فضاء فاتح المدرس

رفض الذهاب في حداثته أبعد من التقشف في التصور والأداء

فضاء فاتح المدرس

في آخر لقاءاتنا، ولم يكن مبنياً على موعد، وإنما هكذا بين بابين، كان فاتح المدرس الذي خسرته الفنون العربية نهار أول من أمس، أي بعد ظهر الاثنين 28حزيران 1999، أشبه بالحال الشفافة التي تختزن طراوة الزمن، وكأننا أمامه في حضور الوجه السري للأشياء، ظلال وأطياف معقودة على حكاياتها، ولا تزن أكثر من صداها، وتكاد تعبر كما الصور في الذاكرة، وناس وأحداث ومدن تتراكم لمجرد مرور فاتح المدرّس في هذا اليوم، في هذا المكان، باريس، دمشق، بيروت، في بيروت خاصة، وكان يبدو دوماً بيروتياً أكثر من العديد منا، مائي وهوائي وملون وكأنه يحط في خفة طيارة على الأشكال. وكأنه يوحي وبعدئذ يدل. ويصل دوماً إلى قول ما يريد من دون ثقل في المفردات وتثاقل في الجمل. وفيه خفر يبعد عنه طنين البلاغة. وفيه بساطة تشده إلى سكون يشي بشاعر يغذيه صمت على إيماء. وفيه حيوية مبللة بعرق التجارب التي اختلت دوماً دوران الصور في مخيلته، بصورة كأنها ذاتها، وأن تزين بألف صورة وصورة.

وأينما كان اللقاء معه كأنه هو صاحب المكان. وفي عينه نكهة المدى. وفي يده معاني الخبرات. ولا يقع في البراعات، ولكنه يختصر الإيقاع كمن يشعر، رغم المعارف المتراكمة، بصدارة التقشف، الباب الفعلي لتخصيب الأشكال في أصولها. ومصور برع في رفع الامحاء إلى رتبة التعبير الملآن. فاتح المدرس، متشدد في تطرف ومتماسك في صلابة ومركّز على ثوابت حرفية مجربة. وعنده العين والثقه بما تراه وهي ترى وراء المظاهر، يتواطأ مع قطافها من دون أن يماشي انزلاقاتها. ولديه مرجعيات عرف من أين يستمدها قبل أن تصبح مع تعتق الاختبارات، جزءاً منه يوزعها من لديه على المخازن إلى نصه التشكيلي. حيث أن لفاتح المدرس مذ أطل علينا في بيروت، في غاليري و«ان»، الكتابة بالمفرد. ولصوته بحته الخصوصية المعبأة بالملامح التي بدت يومها، نظراً على الأجواء السائدة في بيروت، كأنها صحراوية الانتماء، بدوية المنظر، مادية التعبير، وبين وصف يكتفي من ذاكرة غير قادرة على النسيان. ومختزل للخبر حتى جوهره الإنساني. فاتح المدرس، وبداوته مدخله إلى حداثة تشكيلية أو صلته في بعض مراحل سيرته إلى محاورة تجريد كان مراراً يكتمل. ولكنه كان دوماً يتراجع مشدوداً على رفض الذهاب في الحداثة إلى أبعد من التقشف في الأداء التشكيلي. لا يهدد بالتعرف إلى الأشياء، وإنما في الوقت عينه لا يبالغ أبداً في تحديد وجودها. وكأن للصورة التي يحصيها فاتح المدرس بخصوصيته، المعالم المميزة المتراكمة استمراراً في الإطار الواحد، منه تستمد تقاسيمها ومنها يستوحي مفرداته. يشيد بها بمثابرة المؤمن الذي أسس للشيء بعرقه، البناء الذي يقف في معظم تشاكيله على خطوة يكاد يقفز إلى أبعد منها من تجريد لا يختمر عمداً بين ريف يساكنه بحرارة ومدينة تحاصره في برودة، لم يتردد فاتح المدرس في تنمية موروث تعرف فيه إلى جذور تستجيب لثقافة عمّرها تجربة بعد تجربة واختباراً بعد اختبار. وبدءاً أعطى الملامح وجودها المادي، وتصرف كأنه يبقى ارتباطاً بمكان يخشى عليه من ضياع يصيبهن وتشدد في رسم الأشكال واستقوى على ألوانه الزيتية بإضافات رملية جعلتها أكثر وزناً أقوى تعبيراً. كأنه وراء أمر يتركه مخلصاً لناس وجغرافيا ًشعر بأنه قد يخسرهما إذا لم يحصنهما بما يكفل أن جدالهما على ذاكرته. وصفتان برزتا يومها في نص فاتح المدرس، الوجود المتراكمة على قاماتها والبنية العمودية المتحرك، والصفتان سترافقانه كلازمة مشهدية إيقاعية بصرية عرفت التطور الدائم على المستويات المختلفة للنص، عرفت الميل إلى إفقار إرادي للملامح كما للمواد، وتطرفت في استعانتها بأمور لم يحدها سوى احترام الفنان لمعاني صناعة اللوحة.

نصه حمله إلى واجهة الفن السوري حيث اعترف له الجميع بريادة جمعته إلى رفاق أسسوا معه لحداثة تصور ولأداء طليعي ولتجارب تقنية أوصلت اللوحة السورية إلى أماكن متقدمة جداً في الفن التشكيلي العربي. وله في بيروت التي تعتبره من فنانيها أكثر من دور أطل من خلاله كزميل وصديق، وحضوره مع زملاء ينشطون هنا وهناك في العالم العربي ساهم بفاعلية في رسم الملامح لبيروت كركيزة خصبة للفن التشكيلي العربي المعاصر.


نزيه خاطر