محاضرة في مركز الوثائق التاريخية للباحث الأمريكي الدكتور تشارلز ولكنز

18 أيار 2010

بعنوان: ابن الحنبلي وضم سورية الشمالية (حلب) إلى النظام العثماني

في إطار نشاطه العلمي والثقافي المتجدد، شهد مركز الوثائق التاريخية التابع للمديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق، محاضرة علمية هامة مساء يوم الإثنين 17 أيار 2010، وذلك ضمن سلسلة محاضرات علمية ونشاطات بحثية يشارك بها عدد من الأساتذة العرب والأجانب.

المحاضرة كانت بعنوان «ابن الحنبلي وضم سورية الشمالية (حلب) إلى النظام العثماني»، وهي للدكتور تشارلز ولكنز الباحث الأمريكي في تاريخ سورية الحديث.

افتتح الأمسية الدكتور عمار السمر – باحث وخبير في مركز الوثائق التاريخية، والمشرف بمشاركة الدكتور غسان عبيد على هذا النشاط – الذي رحب بالحضور، ونوه إلى أن «مركز الوثائق التاريخية قرر منذ بداية هذا العام القيام بنشاطات علمية على مدار السنة وفق برنامج غير محدد مسبقاً»، ذلك أن مواعيد المحاضرات والأبحاث مرتبطة بما يسمح به وقت الأساتذة والباحثين، علماً أن بعض المحاضرات تتعلق بشكل رئيسي بتاريخ سورية الحديث والمعاصر.


الدكتور عمار السمر والدكتور تشارلز ولكنز

ثم أشار الدكتور السمر إلى السيرة الذاتية للدكتور تشارلز ولكنز الذي «يعمل أستاذاً لتاريخ الشرق الأوسط في قسم التاريخ بجامعة ويك فوريست في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 2006، وهو تاريخ حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة هارفرد، كما عمل أستاذاً في جامعة كولورادو، بالإضافة إلى كونه أستاذاً زائراً في جامعة كمبردج في بريطانيا». وأشار الدكتور السمر إلى أن للدكتور ولكنز كتاباً في تاريخ حلب بعنوان «تشكيل التضامن المديني – حلب بين عامي 1640-1700»، بالإضافة إلى العديد من المقالات التي نشرت في الدوريات المختصة، كما أن الدكتور ولكنز حصل على العديد من الجوائز وشارك في الكثير من المؤتمرات عن تاريخ الشرق، وقد حصل على 6 منح لإتمام دراساته وأبحاثه العلمية.



الدكتور عمار السمر

وبين الدكتور السمر أن الدكتور ولكنز يقدم من خلال دراسته لكتاب «درر الحبب في تاريخ حلب» للمؤرخ الحلبي ابن الحنبلي – وهو كتاب تراجم لشخصيات حلبية – قراءة جديدة لتلك الفترة الهامة من تاريخ حلب،وهي الفترة الانتقالية بين سلطة المماليك، وتثبيت دعائم النظام العثماني الجديد.


كتاب ابن الحنبلي وضم حلب إلى النظام العثماني (من منظور تاريخي):
تناولت محاضرة الدكتور ولكنز – والتي ألقيت باللغة العربية – الفترة الانتقالية بين انهيار السلطة المملوكية وتثبيت دعائم السلطة العثمانية في مدينة حلب في القرن السادس عشر الميلادي. ففي العام 1516 م تمكنت الجيوش العثمانية من هزم جيوش المماليك في معركة مرج دابق قرب حلب، وأتبعت هذا الانتصار بانتصار آخر على أبواب القاهرة، فدمرت بذلك نظاماً سياسياً ساد المنطقة منذ العام 1250، وشكلت الإمبراطورية العثمانية القوة الرئيسية في شرق المتوسط طوال خمسة قرون.

وقد شهد ابن الحنبلي – الفقيه والعالم والمؤرخ الحلبي – هذه التحولات الخطيرة في حياة مدينته ودون حوادث زمنه في كتابه «درر الحبب في تاريخ حلب» الذي يعطي صورة عميقة وواسعة في عن تاريخ تلك الفترة.
وقد استخدم الباحثون الكتاب كدليل للحياة الشخصية، ولكنه لم يستخدم أبداً لمعرفة موقف ابن الحنبلي من النظام الجديد، مع أن الكتاب بالمجمل هو نوع من دفتر يوميات يعكس مواقف مؤلفه تجاه الأحداث التي شهدها ومن الحكومة العثمانية الجديدة.


الدكتور تشارلز ولكنز

من هو ابن الحنبلي؟
ولد ابن الحنبلي في السنوات الأخيرة من العهد المملوكي، وهو رضي الدين محمد بن الحنبلي، كان شاباً عند الفتح العثماني لمدينة حلب في عام 1517، وشهد تقريباً نصف القرن الأول من الحكم العثماني حتى وفاته عام 1563. حصرت في أسرة ابن الحنبلي إدارة المذهب الحنبلي في حلب حتى إلغاء المذهب على يد العثمانيين وجعل المذهب الحنفي المذهب الرسمي للدولية. درس ابن الحنبلي – إضافة لمواده الأساسية كالشريعة والفقه وأصول الدين – الرياضيات والبلاغة وعلم الفلك وتعرف إلى المذاهب الصوفية التي كانت سائدة في عصره. وقد ألف أكثر من 60 كتاباً في التاريخ والرياضيات والهندسة والبلاغة والفقه.

كتاب «درر الحبب في تاريخ حلب»:
يجمع الكتاب تراجم أعيان حلب وحكامها انطلاقاً من العهد المملوكي وصولاً إلى العهد العثماني، وتحديداً إلى ما قبل وفاة مؤلفه ابن الحنبلي بفترة وجيزة. والتراجم هو جنس من أجناس علم التاريخ يجمع معلومات عن تاريخ أشخاص بارزين، ونجد في كل ترجمة من كتاب ابن الحنبلي معلومات أساسية وأخباراً وأعمالاً شعرية. إلا أن مفهوم ابن الحنبلي للتراجم كان أوسع من المفهوم التقليدي الذي يبحث عن الحكام والوزراء ورجال البلاط، فقد تضمن كتابه سيرة حياة علماء ومتصوفين ورجال دين، بل وأكثر من ذلك تجاراً وفنانين وأطباء وموسيقيين وشعراء، ومجموعة كبيرة من الناس عرفهم بشكل شخصي.

الفترة الانتقالية بين المماليك والعثمانيين في تاريخ حلب:
لا بد أن ابن الحنبلي – الذي كان لعائلته شهرة كبيرة في ممارسة الفقه الإسلامي، وحافظت على وظيفة القضاء في المذهب الحنبلي إلى وقت إلغاء العمل بهذا المذهب في حلب – كان له مواقف محددة من الكيفية التي كان يجري بها إدارة العدل والقضاء في حلب آنذاك. ولم يطلق أحكاماً صريحة بخصوص المماليك أو العثمانيين فقد تركز نقده على الحكام المحليين بأشخاصهم، وليس على مفهوم الدولة للحكم.

إن أبرز المسائل التي يتناولها ابن الحنبلي في هذا المجال أتت من ثلاثة مبادرات إدارية قامت بها الدولة العثمانية. أولها كانت فرض ضريبة على الزواج وإرسال دخلها للمحاكم الشرعية، وقد سبب هذا رد فعل من قبل العلماء المحليين الذين نظروا للموضوع كتدخل في أمور الشعب، قبل أن يتوصلوا إلى حل وسط تمثل بإبقاء الرسوم مع تقديرها من قبل العلماء. أما المبادرة الثانية فكانت إلغاء وظائف العدول، وهم طائفة حرفية اشتغلت كشهود وكتاب دائمين ملحقين للقضاة في النظام المملوكي، وقد تمتع هؤلاء الشهود المحترفون بمكانة اجتماعية رفيعة وكانوا ذوي امتيازات وحظوة، ويقدم ابن الحنبلي في كتابه العديد من التراجم لهؤلاء الشهود المحترفين، إلا أنه لم يكُ مستاءً تماماً من فكرة إلغاء وظائفهم كونه يعتبر أقرب إلى السلطة التنفيذية من كونهم شهداء محايدين عادلين.

أما البادرة الثالثة والتي تعتبر أكثر أهمية وخطورة من سابقتيها فتمثلت في تركيز السلطات الشرعية والقانونية بيد القاضي ونوابه، وخصوصاً الإشراف على الأوقاف. وأدت هذه القرارات إلى حدوث أزمة سياسية اشتهرت بحادثة قره قاضي (أي القاضي الأصفر) وهو اللقب الذي أطلق على القاضي علاء الدين بن علي بن أحمد الرومي الذي ولي القضاء عشر سنوات بعد الفتح. وقد قام هذا القاضي بتفتيش الأوقاف وضبط المنتمية منها للأمراء والمماليك والعائلات المنسوبة إليهم، ومنع بيع القمح والملح في الأسواق، وقد أدى ذلك إلى استشراء كراهيته في الشارع الحلبي. وفي عام 1527 هاجمه رعاع وقتلوه بعد انتهائه من صلاة الجمعة في الجامع الأموي في حلب، وتم تعريته وجره في الشوارع قبل ارتجاع الجثة. أثار ذلك الدولة العثمانية وكان ردها قوياً فأرسلت وزير دولة رفيع المستوى هو عيسى باشا ليصبح حاكم حلب، وعهد إليه التحقيق في الجريمة، وقد قبض عيسى باشا على العديد من العلماء والوجهاء والتجار وحكم على عشرين شخصاً منهم بالإعدام ونفى قسماً آخر إلى جزر في بحر إيجه، وقد شكل ذلك صدمة كبيرة للمجتمع الحلبي المحلي الذي كان ينشد درجة من الحكم الذاتي، وهو الذي استمتعوا به في عهد المماليك، وكانت هذه الحادثة بداية جديدة للسيطرة وفرض نظام أكثر صرامة من قبل العثمانيين.


جانب من المحاضرة

شخصيات عابرة للأحقاب السياسية:
لم يخلُ كتاب ابن الحنبلي من شخصيات اجتماعية وسياسية استطاعت بقدر من الدهاء والتلون أن تحافظ على مواقعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتمكنها من التمسك بثرواتها وممتلكاتها المتنوعة التي حصلت عليها في عهد المماليك، بل وتثميرها وزيادتها أحياناً. من هؤلاء نجد خاير بك الذي كان قائداً لقوات حلب في عهد المماليك والذي انتقل في اللحظة الحاسمة إلى صفوف العثمانيين، مما دفعهم لترقيته وتعيينه حاكماً لمصر حتى عام 1522. وكذلك نجد واثق الدين أبو الدر الذي ارتقى من شاهدٍ عدلٍ إلى منصب شيخ الشيوخ في حلب، وينسب نجاحه لتملقه الحكام العثمانيين وتزويدهم بمعلومات عن الأسر البارزة وأموالها. وكذلك نجد عبد القادر بن سعيد الذي كان يهودياً ثم أصبح مسلماً ونجح في الارتقاء وتعين بمناصب عدة في المدارس والجوامع إلى أن أصبح مفتي حلب. ونجد أيضاً شخصيات من نوع مغاير مثل عم ابن الحنبلي الذي يعتبر آخر قاضٍ مارس القضاء على المذهب الحنبلي في حلب قبل إغلاقه، وعندها هاجر إلى دمشق ثم القاهرة حيث تم تعيينه نائباً للقاضي الحنبلي فيها حتى وفاته عام 1545.

الدكتور تشارلز ولكنز يلقي محاضرته في مركز الوثائق التاريخية بدمشق

نقاش وأسئلة:
وقد تلت المحاضرة نقاشات هامة، أجاب فيها الدكتور ولكنز عن أسئلة الحضور التي تنوعت بين مسألة انتقال المخطوطات إلى أوروبا، وعملية نقل التجار والحرفيين من حلب إلى طرابزون واسطنبول، وصولاً إلى دراسة الفئات الاجتماعية وعلاقة الريف بالمدينة ووضع الأقليات في حلب آنذاك. وفي سؤال لـ «اكتشف سورية» حول وضع العلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية إبان إعادة البناء التي شرع بها العثمانيون في هيكلة الدولة والسلطة، أجاب الدكتور ولكنز قائلاً: «الحقيقة ليس لدينا سجلات قبل القرن السادس عشر لنجيب بدقة على هذا السؤال، ولكن من الواضح أن العثمانيين قد رتبوا القضاء وفق نظام هرمي مركزي، وبالتالي فإن قدرة القاضي على التصرف كما يريد كانت ضئيلة وقوة التنفيذ لديه كانت محدودة، وعلى الأغلب فقد كان يعتمد على الوالي في إنفاذ قراراته وما وصلنا من سجلات المحاكم الشرعية يشير إلى ذلك، مع الانتباه إلى زيادة مسؤوليات القاضي في ظل السلطة العثمانية الجديدة».

وفي نهاية الأمسية شكر الدكتور عمار السمر الأستاذ المحاضر الدكتور تشارلز ولكنز على محاضرته القيمة، والحضور على متابعتهم لنشاطات المركز البحثية، على أمل استمرار هذا النشاط بمحاضرات أخرى تغطي جوانب متعددة من تاريخ سورية الحديث والمعاصر.


محمد رفيق خضور - دمشق
تصوير: عبد الله رضا

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق