فضاء فاتح المدرس

فنان تعبيري بامتياز

فضاء فاتح المدرس

لم يكن الفنان الراحل فاتح المدرس سوريالي النزعة التأليفية، ولا تجريدياً، ولا حروفياً، إنه فقط تعبيري-رمزي في أسلوبه ومعالجته التقنية وفرادته التأليفية والتوليفية. تعبيري ينتمي للأرض العربية وضوء الشمس فيها وصفاء السماء بكل ما فيها من زخم حضاري وقصص وذكريات وجماليات بيئية وإنسانية وموروث، مشبع بروحية الحداثة الفنية التشكيلية بكل ما فيها من تقنيات التصوير الزيتي المعاصر.

لوحاته لصيقة به وحده تميزه عن سواه من الفنانين التشكيليين السوريين والتعبيريين العرب بخصوصية صياغته لمفرداته الفنية التشكيلية وعناصره الحاشدة في مخزونه الثقافي ومرئياته وذاكرته البصرية التي لا تحتمل التأويل. خطوطه وألوانه ومضامينه ولمسة ريشته الزيتية وتحويراته التبسيطية لتداعيات أفكاره تدلل عليه دون حاجة لقراءة توقيعه على سطوح لوحاته. هو. هو. لا يتكرر، قد يكون مرجعية بصرية وثقافية لسواه. قد تستنسخ أعماله في سوق نخاسة اللوحة وسمسرة التجارة الهابطة، وقد تزين لوحاته في سياق مقاربة تصويرية استنساخية ولكنها ستبقى هذه المحاولات مجرد ارهاصات آنية تفضح مروجيها بأسرع ما تكون الفضيحة.

فاتح المدرس في لوحاته التي تشبهه لم يكن تشبيهياً، يقرأ فقط على أنه ظاهرة فنية تشكيلية سورية، عروبية الملامح والقسمات، وعلامة مميزة في الحركة الفنية التشكيلية العربية المعاصرة. تمتد قامته لتشمل كافة الأصقاع العالمية، وأرجاء المعمورة. فنان تعبيري بامتياز، تقولبه رموزه الإشارية الدلالية (السيمولوجية) في دائرة الفعل الثقافي البصري في إنتاجية زاخمة الخطوط والألوان والمعاني والخلفيات الفكرية والمواقفية التي تجسدها كل لوحة من لوحاته سواء في مسمياتها أو في مضامينها ومحتوى بنائية عناصرها الشكلانية. التحوير القصدي لواقعية مرئياته «اللاتشبيهية» تدخل عين المتلقي في متاهة المتعة التأملية في التوليف البصري لنزق الخطوط وصراحتها، وصراحة الملونات وآلياتها التكرارية في عموم أعماله. مفتون بعناصره، مجاورة بكل الاتجاهات رصفاً طولانياً وعرضانياً لرخام مفرداته.

مشغوف بالازرق «اللازوردي» وصفائه، والبحري في خضرته، والنيلي في حزنه وبالأحمر القاني وتشعباته اللونية حدة ودرجات وما بينهما من اشتقاقات تدرجية تجعل من هذه التداخلية ما بين الملونات رتابة مخزونة في إيقاعات شخوصه ومناظره مخياله ومقولاته.

بنائية التكوين لديه معتمدة على ثلاث مفردات بصرية تشكيلية (الخط، اللون، الفكرة) الخط الصريح المتآلف سماكة ونحافة من تداعيات اشتقاقية مسبوقة لتشكله ما بين تمازج الأزرق بالأحمر في نسب لونية متفاوتة نجد للأزرق سطوة فيها على الأحمر مما يجعل اللون يتماهى في إحساسه البصري وكأنه صريح «الأسود» يرسم من خلاله الحدود الفاصلة ما بين مفردة فنية تشكيلية وأخرى، معطياً لتوزيع المساحات اللونية بعض المرونة التوليفية لثنائية المشهد التصويري ما بين طول وعرض في كثير من الأحيان ملغية منظورية البعد الثالث في النزعة المركزية الغربية خارجاً عن قوانينها ومألوفها الشكلاني على الدوام. يؤسس لذاته مرجعية بصرية وثقافية يستحضرها من ثقافته وجولاته وأنماط اطلاعه على الأوابد التاريخية والأماكن الحضارية والبيئية المنتشرة في كافة الأراضي السورية في ريفه ومدينته، في سلوك أفرادها وعاداتهم وتقاليدهم. وتحتل الأسرة وأمه خصوصاً مساحة تأليفية متسعة المدى لطفولة معذبة عابثة ومحزونة، حالمة لا انزياح عن عالم البساطة التحويرية في رموزه وتعبيراته الشكلانية، الرصف التحيري للأماكن الواقعية، والشخوص الآدمية المحيطة، والخيال الحاذق لاستحضار مشهديته البصرية كلها مكونات أساسية لإخراج لوحته الفنية كما أراد لها أن تكون، جاعلاً من ذاته الإبداعية لوحة بانورامية لفنان بات ظاهرة واتجاهاً فنياً بارزاً في مساحة الفن التشكيلي السوري المعاصر.


عبد الله أبو راشد