أحمد الخوص المكافح والرحيل الصامت..

12 آذار 2013

أغنى المكتبة فبخلت عليه بدمعة أو رثاء يستحقه بعد غربة طويلة

قبل عقدين من الزمن التقيته في مكتب أستاذنا مدحة عكاش في مقره القديم، بساطة مطلقة، عفوية لا مثيل لها، وأب قلّ أن نجده، كان يومها قد أصدر كتابه (الغلاييني نحوي العصر) وهو من أفضل دراساته، ومن أفضل ما كتب عن علامة النحو الشيخ مصطفى الغلاييني صاحب (جامع الدروس العربية)..

كان ذلك اللقاء هو الأول مع الأستاذ المكافح أحمد الخوص، ذلك الرجل الذي يفاخر بتعلمه بطريقة حرة، وبتشجيع من أساتذته، وأولهم مدحة عكاش لينتقل من الحياة العادية، وأعمال المياومة إلى العلم والدراسة، فتابع بنشاط واندفاع حتى حاز الإجازة في اللغة العربية، ولكن طموحه الذي لم يكن يعرف حدوداً دفعه إلى التصنيف والتأليف، وكان صاحب بصمة خاصة، سواء وافقناه أو خالفناه، وبقي حتى أخريات أيامه يشعر الغصة والظلم، وهو على حق فيما كان يشعر به من الأساتذة المتخصصين الذين ظلموه وظلموا جهوده ومصنفاته، ومهما حصل الخوص في حياته، فإنه عاش كفافاً، ومات صامتاً دون أن يودع حتى أولئك الذين أحبوه وأحبهم!! لقد أصبحت الحياة ثقيلة عليه، وتكاليفها أكثر من أن تحتمل، قبل أسابيع حادثني وكنت في اجتماع، أخبرني بأنه مريض، ويودّ زيارة الجريدة.. لم يأت في الموعد المحدد، لم أفتقده، حين غادر نهائياً أخر خبر وداعه عن أحبابه، وسارت جنازته في الزحام تبحث عن دمعة عزيزة أو رثاء يستحقه! كلنا ظلمناه في حياته، وقصرنا بحقه في الرحيل، فطوبى للغرباء، يا أحمد الخوص عشت غريباً ورحلت غريباً، وكنت تدرك غربتك، ونحن نحيا غرباء، وكل ظننا أننا في غمرة الأنس والبهجة، والفرق كبير بين الحقيقة والوهم.

بدأت حكاية الخوص رحمه الله في التصنيف مع كتابه (قصة الإعراب)، والذي كان يقدم من إذاعة دمشق وبصوت رياض نحاس وكوكبة من الفنانين المخضرمين، ولأن الخوص لا يريد أن يقدم دروساً جافة في اللغة العربية فقد ارتأى أن تكون الدروس حوارية عن طريق الأسئلة والإجابات بين الطلبة والأستاذ، فبدل أن يقدم الأمثلة والقاعدة اعتمد التفاعلية بين الأستاذ والطالب، وقد وجدت هذه الطريقة استجابة جيدة ما دفعه إلى اختياره أسلوباً للتصنيف في القواعد والنحو والإعراب، فجاء كتابه الكبير قصة الإعراب في أجزاء عديدة لم يترك جزئية من القواعد إلا جاء بها وعليها، وبالطريقة الحوارية التفاعلية.. راقت هذه الطريقة لكثيرين، وكثيرون من جانب آخر لم ترق لهم، وخاصة من المتخصصين، الذين تناولوا هذه الكتب، وتصيدوا عثرات المؤلف، ومن الطبيعي أن تحفل المصنفات بالمآخذ، ولكنني شهدت تجنياً على الراحل الخوص من عدد ممن قرؤوا هذه الكتب وأفادوا منها! وكنت أتمنى عليهم أن يكتبوا هذه الآراء بدل المهاجمة والانتقاص لمجرد الانتقاص.. ولكن الخوص لم يكترث، وتابع تصنيف قصته، وطبعها مرات عديدة، وكان في المعارض والمناسبات يأخذ ركناً بين الأجنحة ليوزع هذه الكتب.

من القصة إلى القصص
حين وجد الخوص قبولاً من الطلبة والمتعلمين لكتابه قصة الإعراب، تتالت قصصه وبالأسلوب نفسه، فكانت قصة الإنشاء، وقصة البلاغة، وقصة البيان، وحاول في كل هذه الكتب أن يجمع القواعد والمعلومات ويقدمها بأسلوب سهل مبسط هو أقرب ما يكون إلى الطلبة والشداة، وأزعم أن عدداً لا بأس به من المتعلمين أفادوا في مراحل متعددة من هذه المؤلفات، وخاصة البلاغة والبيان، لبعدنا عن مصادر هذه المواد الأصيلة، وحاجتنا الماسة لها في الكتابة والدراسة، وبعض هذه الكتب ساعدت المدرسين في مراحل أولى من إتقان المادة وتقديمها للطلبة، وإن بخروج عن طريقة الحواريات التي جاءت بها القصص، ولا شك في أن هذه الكتب أسعفت الكثيرين في الوصول إلى المعلومة، وإن كان بعضهم استفاد منها، وأنكر أنه استفاد، بل انبرى لمهاجمتها، والنيل من شخص المؤلف، وبعبارات مزاجية دالة على الضغينة والحقد، أستثني من ذلك أساتذتنا الكبار الذين يحملون طرائق خاصة في التدريس، وفي تناول المواد النحوية واللغوية، ويسعون إلى مزيد من التعميق لا التسهيل.. وأذكر أن بعض هؤلاء الكبار جامل الأستاذ الخوص، وطيّب خاطره، وامتدح صبره وعمله الدؤوب، واحتفظ بنقده لذاته، وفي هذا خلق الكبار وطبعهم، وقد سمعت من جليل منهم: إن ما قدمه الخوص قد لا أوافق أسلوبه، لكن لا شيء يضر فيه، ولم يخرج عن أصول النحو، ولم يسعَ إلى التسهيل المخلّ، أما المآخذ والأغلاط، فلا ينجو منها أساطين التصنيف.. إضافة إلى المعلومات التي تخدم المادة كان الأستاذ الخوص متذوقاً يسعى لرفع ذائقة الطالب، فتراه يختار دوماً النصوص الشعرية والنثرية ذات القيمة الإيجابية، والتي تنحو منحى تربوياً أصيلاً، يزرع في الطالب الأخلاق الحميدة، والمكارم التي عزّ وجودها في الكتب المصنفة حديثاً.

قصص للأطفال
لمس الخوص بعد تجربة كتبه التي حملت عنوان (قصة..) الفائدة التي يجنيها الشداة والطلبة في المرحلتين الإعدادية والثانوية، واستقرأ المكتبة اللغوية العربية للأطفال، وهذا ليس استنتاجاً، وإنما من خلال معرفتي به، وأحاديثي معه، فوجد أن شريحة الأطفال غير مستهدفة بالتعليم، بل إنها مهملة نوعاً ما في أدب الطفل، الذي إن وجد، فإنه غير مرغب، وكذلك وجد أن الحل السليم لتجاوز معضلة النحو وتعلمه يجب أن يبدأ من السنوات الأولى للتعليم، فعمد إلى التوجه إلى الأطفال بالتوازي مع مشروعه للكبار، فاستخلص من قصصه: قصة الإعراب للأطفال، وقصة الإملاء للأطفال وهكذا، ولم يعمد إلى تقسيم قصة الإعراب المعروفة، وإنما لجأ إلى أسلوب سهل يناسب الأطفال، فاختار من قصته ما يحتاجه الطفل من معلومات لغوية ونحوية، وعمد إلى التلوين والتشويق، كما في كتب الأطفال عالية المستوى، فكانت الرسوم الملونة التوضيحية، وجاءت الكتب ملونة الحروف، دون أن يعبأ بما يجره ذلك عليه من تكاليف عالية، استعان عليها ببعض الفضلاء الذين ساندوا مشروعه، ابتداء ممن شاركه في صنع الكتاب فنياً، وانتهاء بمن حمل عبء الطباعة أو الجزء الأكبر منه.. وللحقيقة فإن قصص الإعراب وأخواتها للأطفال يمكن أن تكون مقررة ومساعدة في مراحل الرياض والمرحلة الابتدائية، لما فيها من سهولة في المعلومة، وتشويق في الأسلوب، وأصالة في المعلومة التي لم تخرج عن القواعد الأساسية للنحو العربي، وحتى أيامه الأخيرة كان الخوص يشكو من عدم الاستجابة لهذه الكتب من المؤسسات العلمية التي أشاحت الوجه عن تجربة مهمة، ولم تعمل على الإفادة منها وتطويرها.

كتب الوفاء
لأحمد الخوص كتب عدة عن الرجالات وجهودهم، فقد كتب عن الشيخ مصطفى الغلاييني، وأعد كتاباً بسيطاً عن نزار قباني مع رحيله، وكتب لأستاذه مدحة عكاش كتاباً ينضح بالعرفان والوفاء، وبقي الخوص مع أستاذه وفياً ومعترفاً حتى وفاته، وهذه صفات قلما نجدها لدى الأدباء في زماننا، وجمع في هذه الكتب دراسات ومقالات وشهادات يمكن أن تضيع في ثنايا الأوراق لولا الجهد الذي قام به الخوص تجاه الأعلام بلفتة وفاء نادرة، وجلّ هذه الكتب تنتفي فيها المنفعة الشخصية، فالغلاييني انتهى منذ زمن، ونزار يكتب عنه الكثيرون، ومدحة عكاش كان قد دخل مرحلة الغياب، لكن الخوص قدّم الشكر لصاحب (جامع الدروس العربية) واعترف بفضل نزار في الأدب والانتماء لدمشق والعشق، وقدّم كذلك الشكر للأستاذ الذي رعاه وساعده في التعلم، ولم يشأ أن يغادر الأستاذ دون أن يكحل عينيه برؤية الوفاء، وهذا مما يسهم بدوام المعروف بين الناس.

وأخيراً
رحل أحمد الخوص الذي نزل مع ندف الثلج من الزبداني إلى دمشق، ليقضي حياته متعلماً وباحثاً، ومحاولاً تأكيد حضوره، معلناً حبه للغته وأمته ووطنه، رحل بعد أن جرّب من الحياة كل شيء إلا المتعة والفرح، اللهم إلا إذا استثنينا لحظة ولادة كتاب من كتبه، أو ظهور مقالة له في صحيفة من الصحف.. لم يكن الفرح من مهن الأستاذ الخوص في حياته، أعطى كل شيء في حياته، وساعده على أداء مهمته السيدة هناء برهاني التي صار اسمها رفيق اسمه في مؤلفاته الأخيرة.. رحل مخلفاً تراثاً- إن اتفقنا معه أو اختلفنا- غنياً يستحق الدراسة والتكريم، فهل ننصف أحمد الخوص الحرف والقلم بعد أن ضاع إنساناً؟! كان في حياته متعباً، يحمل على كتفيه ما ينوء تحته، فهل نخفف العبء عنه؟


إسماعيل مروة

نقلاً عن صحيفة «الوطن» السورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق