المنتدى الاجتماعي وجمعية صدى الموسيقية

محاضرات عن التذوق الموسيقي عبر المعرفة

السيمفوني ذروة تطور الأعمال الموسيقية التجريدية، ارتقاء وتطور في كتابة الموسيقى، والسؤال البديهي هنا لماذا تطورت الموسيقا في أوربا الغربية تحديداً؟ ولماذا لم تتطور الموسيقا الشرقية إلى مستوى الموسيقا الأوربية من حيث التدوين وصناعة الآلات والاحتراف؟ بناء عليه، ألا يتطلب الاستماع إلى هذا النوع من الأعمال الفنية وتذوقه ثقافة موسيقية سمعية ووعياً في أصول كتاباتها وآلاتها؟
تلك تساؤلات تحاول الإجابة عنها سلسلة التذوق الموسيقي عبر المعرفة التي يقيمها المنتدى الاجتماعي بالتعاون مع جمعية صدى الموسيقية، وجاءت المحاضرة الثالثة التي ألقاها مكسيم عبد اللطيف أستاذ المعهد العالي للموسيقى وعازف آلة البيانو، تحت عنوان «كيف نستمع للسيمفوني» في الثالث من أيار 2008.
يقول المحاضر مكسيم «كان المفروض أن يكون العنوان كيف نستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية ولكنني فضلت عنوان السيمفوني، كجزء يدل على الكل في حالتنا هذه، ومن ناحية ثانية لتجنب الإرباك الذي تُسببه كلمة موسيقى كلاسيكية التي يمكن أن تدل على معنيين اثنين:فالكلاسيكية كلمة لاتينية تعني المثال الأعلى والنمط الذي يحتذى به، ومن جانب آخر يمكن أن تدل على الموسيقا النموذجية لأي ثقافة ولأي شعب، فمن خلال الزمن و القناعة العامة تصنـِّف الشعوبُ أعمالها الفنية على أنها كلاسيكية عندما يكون جمالها وروعتها صالحاً لكل الأزمنة، وبالتالي الموسيقا الكلاسيكية الأوربية يمكن أن تصف مؤلفات موزارت 1756-1791، وباخ 1685-1750، وشستاكوفيتش 1906-1975، بينما الموسيقا الكلاسيكية الصينية هي الموسيقا التي سادت في الصين قبل تأثرها بالموسيقى الأوربية، بالمقابل لدينا ما يسمى بموسيقى العصر الكلاسيكي، وهو نمط من الموسيقى وأسلوب التأليف الذي انتشر في أوربا بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر».
يتابع مكسيم: «تعني الموسيقى الكلاسيكية فيما يخص مجتمعنا العربي الموسيقا الأوربية الجادة أو كما يسميها البعض "الموسيقا الفنية" التي تتميز عن الأنواع الأخرى بمضمونها الجدّي ودقة الصنع وزخمها الفني، ما جعل العامة و الناس إجمالاً يقولون عنها أنها موسيقى مستوردة لا تناسب الأذن الشرقية وأنها عقلانية أكثر من اللازم، وهنا أقول إن العرب عندما ترجموا المسرحيات الإغريقية لم يستسيغوها ولم يحاولوا فهمها، وجدوها أمراً لا يستحق حتى البحث فيه، مواضيع أسطورية وآلهة وثنية ولذلك وبكل سهولة قرروا أن المسرح اليوناني هو إما كوميديا وهي الهجاء أو التراجيديا وهي الرثاء، لكننا الآن نعرف ما هو المسرح و نشاهده ونتأثر به ونفتخر ولم يعد شيئاً بعيداً أو مستغرباً أو بدعة».
يضيف مكسيم: «إن المتعة التي ينالها المرء من الاستماع إلى الموسيقا الكلاسيكية متعة من نوع خاص، تحتاج إلى جهد ذهني وتركيز ثم يأتي التفاعل الذي يميزه القلق وعدم الاستقرار، وكلما تقدمت إلى الأمام وتعمقت في زاوية من زوايا هذا العمل كلما انفتحت أمامك متعة أخرى أجمل وأعمق، لذلك تعتبر أعمال باخ 1685-1750 كلاسيكية، فعندما كتب أعماله كانت تسحر لب الناس "الذواقين" من حوله، ولا تزال حتى الآن تشع جمالاً، للسبب ذاته تعتبر مسرحية أوديب عملاً كلاسيكياً رغم أن يوربيدس كتبها في القرن الرابع قبل الميلاد! لأنها لا تزال تنبض بالحياة و الجمال».
قدم المحاضر مكسيم لمحة تاريخية وجدها مهمة للغاية وفيها أشار إلى أن الموسيقى في أوربا اكتسبت أهميتها من خلال عوامل وظروف عدة، اجتمعت مع بعضها مقارنة مع بلدان آسيا وأوربا الشرقية، فالموسيقى التي أنتجتها أوربا الغربية في العصور الوسطى مختلفة تماماً، نتيجة المزاج وخصوصية التركيبة النفسية للشعب الأوربي، وعاداته وتقاليده، والأشياء التي يحبها، واللغات التي يتحدث بها، كل ذلك لعب دوراً مهماً وأدى إلى تشكل ما نسميه «المثل الأعلى للموسيقى والموسيقى الأجمل»، التي كانت أكثر قرباً من التراث الإغريقي مما جعلها قادرة أكثر من غيرها على التأثر بالتراث اليوناني والروماني الغنيين والاستفادة منهما، فقد وصلت الموسيقا مع اليونان إلى مرحلة متطورة ومهمة «أخلاقياً وعلمياً» فكانت إحدى العلوم التي يجب أن يحوز عليها المواطن اليوناني، واكتشف فيثاغوس عام 550ق.م القوانين الموسيقية التي أوصلت إلى علم الهارموني وانسجام الأصوات وعلم انتشار الصوت (الأكوستيك).
