العصر الحجري القديم
بدأ العصر الحجري القديم في حوالي مليون عام وانتهى في حوالي 12000ق.م ويقسم إلى:
ـ القديم الأدنى: من 1000000ق.م إلى 100000ق.م.
ـ القديم الأوسط: من 100000ق.م إلى 35000ق.م.
ـ القديم الأعلى: 35000ق.م إلى 12000ق.م.
ومنذ بدء ذلك العصر الحجري، سكن إنسان «هومواركتوس» سورية وقد قدم من الجنوب (إفريقيا)، سالكاً طريقاً ساحلية ـ حذاء البحر الأحمر والبحر المتوسط ـ وطريقاً داخلية عبر وديان الأنهار الهامة (وادي عربة والأردن والليطاني ثم العاصي)، وتابع طريقه شمالاً إلى أوروبا، وشرقاً إلى آسيا.
وإذا كنا نجهل الكثير عن الحياة الاجتماعية والروحية، عند ذلك الإنسان الأول في سورية، فإن طبيعة بقاياه الأثرية والمقارنة مع الشعوب البدائية الحالية، تجعلنا نعتقد بأن ذلك الإنسان عرف الحياة المنظمة، وشكل مجموعات بشرية صغيرة (من عشرة إلى خمسة عشر شخصاً)، يرأسها أب، وتتبعه زوجة أو عدة زوجات وأولاد، ولها لغتها للاتصال والتفاهم، وإنها عرفت تقسيم العمل بحسب الجنس والسن، حيث قام الرجال بالأعمال الشاقة، وقامت النساء والأولاد بالأنشطة الأخف. وكانت هذه المجموعات متنقلة وشبه منعزلة، تغذّت من خيرات الطبيعة البرية، ومع تحسّن قدراتها في الصّيد واكتشافها النار، زادت من اعتمادها على اللحوم، وقد سكنت في العراء، أو في المغاور والملاجئ، ثم اهتدت إلى بناء الأكواخ البسيطة، وتمكنت من الإقامة في المناطق والظروف المناخية المختلفة، وذلك بعدما ارتدت أوراق الأشجار والنباتات المناسبة.
وإن كل ما نعرفه عن «هومواركتوس» في سورية في زمنه المبكر، يعود إلى أدواته الحجرية، التي صنعها واستخدمها في أنشطته الاقتصادية المختلفة. وتنسب هذه الأدوات إلى ما يسمى الحضارة الأشولية (نسبة إلى موقع سان أشيل في فرنسا)، ذات الانتشار العالمي والمتشابه، وقد غطت معظم العصر الحجري القديم. وكانت الفأس اليدوية الأداة الرئيسة، جُعل لها وجها وحدّان قاطعان، ورأس حاد وقبضة دائرية، وقد وجدت آثاره ضمن ترسبات السرير الأعلى للنهر الكبير الشمالي في مواقع «ست مرخو، الشيخ محمد» في منطقة اللاذقية، بشكل فؤوس حجرية يدوية بدائية، ترافقها أدوات مطروقة من أحد جوانبها ليصبح لها حدّ نسميها القواطع، وهناك أدوات أخرى ثانوية استخدمت في تصنيفها كلها «المطرقة الحجرية القاسية»، تعود إلى حوالي مليون عام. وهي أقدم آثار الإنسان، يعثر عليها خارج القارة الإفريقية، التي تعود آثار الإنسان فيها إلى أكثر من مليوني عام.
وعاشت في الوقت نفسه في حوض العاصي (موقع خطاب مجموعات بشرية أخرى لم تعرف الفأس اليدوية، ولكنها استخدمت أدوات خفيفة صنعتها. وقد ظهرت هذه الأدوات في العالم قبل الأدوات الأشولية. ومن زهاء نصف مليون عام، توضّحت استقلالية الإنسان في سورية، فظهرت حضارات أصيلة تطوّرت بأشكال مختلفة في المناطق الساحلية والداخلية. واستمر إنسان هذا العصر الأشولي الأوسط، معتمداً على الفأس اليدوية بعدما طورها ونوّع أشكالها. وكانت تسود تقاليد حضارية متباينة محلياً، حيث استخدم إنسان حوض العاصي، الفأس اليدوية الطويلة المدبّبة، بينما فضّل سكّان الساحل الفأس البيضوية الشكل والعريضة. وكانت هناك أيضاً مجموعات بشرية لم تصنع الفؤوس، وقد استعاضت عنها بالسواطير والأدوات الأخرى الصغيرة (في الرستن وشنينة).
ومع ذلك فقد شكلت هذه المنطقة وحدة حضارية، نلمس خطوطها الأولى منذ إنسان العصر الأشولي الأوسط، الذي أظهر قدرة على صنع أدوات مختلفة تؤدي وظائف متشابهة، وتوصّل إلى حلول مختلفة ضمن البيئة الجغرافية الواحدة، مما يشير غلى زيادة سيطرته على تلك البيئة.
وفي غرب الطامنة، شمالي حماة، موقع يعتبر من أهم مواقع هذا العصر وأندره في العالم. فقد عثر في السرير النهري المرتفع للعاصي ـ الذي يعود تشكّله إلى العصر المطير الثالث (تشكيلة اللطامنة) ـ على آثار معسكر محفوظ جيداً ضمن طبقة من الرمل والطمي، رسبها النهر، ثم ابتعد. وكان هذا المعسكر قد سكن مدة قصيرة من قبل مجموعة بشرية صغيرة من ملتقطي الثمار البرية (الزعرور واللوز والفستق)، وصيادي الحيوانات الوحشية (الفيل، وحيد القرن، الحصان، الغزال)، عاشت في حوض العاصي منذ حوالي نصف مليون عام، وصنعت أسلحتها الفعالة (فؤوس، سواطير، مكاشط)، وأقامت أكواخها من الحجارة والأغصان واستفادت من النار، التي أفاد الإنسان منها كواسطة دفء وضوء وحماية وطهي.
وازداد عدد سكان سورية منذ زهاء 250000ق.م، وخرج إنسان العصر الأشولي الأعلى من مناطق إقامته الأولى في الساحل وحوض العاصي، بعدما تمكَّن من البناء في العراء، واستخدم النار، وأصبح قادراً على التكيّف في المناطق الجغرافية المختلفة. وبقيت الفأس اليدوية السلاح الأكثر شيوعاً، واستمر تحسين صنعها باستخدام المطرق الملساء من العظم والخشب، وساد في جميع المناطق نوع واحد من الفؤوس بشكل اللوزة، أو القلب ترافقه أدوات أخرى، كالسكاكين والمكاشط والمخارز، تميزت بدقة صنعها، إلى درجة تدلّ على إحساس جمالي أخذ طريقه إلى ثقافة تلك المجتمعات، التي أصبح لها لغة مشتركة لتبادل خبراتها ونقل أفكارها.
لقد وجدت آثار الإنسان الأشولي الأعلى ضمن الطبقات، التي تعود إلى العصر المطير الثالث (تشكيلة أبو جمعة)، وأهم مواقعها موقع القرماشي في وادي العاصي الأوسط، حيث وجدت آثار معسكر تركه سكانه منذ أكثر من 150000 سنة خلب، فيه فؤوس حجرية رائعة، وأدوات أخرى متطوّرة، وبقايا بناء بسيط «كوخ»، أُقيم على ضفة النهر في مناخ أكثر برودة من الآن، سكنته مجموعة بشرية متمرسة في الالتقاط وفي الصيد وفي استخدام النار.
وحصلت بين نهاية «مجتمعات الهومواركتوس» وبداية «مجتمعات النياندرتال» في سورية، تغيرات عرقية وحضارية عاصفة، شكلت السمة الأساسية لهذا العصر الانتقالي. ولم يعد الأشوليون يسيطرون بلا منازع، فقد ظهرت إلى جانبهم أقوام جديدة وعديدة تعايشت في المكان ومع الزمن، وصنعت كل منها أدواتها الخاصة بها. وكانت لها طرقها المميزة في العيش، وأخذ ينمو لديها إحساس أكبر بالارتباط بالأرض، فسكنت أجيالها المتعاقبة في الموقع نفسه آلاف الأعوام، بعدما كانت شديدة الترحال، وأحسن دليل على ذلك ملاجئ وادي سكفتا في يبرود، فقد وجدت في الملجأ الأول آثار تعود لمجموعات كثيرة ومختلفة «خمس وعشرون مجموعة» سكنته تباعاً، وتركت كل منها فيه بقاياها الخاصة، التي تراكمت (سمكها 11.5م) عبر الزمن. وإن طبقاتها الدنيا والوسطى من صنع نوع متطوّر من الهومواركتوس، أما العليا فإنها تعود إلى النياندرتال.
وإن الجديد والهام في ملجأ يبرود الأول، هو الصناعة الصوانية، التي أطلق عليها اسم «اليبرودية»، وتمثل حضارة استمر زهاء 50000عام قبل الانتقال إلى العصر اللاحق، وانتشرت على منطقة واسعة من فلسطين ولبنان والأردن جنوباً، مروراً بيبرود وحتى بادية الشام شمالاً. ولم يعتمد اليبروديون كثيراً على الفأس اليدوية، لأنهم استعاضوا عنها بأداة جديدة وهي «المقحف اليبرودي» المتعدّد الأشكال والمصنّع غالباً من شظية صوانية عريضة وسميكة، وله حدّان عاملان، عليهما تشذيب متدرّج على شكل حراشف، يشكلان في نقطة التقائهما زاوية حادة. وكان المقحف الأداة الأفضل لتحضير الجلود، التي نعتقد بأن إنسان يبرود بدأ يرتديها، ويفرش مساكنه بها بدوافع ليست مناخية فحسب (البرد)، بل ومعنوية وذلك بعدما تطوّر الواقع الاجتماعي للسكان.
وفي الملجأ الرابع في يبرود آثار مختلفة تماماً عما هي عليه آثار الملجأ الأول، حيث لم يعرف سكان الملجأ الرابع المقحف اليبرودي، فقد صنعوا السكاكين المظهرة والأدوات المسنّنة، القريبة إلى ما يسمى عالمياً بالحضارة التاياسية (نسبة إلى موقع تاياس في فرنسا)، واصطادوا الحصان البري ووحيد القرن والوعل والدب والغزال وغيرها من الحيوانات، التي كانت تعيش هنا بجوار بحيرة قديمة، حفظت لنا ضمن ترسباتها بيوضاً وآثار أرجل طيور وحيوانات وزواحف متحجّرة، والأهم من ذلك طبعة كف إنسان من وعن النياندرتال المبكر، وهي الأولى من نوعها في المنطقة.
وتتمثل في حوضة الكوم في البادية، جميع التقاليد الحضارية لهذا العصر الانتقالي. لقد عاشت هنا مجموعات بشرية كثيفة في بيئة غنية بكل مقوّمات الحياة، واستخدمت أسلحة وأدوات مختلفة، بعضها اعتمد على لفأس اليدوية، وآخر فضّل المقحف اليبرودي، وهناك من أبدع أنواعاً من الحراب الطويلة ذات الفعالية العالية في الصيد (الحراب الهملية، نسبة إلى موقع بئر الهمل)، التي تختفي مع الهمّليين، ولا يعاد صنعها إلا بعد زمن طويل جداً، وعلى يد «الإنسان العاقل».
لقد تردّد سكان بادية الكوم في العصر الانتقالي على العددي من الينابيع (بئر الهمّل، أم التلال، أم قبية، الندوية.... وغيرها)، وتركوا بقاياهم، التي بلغت سماكتها عشرات الأمتار، تجمّعت بمرور آلاف الأعوام، وأعطت معلومات موثّقة بتواريخ مطلقة هي الأولى من نوعها في القطر، تساعد على فهم حياة إنسان ما قبل التاريخ من جوانبها وميادينها المختلفة، وقد طبّقت طريقة اليورانيوم/نوريوم، وأعطت تواريخ تراوحت بين 150000-100000 عام ق.م للسويّات الانتقالية بين الحجري القديم الأدنى والأوسط. ويوجد هذا التنوع الحضاري في كل مكان تقريباً. لقد استخدم الساموكيون في الساحل الساطور والفأس، واستخدم الدفاعيون) (نسبة إلى تلول الدفاعي) في وادي العاصي، الفؤوس الحجرية الدائرية الأشكال، بينما اشتهر سكان الفرات بصنع السواطير الصغيرة من حجر الكوارتز.
وشهدت سورية منذ زهاء 100000 عام (العصر الحجري القديم الأوسط) آخر عصر مطير، نجد آثاره في ترسّبات السرير النهري الأول (تشكيلة موقع الشير)، وأصبحت الحضارات السابقة مجرد ذكرى، واكتمل ظهور مجموعة جديدة من البشر، تتوفر عنها معلومات أكمل، هو النياندرتال. لقد كان النياندرتاليون أكثر عدداً من سابقيهم، وهم صيادون ماهرون كأفراد أو كجماعات منظمة، اقنصوا الحيوانات القوية والخطيرة، واعتمدوا على لحومها كغذاء وعلى جلودها كفراش ورداء، وذلك بعدما صنعوا من العظام الإبر والمخارز. واستطاعوا إيقاد النار بطرق مختلفة (كالقدح والحك)، وبنوا المواقد التي حفظت في بعض المواقع (مغارة يبرود، كهف الدوارة، جرف العجلة)، واكتشفوا الألوان ودهنوا بها أجسامهم وأدواتهم، كما عرفوا الفنون البسيط. وكان النياندرتال أول إنسان يدفن موتاه في قبور، ويمارس طقوس العبادة.
وساد الانسجام المتمثِّل بالحضارة الموستيرية (نسبة إلى موقع موستير في فرنسا)، التي غطَّت مناطق واسعة من العالم. وبعدما كانت النواة الملتقطة اعتباطاً، يصنع منها أداة واحدة كبيرة، أصبح لها شكل محدّد (دائري ورقيق) يتيح صنع عدة أدوات صغيرة.
وانقرض النياندرتال فجأة في حوالي 35000ق.م، وظهر الإنسان العاقل (هوموسابيانس) السلف المباشر للإنسان الحالي. وانتقل مسرح النشاط الحضاري إلى أوروبا (فرنسا، اسبانيا) بعدما كان قد تمركز لزمنٍ طويلٍ في إفريقيا وآسيا. لقد صنع الإنسان العاقل أسلحة جديدة مختلفة (حراب، سكاكين، مكاشط، أزاميل، مخارز...) واستخدم الأدوات العظمية والخشبية الدقيقة، وبنى المساكن في العراء، ومارس الفن، فرسم ولوّن ونحت على جدران المغاور، التي سكنها أشكالاً ورموزاً مختلفة، وصنع التماثيل الصغيرة الحيوانية والإنسانية (الربة الأم) وذلك بعدما أدرك دور المرأة في الخصوبة وبقاء الجنس البشري. كما عرف السحر وتقديم الأضاحي، ودفن موتاه بعناية، وزوّدهم بالأسلحة، ودهن أجسادهم بالألوان، ومارس الرقص والموسيقا وكل ما يتعلَّق بحاجاته المادية والروحية المعقّدة.
وبقيت منطقة الشرق العربي المكان الوحيد، الذي شهد لأول مرة ظهور «الإنسان العاقل»، الذي انتقل إلى أوروبا، ثم إلى قارتي أميركا وأوستراليا. وإن التنوع الكبير للحضارات، وتشابه المواقع الباكرة منها (الأروينياسية) مع مواقع أقدم في سورية (يبرود) وفلسطين (مغارة الأميرة) ولبنان (قصر عقيل)، يقود إلى الاعتقاد بترك مجموعات كثيرة من «الإنسان العاقل» مواطنها في الشرق العربي، بسبب حدوث ظروف بيئية صعبة، دفعتها للرحيل إلى أوروبا. ولعل هذه من الأسباب التي تسر مواقع هذه الجماعات في سورية (الملجأ الثاني في يبرود، والطبقات العليا في مغاور جرف العجلة وكهف الدوارة) وفقرها وقلة تنوعها وغياب الآثار العظمية والخشبية.
------------------
مواضيع ذات صلة:
عصور ما قبل التاريخ
العصر الحجري الوسيط (الميزوليت)
العصر الحجري الحديث (النيوليت)
العصر الحجري النحاسي (الكالكوليت) وأطواره في سورية
العصر البرونزي