فضاء فاتح المدرس

أوراق فاتح... الرابحة

فضاء فاتح المدرس

كل ما كتب، أو قيل -أو ما كان يمكن أن يكتب، أو يقال- يؤكد أن فاتح المدرس قد بقي، لفترة تناهز نصف القرن، واحداً من أكثر المبدعين في وطننا حضوراً، وإشعاعاً، وإثارة للنقاش في حياتنا الثقافية. وقد تجاوز بريق هذا النجم الحلبي حدود الوطن الصغير ... فالكبير... فبعضاً من العالم!

منذ خمسينات هذا القرن بدأت شخصية فاتح المدرس الفنية الفكرية تتفتح، مدللة على خصوصية أثارت الحوار بشخصه... بتصرفاته... بآرائه وأفكاره الطليعية.. وبعطائه المتميز... المتين أساساً...

على تشكل، ونضوج، وغنى شخصية فاتح المدرس، لم تكن وليدة الصدفة أو الحظ... بل جاءت كثمرة من ثمار معطيات عديدة... أكثرها قيمة وأهمية ما بذله من جد وجهد في بناء هذا الكيان الفني... الثقافي الذاتي. فبالإضافة إلى بنيته النفسية الخاصة وإلى موهبته المتميزة التي وُهبهما، كما قد وهب، أيضاً، ذهناً متوقداً، وذكاء نافذاً، أغناهما بالتثقيف وبالممارسة والبحث وحدس رفيعين!

على أن فاتح المدرس، كان يدرك تماماً -وبعمق وذكاء- الأوراق الرابحة أو التي يمكن أن تكون رابحة، التي يملكها، أو التي يجب أن يملكها، وقد وضع ذلك بوضوح نصب عينيه. كان يدركها -ليس من منطلق من يدخل في رهان مع الآخر، لا... بل من منطلق الرهان مع الذات... أي أن يتجاوز ذاته... باستمرار وبتصاعد.. وأن يغتني فكراً وتجربة وأداء وبالتالي أن يعزز موقعه- بقناعة- أمام نفسه ومن ثم في محيطه... وأن يتجاوز ذلك...

كان يعرف قيمة ما لديه، وما لديه لم يكن يقتصر على وجود الموهبة وهي عطاء الطبيعة -تمنحه أحياناً باعتباطية- على التسلح بالدراسة الأكاديمية –فقط- وقد توفرت، وتتوفر لنسبة كثيرة من أصحاب المواهب -المتميزة أو الوضيعة- فليس كل من درس في روما أصبح فناناً، ولا على انتماء فاتح لحقبة زمنية، كانت ساحة الثقافة في الوطن -الذي يولد... ثم المولود حديثاً بعد الاستقلال- بحاجة إلى كل الطاقات أن تبني بها نفسها، وما كان أندر تلك الطاقات في الفنون التشكيلية، فرواد الفن ما تجاوزوا -عدداً- أصابع اليدين.

ولا على الآفاق الجديدة التي ظهرت عند تأسيس كلية الفنون الجميلة والبحث عن كوادر للتدريس فيها، في مطلع الستينات وبداية الالتفات نحو الفنون التشكيلية كمعرفة علمية، وقد انفتحت هذه الآفاق أيضاً لكل من عاصرها من جيل التشكيليين!

إنما أوراق فاتح الرابحة انطلقت من ثقته بموهبته وبتميزها، ومن تطلعه نحو الأشمل والأعمق... والأهم نحو المستقبل واعتماده البحث والتجريب المتواصل والتجديد... ثم على أهم ما في التجربة الإبداعية وهو... الخصوصية والابتكار «حصانة الفنان الوحيدة، هي عدم استعارة مادته الفنية من الآخرين، فساحة الفن التشكيلي كانت بحاجة إلى الحداثة إلى من يضخ فيها روح العصر، وبذكاء فاتح وعمق تقديره وتقييمه للواقع... ولذاته... ولإمكانياته وتوجيهها الجهة التي يجب لم يلتفت إلى الذوق العام يجاريه بمحاباة وتملق، كما فعل البعض -فسقطت تجاربهم في النمطية والابتذال- بل بذكاء كبير، لم يهمل الذوق، وإنما حافظ على هذا الخيط الوهمي «شعرة معاوية» واستطاع بإصراره وباستمرارية تجربته وحفاظه على الملامح الأساسية في أسلوبه وتطويره لمفرداته ولأدوات تعبيره، أن يقنع الآخر /المتلقي/ بقيمة وبأهمية فنه. مع أنه كان يشير في أكثر من مناسبة أنه قدم في ذلك بعض التنازلات وكان يقصد أنه لم يحقق حتى النهاية ما كان يحب في معزل عن المتلقي، حيث أبقى على تلك الصلة من خلال الحرص على تضمين أعماله مفردات حافظ على اتصالها الشكلي الرمزي مع الواقع، وكانت هذه الأشكال إشارات بصرية -كما كان يصفها- تذكر بمدلولات أدبية هي مختارة بثقافة واسعة... وبعناية... من ملامح هذه الأرض ومن إرثها... وقد أضحت علامات مميزة لأسلوب فاتح.

أما أول وأهم أوراق فاتح الرابحة فكانت في فهمه وإدراكه ورؤيته الأعمق لقيمة وكنه الفن حيث كان يعتبره فكراً، وليس حرفة جمالية -يجيد أداءها من أتقن أسرار صناعتها- كان يؤكد دائماً أن «الفن فكرة» والفكر ليس صناعة أو مهارة تتقن، إنما هو ثمرة تضافر معطيات وجهود، أساسها الذهن المنفتح الطموح الباحث والجهد الجاد الموجه بذكاء ودراية وقد هيأ فاتح نفسه لتجسيد رؤيته «كفنان مفكر» من خلال التثقيف العميق الواسع الشامل، ليس في مجال الفنون التشكيلية بكل ما يرتبط بها من معرفة تاريخية وفلسفية وتقنية ومن إبداع ومبدعين وحسب بل في مجالات المعرفة الأخرى الفلسفة التاريخ، علم الاجتماع، علم النفس، علم الجمال وحتى الأفكار السياسية، وبقيت مجالات الفنون الأخرى الأدب، الشعر، الموسيقى، هي الأهم وبذلك أضحى قادراً أن يحقق معادلة «الفنان المفكر» فقد كان يدرك بعمق ما كان يفعل، وما يضمن أعماله من رؤى ومشاعر ومفردات ورموز وبنيان فني وخصوصية /في لوحاته أو في كتاباته/ وكان فيها يبرز مفكراً وفناناً /فيلسوفاً متصوفاً، ومعلماً أكاديمياً وباحثاً شكلانياً محدثاً/ أديباً وشاعراً، والأهم مصوراً يرسم الأشخاص وبيئتها بثقافة ومهارة مثيرة.

رسم... وكتب... وعزف... كما تحدث –دائماً- بثقافة عالية، كحكيم يرى الأمور ببصيرة تجاوزت المرئي نحو الأعمق نحو الجوهري.
أما أكثر أوراق فاتح الرابحة إثارة فهي حرية التفكير والرأي والأداء والتعبير فقد أصر فاتح أن يبقى منفتحاً على كل ما هو جدير في كل المذاهب والأفكار والمفاهيم الفنية والروحية والاجتماعية وعلى مختلف الإيديولوجيات ومع رغبته في أن يصبح واحداً في تنظيم إلا أن حريته المقدسة وتفرده حالا دون انخراطه بشكل مقبول لدى أي من هذه التنظيمات فكان يعبر بحرية وبجرأة ذكية ولبقة عن قناعاته التي صاغها -من كل ما أقنعه وما أثار إعجابه- في بوتقة رؤيته الخاصة المصبوغة بصبغة الفنان المثالي الحالم الحر أبداً.

ومن أوراق فاتح الرابحة أنه كان مشاكساً... نبيلاً بريئاً ولاذعاً... لم يكن حراً لذاته، فقط، بل كانت حريته فاعلة ومقدامة... لم تكن مهادنة إذ كان يدافع بحرارة وبجسارة عن وجهات نظره ورؤاه ويبقى هدفه دائماً نبيلاً. وإلى أوراق فاتح الرابحة تضاف -نشأته الدرامية- وعلاقته المميزة مع والدته ذاك الحب الغامر والمتبادل، صبغ حياة وشخص فاتح بعاطفة إنسانية طاغية انعكست في حرارة انفعالاته وتعبيره وفي عمق اتصاله وحبه لكل ما يذكره بأمه أو ما يرمز للأم وانتماء وتوحد، بينما أبرزت نشأة فاتح لديه الحس الإنساني الرفيع برفض الظلم ومعاناة الفرد، الفرد الإنساني كائناً من كان، لذا انحاز فاتح في كل إبداعه إلى جانب المستضعفين والفقراء!

حتى آخر لحظة... حافظ فاتح المدرس على أوراقه الرابحة... وبقي يتمتع بفكر وبثقافة ورؤية متكاملة نافذة وحرية تعبير صريحة وجريئة وبحس من المسؤولية تجاه الحياة والوطن وحماس نادر لتصحيح العالم... وفي كونه فناناً ومفكراً لامعاً... ستبقى أعمال فاتح تفسر بأعمق وأشكل مما هي عليه في يومنا وستكتشف الأجيال القادمة كم من الرموز والإشارات والإيحاءات العميقة قد ضمنها في أعماله ليؤكد بأنه واحد من أهم مبدعين النصف الثاني من القرن العشرين في بلدنا وبأنه سيبقى لأجيال مثاراً للحوار والنقاش والتقدير.


مجيد جمول