ومن جهة ثانية، إضافة إلى استعداد الشعب واللغة والذائقة الفنية كان هناك تغير اقتصادي واجتماعي لتلك البلاد، فأوربا الغربية كانت تعيش حالة سلم، نسبياً، واستقرار بشري، وهي التي قامت على أنقاض الإمبرطورية الرومانية التي اجتاحتها البرابرة في سنواتها الأخيرة، وبالتالي فإن الشعوب الأوربية ليست أكثر من مزيج لهذه القبائل والشعوب، هذا التنوع أفاد الثقافة الأوروبية.
على الرغم من معارضة الكنيسة الكاثوليكية للموسيقى بكل أشكالها إلا أنها استسلمت في نهاية الأمر إلى واقع تأثير الموسيقى الكبير على المصلين في الكنيسة، ورضخت لمطالبة المؤمنين والرهبان بها.
يعتبر تاريخ 600 ميلادي مِفصلاً تاريخياً في الموسيقى حيث استلم البابوية غريغوري الكبير الذي كان مهتماً بأمور الموسيقى وتدوينها وتصنيفها، والموسيقى الغريغورية تُنسب إليه، في هذه الفترة أيضاً تطور علم تدوين الموسيقى واختُرع نظام تنويطٍ اسمه النيومس مما أعطى لأول مرة دقة معقولة لمسافات وأزمنة النوط المكتوبة. في عام 800م نجد بداية المؤلفات التي تحوي قطعاً بوليفونية -البوليفوني أسلوب كتابة تتراكب فيه عدة ألحان في وقت واحد- تغني لحنين متوازيين في وقت واحد. وفي عام 1000م بدأ الموسيقيون يكتبون القطع بصوتين على طريقة البوليفوني.
في عام 1597م ظهرت أول أوبرا في التاريخ كتبها جاكوب بيري واسمها «دفني»، وكان ظهور فن الأوبرا بالأساس محاولة لإعادة إحياء المسرح اليوناني الذي يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد إذ كانت المسرحيات في زمن الإغريق تقدَّم بمرافقة موسيقية.
في عصر النهضة تطور الفن في أوربا كلها ومن جميع النواحي، ووصلت الأعمال الفنية في الرسم والعمارة والنحت إلى قمم نكاد لا نطالها الآن، لكن نهضة الموسيقا تأخرت قليلاً، لكون النهضة الموسيقية كانت تصيب أوربا على نحو موجات تتركز كل مرة في بلد أو آخر، ففي القرن الخامس عشر كانت تسيطر المدرسة الفلامنكية في التأليف الموسيقي بينما إيطاليا تراوح مكانها، وكان عليها أن تنتظر إلى القرن القادم كي تصل إليها الموسيقا الفلامنكية وتتطور، بالمقابل كانت إيطاليا تشهد نهضة «المادريغال»، كان على ثورة الموسيقا الآلية الكبيرة أن تنتظر حتى القرن السابع عشر كريستوفوري مخترعَ البيانو، وشيئاً فشيئاً يُستبدل به الكلافيسان (آلة موسيقية مفاتيحها تشبه البيانو وصوتها نقري) ووصلت آلة الكمان إلى ذروة تطورها على يد صناع عباقرة مثل أماتي، وستراديفاري، وغوارنيري، لم يستطع البشر أن ينتجوا آلات تعادل دقة صنعهم حتى الآن!
في فترة الباروك 1600-1750 كان مصطلح السيمفوني يشير إلى القطع الآلية التي تعزفها المجموعة من دون صوت بشري، أحد أسلاف السيمفوني هو الأوفرتور أي الافتتاحية وهي مقدمة موسيقية تسبق الأوبرا ولها مؤلف موسيقي مستقل، التي نشأت في إيطاليا التي كانت مولعة بالأوبرا في نهاية القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر، وأحد رواد المؤلفين الإيطاليين للأوبرا كان أليساندرو سكارلاتي 1660-1725، في أوبراته بدأ بكتابة الأوفرتور، وكان سكارلاتي يكتب هذه الموسيقى بالترتيب التالي: سريع – بطيء - سريع، وصار هذا النوع من الافتتاحيات يُعرف بالأوفرتور الإيطالي، ومنه استقى مؤلفون ترتيب الحركات، وحتى ذلك الوقت كان المؤلفون يشيرون إلى الموسيقى الآلية التي يكتبونها بأسماء السيمفوني، وأوفرتور، وكونشرتو، وسويت وغيرها.
بدأ المؤلفون يكتبون للقطع الآلية في تلك الفترة مثل فيفالدي وكوريللي والبينوني وبدأت تظهر في الحفلات أوفرتورات الأوبرات وتقدم على نحو مستقل، وشيئاً فشيئاً بدأت السيمفوني بالتشكل ومعها قوالب أخرى كالسوناتا والرباعي الوتري والكونشرتو، حتى أتت الفترة الكلاسيكية بين عامي 1750 و1820، وارتبط بهذه الفترة من الزمن أسماء مثل هايدن، وموزارت وبيتهوفن وكانت السيمفوني قد وصلت على يد هايدن إلى شكلها النموذجي، بعد أن تطورت على يد مؤلفين كبار من قبل مثل كارل فيليب إيمانويل باخ، ويوهان كريستيان باخ، وشتاميتس، وسامارتيني.
يذكر أن سلسلة التذوق الموسيقي عبر المعرفة نشاط شهري دوري يصادف يوم السبت الأول من كل شهر.

رياض أحمد

اكتشف سورية

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق