملك الفار وسلمته إلى انطيوخس. ورداً على فرار بطلميوس السادس قرر الاسكندريون المقاومة ونادوا بأخيه الأصغر (وكان يافعاً في الخامسة عشرة من عمره) ملكاً. وإزاء ذلك وجد أنطيوخس ذريعة تبرر تدخله في مصر فزحف على العاصمة زاعماً أنه يؤيد حقوق الملك الشرعي بطلميوس السادس.

وتصادف أثناء حصار انطيوخس للإسكندرية وجود عدد من السفراء البعثات الدينية من المدن الإغريقية في العاصمة البطلمية، واتفقت الآراء على ضرورة مشاركة كل أولئك السفراء في مفاوضة أنطيوخس في عقد الصلح. وفي أول لقاء مع السفراء أعلن أنطيوخس تمسكه بجوف سورية، ونفى أن يكون والده انطيوخس الثالث قد منح ابنته كليوباترا الأولى سورية المجوفة كهدية لها عند زواجها من بطلميوس الخامس، كما أصرّ على ن يكون عرش مصر لأكبر البطلميوسيين سناً. ولا يعرف في الحقيقة سبب وجيه يبرر الانسحاب الفجائي الذي قام به انطيوخس قبل أن يقطف ثمار حملته الناجحة على مصر، وإن كانت مصادرنا تذكر أن بعض الاضطرابات التي قامت بها بعض القبائل المشايعة للبطالمة في فلسطين كانت من أهم أسباب ذلك الانسحاب، كما تُضيف دراسة محدثة أخرى على الأسباب السابقة رغبة انطيوخس في القيام بحملة شرقية مشابهة لحملة والده من قبل.

انطيوخس يغزو مصر ثانية


يبدو أن انطيوخس كان يعلق آمالاً على نزاع متوقع بين بطلميوس السادس وأخيه الأصغر يبرر تدخله مرة أخرى في مصر، ولكنه ما كاد يبرح أرض مصر حتى اتفق البطلميوسان وأختهما كليوباترا الثانية على أن يتربع الثلاثة على عرش مصر، ويبدو أن انطيوخس الذي أدرك متأخراً بأن اتفاق الأخوة الثلاثة سيحرمه من قطف ثمار حملته الأولى فقد قرر الإسراع بالقيام بحملة ثانية يجني فيها ثماراً فاته قطفها في السابق، ولذلك فقد قام في ربيع سنة 168ق.م بالزحف على مصر في الوقت الذي أرسل أسطوله للاستيلاء على قبرص. ونظراً لعدم استطاعة بلاط الإسكندرية التصدي لجيش انطيوخس، فقد أوفد البطلميوسان وأختهما سفارة إلى خالهم وهو في طريقه إلى الإسكندرية يعربون بواسطتها عن شعورهم الطيب واستفسارهم عما يطلبه لقاء خدماته بدلاً من فرض ذلك بالقوة، ورد انطيوخس بأنه لن يسحب جيشه وأسطوله إلا بعد الاعتراف له بجزيرة قبرص والإقليم المجاور لفرع النيل الشرقي، وحدد مهلة للاستجابة إلى طلباته. ولما لم يكن في وسع بلاط الإسكندرية الموافقة على مثل هذه المطالب، فقد أرسل استغاثة إلى روما في الوقت الذي تحرك فيه انطيوخس باتجاه ممفيس حيث توج نفسه فرعوناً ومنها إلى الإسكندرية التي ضرب عليها الحصار.

انطيوخس ينسحب من مصر


ورداً على استغاثة الإسكندرية قرر السناتو الروماني إيفاد بعثة برئاسة (بوبيليوس لايناس) لإبلاغ انطيوخس مطالب السناتو القاضية بالانسحاب من مصر، وفي ضاحية اليوسيس (القريبة من الإسكندرية) حدثت المقابلة المشهورة بين انطيوخس ولايناس، وعندما حيا انطيوخس السفير الروماني، لم يرد السفير التحية بل سلم الملك رسالة السناتو وطلب إليه أن يقرأها، وعندما قرأ أنطيوخس الرسالة أعلن بأنه يطلب مهلة للتشاور مع حاشيته (حسب قاعدة البلاط السوري في العصر الهيلنستي) فلم يكن من السفير الروماني إلا أن خطّ بعصاة كانت في يده دائرة حول الملك وطلب إليه أن يرد على الرسالة قبل أن يخطو خارج تلك الدائرة، فاستاء انطيوخس من هذا المسلك الغريب وتردد لحظة ثم أعلن أنه يوافق على ما جاء في الرسالة، وعندئذ حيّا السفير وأعضاء الوفد الملك تحية ودية، وبدأ انطيوخس بإصدار أوامره للانسحاب من قبرص ومصر.

احتفالات دفنه


وبالرغم من تلك الصدمة المعنوية التي ألحقتها روما بأنطيوخس، فقد كان وضعه من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية قوياً لدرجة قرر معها الرد على الاحتفال الكبير الذي أقامته روما سنة 167ق.م في مدينة أمفيبوليس اليونانية احتفالاً بقهر مقدونية ودعت إليه عدداً من المدن الإغريقية، بإقامة احتفال في ضاحية دفنه (بالقرب من أنطاكيا) يضاهي احتفال الرومان عظمة وفخامة. وتزودنا مصادرنا القديمة بتفصيلات عن المهرجانات الرائعة التي استُهلت باستعراض عسكري شارك فيه عشرات الآلاف من الجنود من قوميات مختلفة وقد تدرعوا بالدروع الجميلة من الذهب والفضة، وركب بعضهم أجمل الخيول المطهمة والمزينة، ومن خلف هؤلاء مشت فرق الخيالة من سكوثيه والأفيال الهندية والمصارعون، ثم تلت هؤلاء مواكب الرجال المدنيين الذين يحملون تيجاناً ذهبية، وألفاً من الثيران التي أعدت للتضحية وثلاثمئة بعثة دبلوماسية من المدن الإغريقية، ثم عرض لأنياب الأفيال، وتماثيل لكافة الآلهة وأنصاف الآلهة مذهبة أو مطلية، وآنية رائعة، ونساء متزينات يرششن العطور من زجاجات ذهبية أو محمولات بواسطة حفات لها أرجل مذهبة. وقد تضمنت الاحتفالات التي استمرت شهراً إقامة الألعاب الرياضية ومشاهد المصارعين المحترفين وعراك الحيوانات المتوحشة، كما خصصت بعض الأوقات لكي يجري الخمر في مصدر الماء الرئيسي في مدينة أنطاكية.

وتضيف المصادر أيضاً أن انطيوخس كان قد شارك في تنظيم دعاية الاحتفالات، فكان الجميع يرونه تارة يرحب بالضيوف، وأخرى يصدر أوامره التنظيمية، وثالثة يلقي النكات، وأخرى يشارك بالرقصات العامة. ويبدو أن أنطيوخس كان يبغي إدهاش الوفد الروماني برئاسة (تيبريوس سمبرنيوس كراكخوس) الذي عومل بأمر من الملك معاملة ملكية، فوضع القصر الملكي تحت تصرف الوفد وأحاط جميع أعضائه برعاية لم يكن يحظ بها إلا الملوك.

وفي بداية سنة 163 توفي انطيوخس الرابع في أصفهان، وكان قد أوصى أن يتولى الوصاية على ابنه أنطيوخس أحد قادته المصاحبين له في حملته ويدعى (فيليب)، في نفس الوقت الذي كان فيه لوسياس لا يزال المشرف والوصي الفعلي على الملك الطفل في العاصمة.

مواضيع ذات صلة: