العصر الحجري الحديث

العصر الحجري الحديث (النيوليت):
اتضحت التحوّلات محلياً، في نهاية الألف التاسع ومطلع الألف الثامن قبل الميلاد (عصر النيوليت ما قبل الفخار-آ)، وأصبح الإنسان منتجاً للطعام، بعدما كان جامعاً. فقد تخلَّى عن الالتقاط والصيّد، وزرع الحبوب (القمح والشعير)، ودجّن الحيوانات كـ(البقر والغنم والماعز)، واضعاً بذلك دعائم نظام اقتصادي إنتاجي جديد، مختلف عن النظام الاقتصادي السابق الاستهلاكي، وذلك بعدما حقّقت له سويته الاجتماعية المتطورة، القدرة على الاستفادة من معطيات بيئته الغنية (حبوب، حيوانات برية، أمطار كافية ومناخ معتدل)، التي أمّنت له مقومات الاستقرار وتشييد القرى الدائمة.
لقد أقام سكان القرى الزراعية الأولى «المريبط، أبو هريرة، بقرص، الرّماد، الغريفة» في بيوت كبيرة مستطيلة أو مربعة، مبنية من الطين والحجر والخشب، وصنعوا أدوات جديدة مرتبطة بالزراعة (كالمناجل والرحى والأجران والبلطات)، أضف إليها الأدوات العظمية والأواني الحجرية (في المريبط وجدت أوان فخارية تعود إلى هذا العصر)، وقد قلّ اعتمادهم على الأسماك والطيور، ولكنهم اصطادوا الحيوانات الكبيرة (كالثور والغزال والحصان)، بعدما ابتكروا للمرة الأولى القوس ورؤوس النبال، كما ظهرت لأول مرة أيضاً الرسوم الجدارية التزيينية (في المريبط)، وصنعت من الطين والحجر، التماثيل الإنسانية الصغيرة التي تجسد «الربة الأم»، وتماثيل الحيوانات (وخاصة الثور المقدس)، ودفن الموتى في بيوت السكن. وكل ذلك يشير إلى ممارسات فنية وروحية باكرة، استمرت زمناً طويلاً في فكر الشعوب اللاحقة.
وفي مطلع الألف السابع قبل الميلاد (النيوليت ما قبل الفخار-ب)، حصلت تحركات واسعة لشعوب المنطقة وقامت اتصالات بعيدة وعلاقات تجارية، هي الأولى من نوعها (حيث استوردت الأحجار النادرة من مناطق الأناضول وزاغروس والهند) ، وتخلّى الإنسان تدريجياً عن مطاردة الحيوانات البرية، وقام بتدجينها بدءاً بالصغير منها، واضعاً أسس المجتمع الرعوي الأول، الذي مازال يسير جنباً إلى جنب مع المجتمع الزراعي حتى الآن. لقد أقام «مجتمع قرى الزراعة والتدجين» في منازل كبيرة أقوى وأكثر تنظيماًً، أرضها وجدرانها مكسوة بالملاط الأبيض. وقد طوّروا أسلحة صيدهم وخاصة رؤوس النبال، وأدواتهم الزراعية، التي صقلوها لأول مرة أيضاً (عصر الحجر المصقول)، كما تعمّقت تقاليدهم الفنية والدينية، وأخذوا يدفنون موتاهم خارج بيوت السكن، وأحاطوا الجماجم بعناية خاصة، حيث فصلت عن الجثث، ودفنت في قبور معزولة.
وترسّخت في نهاية الألف السابع قبل الميلاد، تقاليد الزراعة والتدجين، وخرجت المجتمعات الزراعية الأولى من مراكزها التقليدية في الوديان والسفوح المطيرة، المساعدة على الزراعة البعلية لتمارس الزراعة المروّاة في المناطق الصحراوية «الكوم، بقرص»، والساحلية «رأس شمرا، تبة الحمام». وصنعت الأواني من الحجر الكلسي والحوار بعد تحضيره (الأواني البيضاء)، ممهّدة الطريق لظهور الأواني الفخارية. وبنيت البيوت لأول مرة من اللبن المكيّف على أساس من حجر، وقسمت المنازل إلى غرف مرتبطة بعضها ببعض عبر ممرات، في داخلها موقع وتنّور ومصطبة، وتفصل هذه المنازل شوارع رئيسة وفرعية مستقيمة. وتبلورت معتقدات تعود جذورها إلى العصر السابق، أهمها عبادة الأجداد التي دلّت عليها الجماجم المحنّطة والموضوعة على تماثيل طينية «تل الرماد». وقد انتشرت هذه العقيدة في ذلك العصر من حوض الفرات وحتى فلسطين، كما ظهرت الرسوم الجدارية المتطورة (طيور نعام من بقرص)، والتماثيل الإنسانية والحيوانية الكبيرة والصغيرة من الطين والحجر، والأواني المصقولة النادرة (مرمر)، ذات الاستخدام الخاص، وأدوات الزينة المنوّعة (كالخرز والخواتم والأمشاط والتمائم).
واكتملت في بدء الألف السادس قبل الميلاد الإنجازات الحضارية، لإنسان العصر الحجري الحديث بالتوصّل إلى صنع الأواني الفخارية (النيوليت الفخاري)، كالجرار والقدور والطاسات والصحون، التي استخدمت في تحضير الطعام والشراب وخزنهما. وقد صنع في القسم الغربي من سورية (رأس شمرا، تل الرماد) الفخار المصقول ذو اللون البني القاتم والزخارف البسيطة (خدوش وطبعات)، والفخار الخشن الأقل جودة (مرحلة العميق ـ آ ـ ب)، بينما ساد في المناطق الشرقية (الجزيرة)، الفخار الأسود المصقول، وأصبح للفخار أهمية بالغة في تمييز الحضارات والشعوب، التي اتسعت علاقاتها ومبادلاتها التجارية مع الجوار.
إن إنجازات مجتمعات العصر الحجري الحديث في سورية، أتت نتيجة تطور محلي أصيل، مسرحه المنطقة المسماة «الهلال الخصيب» مركزه سورية وفلسطين، مما يؤكد قدم الوحدة الحضارية لهذه المنطقة، وفي إطارها شهدت سورية الحضارات المتميّزة (في الفرات والساحل وحوض دمشق). اختلفت وتائر تطورها، فدخل بعضها «الجزيرة» مبكراً، منذ نهاية الألف السادس قبل الميلاد (مواكباً بلاد الرافدين في عصر المعادن، بينما تابعت بقية المناطق تقاليد العصر الحجري الحديث حتى نهاية الألف الرابع قبل الميلاد.
ومن منطقة الهلال الخصيب ذي الموقع الجغرافي الهام بين القارات، انطلقت مجتمعات الزراعة والتدجين لتصل إلى جنوب أوروبا في الألف السادس قبل الميلاد، وغلى وسطها في الألف الخامس قبل الميلاد، وإلى غربها في الألف الرابع قبل الميلاد.

------------------
مواضيع ذات صلة:
عصور ما قبل التاريخ
العصر الحجري القديم
العصر الحجري الوسيط (الميزوليت)
العصر الحجري النحاسي (الكالكوليت) وأطواره في سورية
العصر البرونزي

مواضيع ذات صلة: