سرجيلا

تكمن أهمية سرجيلا في أنها تعطينا فكرة واضحة عن حياة الريف العميق خلال فترة سورية الرومانية والبيزنطية، وعن النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والدينية التي مارسها الفلاحون السوريون خلال تلك الفترة الزمنية التي سادها على مرحلتين طويلتين سلام شبه كامل، سمح لهذه النشاطات بالنجاح والارتقاء. وتقع سرجيلا شرق كفر البارة في وسط جبل الزاوية إلى الجنوب من مدينة إدلب على هضاب متموجة ترويها مياه الأمطار بشدة شتاءً.


الموقع الجغرافي:

تقع سرجيلا شرق كفر البارة في وسط جبل الزاوية في منخفض وادٍ إلى الجنوب من مدينة إدلب على الطريق الواصل إلى معرة النعمان، تبعد عن كفر البارة حوالي 3,5 كم، وهي واحدة من القرى الأثرية في الهضبة الكلسية، المحفوظة بشكل جيد. وتعطي صورة عن وضع الأرياف في سورية الشمالية خلال الفترتين الرومانية والبيزنطية. تعتبر سرجيلا جزءاً من الهضاب المتموجة التي تتخللها الشقوق وتتناوب على سطوحها المساحات الصخرية مع الأراضي الصالحة للزراعة وهي محرومة من الينابيع ولكنها تروى بسخاء من مياه الأمطار في الشتاء.



لمحة تاريخية:

عاشت سورية بين عهد الإمبراطور أوغسطس والفتح العربي الإسلامي فترتي سلم طويل وشبه كامل تمتدان من بداية التاريخ الميلادي حتى 260 م ومن 298م حتى 330-340م. ولاشك أن روما ومن بعدها بيزنطة اشتبكتا بحروب مع بلاد فارس في هاتين الفترتين ولكن هذه الحروب وقعت في أرض العدو. وسمح هذا الظرف النادر من السلام في التاريخ القديم، والذي دام خمسة قرون بخلق شروط مناسبة للتوسع السكاني والتطور الاقتصادي.

وتعد سرجيلا من أهم القرى الأثرية المهجورة على الإطلاق. وتعرضت كغيرها للحروب والزلازل وحررت على يد نور الدين الزنكي عام 1148م.



الوصف المعماري:

تكمن أهمية سرجيلا بأنها تعطينا فكرة عن أحوال الريف العميق في سورية الرومانية الببيزنطية وتدل على أن هذا الريف كان يقطنه فلاحون نشطون ومبدعون ويتكلمون اللغة السريانية ويعرفون اليونانية، تحول السكان إلى المسيحية بعد أن كانوا وثنيين واعتنق بعضهم الإسلام قبيل بدء الرحيل التدريجي عن هذه القرى، وتُظهر الناحية الاقتصادية أنه وجُد في التاريخ القديم فلاحون أحرار وملاك أراضي استطاعوا أن يصلوا إلى الغنى على الرغم من الضرائب الباهظة.

تشتهر سرجيلا بمعاصرها ومدافنها السطحية ذات النقوش الخلابة والتي تعود إلى القرن الرابع وحتى السادس الميلاديين. وفيها الكثير من الأبنية السكنية والكنائس والحمامات والقصور ومعاصر الزيت والقبور التي بنيت على نمط واحد تقريباً، وغالباً ما تكون أبنيتها ذات طابقين وتختلف من حيث سعتها وزخرفتها باختلاف ساكنيها وفيها كنيستان استخدمتا للعبادة أثناء الفتح الإسلامي. عرفت بأندرونها الذي كان يستخدم كدار للضيافة ثم تحول إلى مكان لعقد الاجتماعات وحل الخلافات في القرية والذي يعود للقرن الخامس الميلادي، ومن الواضح من دراسة مسقطه أنه بناء عام لأنه لا يوجد له فسحة سماوية، الطابق الأرضي إسطبل ويمكن أن يكون الطابق الأول مكاناً لاستضافة المسافرين الذين يأتون لزيارة الحمام.

كما لا يزال حمامها كامل المعالم بأقسامه المختلفة. وقد بني عام 473م ويتألف من صالة كبيرة في الشمال وسلسلة من صالات أصغر في الجنوب. ويوجد من الناحية الجنوبية من الخارج خزان كبير محفور في الصخر ومغطى ببلاطات حجرية. الصالة الكبيرة عبارة عن مشلح ومكان للاجتماع وفي طرفها الغربي شرفة محمولة على أعمدة ما زالت قواعدها باقية، وكانت الأرضية مغطاة بالفسيفساء وهي تتضمن كتابة تشير إلى عام 473م حيث عمد قروي اسمه جوليانوس إلى بناء هذا الحمام من أجل مجد مقاطعته.

تتألف الغرف المتصلة من الصالة الباردة وملحقاتها (دوش ومرحاض) وتنفتح على الغرفة المتوسطة الحرارة أي الوسطاني في الحمام العربي وبعد ذلك نصل إلى الغرفة الحارة التي ترتكز بلاطات أرضيتها على طبقات من القرميد، ويمر تحتها الهواء الساخن. وفي الصالة المجاورة يوجد بيت النار والمغطس. أما الغرف التالية فهي عبارة عن مدخل للعمال ومخزن للوقود. أما خزان الماء فكان مغطى ببلاطات مرتكزة على أقواس كبيرة وسعة هائلة تتجاوز حاجة الحمام.
تحتل البيوت السكنية المركز الأهم وهي مبنية على نمط واحد ومؤلفة من ثلاثة عناصر أساسية: بناء للسكن والعمل، فسحة سماوية، وسور يحيط بهذه الفسحة. يتألف بناء السكن والعمل من غرف مبنية على مستويين الأول الأرضي وفوقه طابق ثاني، وتتجاور هذه الغرف على خط مستقيم أو زاوية قائمة، ولهذه البيوت سقف ذو ميلين ورواق مغطى وفي الطابقين.

كانت غرف الطابق الأرضي مخصصة للغرف العملية: كالمخازن والاسطبلات ومعاصر الزيت. وغرف الطابق العلوي كانت للسكن. وكان الرواق معبراً يسمح بالمرور بين الغرف الطابقية أو المتجاورة، وتفتح كل الغرف على الفسحة السماوية ولا يستطيع الزائر الوصول إلى الغرف إلا من خلالها.

تتميز البيوت بعضها عن بعض بعدد الغرف الذي يدل على التوسع غير المتوازي بين الأسر. توجد أقدم البيوت عند الوادي عند ابتداء السفوح، وتتميز الغرف والفسحة بأبعادها الصغيرة كما أن نوعية البناء فيها بدائية. تتكون الجدران من صفين من الحجر الغشيم الصغير الحجم، وربما بناها أصحاب البيوت أنفسهم ولا يوجد فيها أثر للتزيين وإن وجد فهو لا يذكر، ويعود أقدم هذه البيوت إلى نهاية القرن الثاني الميلادي. كان سكان هذه البيوت من الفلاحين الفقراء النشيطين وهم الذين استصلحوا الأراضي الزراعية المحيطة بالقرية وخلصوها من كتل الأحجار الموجودة فيها. وكان هؤلاء الفلاحين يطبقون اقتصاد الاكتفاء الذاتي بدمج الزراعة مع تربية المواشي وأحياناً على نطاق أصغر بزراعة الزيتون وصناعة الزيت.

وهناك البيوت الكبيرة المبنية بأحجار بسيطة قائمة ومربعة الزوايا تزن الواحدة منها بضع مئات من الكيلوغرامات المرصوفة بدون ملاط، وتعود إلى القرنين الخامس والسادس الميلادي. وهي بحالة حفظ جيدة يصل ارتفاعها إلى ثمانية أو عشرة أمتار أي حتى مستوى السقف، ولا ينقص منها سوى السقف والأرضيات الخشبية والغطاء القرميدي، كما تتحلى الواجهات بحلية معمارية جميلة.

تزايد عدد السكان بنسبة كبيرة خلال القرنين الخامس والسادس، لكن مساحة الأراضي المزروعة المحيطة بالقرية بقيت على حالها. وعلى الرغم من ذلك نجد أن الفلاحين أصبحوا أكثر غنى من الفترة الرومانية، يشهد على ذلك تلك البيوت الفخمة التي بناها عمال مختصون كانت تدفع أجورهم من فائض المال الناتج عن التحول الاقتصادي الموجه إلى بيع المنتجات الزراعية. إن تطور نشاطهم الاقتصادي وخاصة زراعة الأشجار المثمرة وأشجار الزيتون وصناعة الزيت، والذي ترافق مع تطور فن البناء وبعض المنتجات الحرفية، جعلهم لا يكتفون فقط بإنتاج ما تتطلبه الحياة من محاصيل زراعية بل سمح بتطوير الإنتاج والتجارة وتصدير الزيت والنبيذ.
وهناك مجمع كنسي يتألف من كنيستين من طراز البازليك، وفسحة سماوية، وبناء يوجد في غرف طابقه الأرضي ثلاثة قبور.