فضاء فاتح المدرس

فاتح المدرس وثنائية الأرض والإنسان

فضاء فاتح المدرس

ارتبطت تجربة الفنان فاتح المدرس بالإنسان، وعبرت دوماً عما هو إنساني، والإنسان هو المحور الرئيسي الذي تدور التجربة حوله، وهو المنطلق إلى الموضوعات التي يعالجها، يصوره في لحظات الأزمات التي تهدد وجوده، ويقدمه في حالات الحصار أو الاستلاب، التي يعيشها منذ البداية وحتى النهاية.

ويقدم (فاتح المدرس) الإنسان بصيغة مختزلة، إذ يظهر صغيراً ومضغوطاً من الجانبين، وتحيط به الأشياء الأخرى، التي أسهمت في جعله في هذه الحالة، ولهذا لم يبق منه إلا ما هو قادر على المقاومة والتحدي، ينقله لنا بعفوية وبشكل مباشر، وعبر عملية تفريغ سريعة، بخطوط قليلة، وملامح معبرة، وبألوان تنقل حالة وجدانية، أكثر مما تقدم واقعاً خارجياً.

وهذا الإنسان الذي يصوره في لوحته ليس الإنسان المطلق، ولا المثالي، بل هو الإنسان المحدد المعالم والانتماء إلى أرض معينة، وإلى واقع له ظروفه، وصلاته بالتراث القديم في بلادنا، وإلى طبيعة وجدت لكي تحتضنه، ولها شكل مساحة مائلة قليلاً، قابلة للرؤية، ونرى فيها عناصر الطبيعة من وهاد وهضاب، وبطريقها أعطى (المكان) أو الفراغ التصويري، والبيئة المحلية، أو الريف أو الوطن، الذي يأخذ الإنسان منه، ويعطيه في كل يوم.

ولقد توصل إلى التعبير عن (الإنسان والأرض) في ثنائية، أخذت شكل علاقة فيزيائية تطبع الإنسان بطابعها، وتعطيه السمات المميزة، فالأرض هي المكان الذي لا يستغني عنه الإنسان، لأن الوجود الإنساني يرتبط بالأرض، والمكان، وحين تغيب يصبح بلا هوية، ولا معنى لوجوده إلا بها، وقد أصبح الإنسان الذي تنتزع أرضه منه فاقداً لكل شيء، لأنها هي التي تحدد الانتماء، وفيها الأصالة، وكذلك هي حال الفنان الذي لا يملك مصدراً يأخذ منه، والطبيعة بلا إنسان تتحول إلى شيء لا قيمة له، ولا معنى دونه، وهكذا يقدم (فاتح المدرس) الإنسان تحيط الطبيعة به من كل جانب، فيها يغيب ويظهر منها، وفيها الناس والتراث، ولهذا يبدو وجوده مرهوناً بها، وصيره يعتمد عليها، وحين تغتصب الأرض فذلك يعني النفي، حيث البعد عنها هو الموت الحقيقي.

وبطريق هذه الثنائية التي دمجت الإنسان والأرض في كل واحد، قدم (فاتح المدرس) موضوعاته المختلفة، وتوصل إلى صياغة فنية جمعت الحالة الذاتية الخاصة، مع الموضوع الإنساني، ومزجت العالم الداخلي مع المشكلات الخارجية، وتجاوزت الأزمة الفردية الخاصة، لتعبر عن أزمة الوجود الإنساني، وحالة الاستلاب التي تملك الجذور العميقة في الطفولة البعيدة، وما هو مخزون في الأعماق، قد عبرت عن الموضوعات الراهنة. وهذا يعني أن (فاتح المدرس) ثنائي في تعبيره الفني، ويعكس المرحلة والمكان، ويرتبط بها ارتباطاً وثيقاً، ويقدم الحالة الذاتية الخاصة، والمشكلات الخارجية العامة في لغة فنية حديثة، حيث نجد في لوحاته تلك الثنائية المعبرة، وإمكانية جمع هذا مع ذاك، ودمج ما هو موروث مع ما هو حديث، في عالم شخصي متعدد الجوانب والدلالات، تبرز فيه الأشكال المتجددة التي يعيد صياغتها لتقدم رؤيا خاصة، فيها الجانب الذاتي، وما يرجع إلى الماضي البعيد الشخصي، وما يمكن إرجاعه إلى التراث التشكيلي القديم في بلادنا، وفيها ما يرجع إلى الواقع الراهن، وما هو حديث مبتكر من حيث التشكيل، وهذه العناصر والأشكال، نراها متجاورة، وتتكثف في اللوحة، وتأتي لحظة التعبير الفني لتنقل رؤيا فنية لها حضورها الكلي والمتجدد في كل عمل، ولها قدرتها على التعبير المباشر التلقائي، والتي يحافظ فيها على حضور الشخصية الفنية، وتجديدها عبر عملية استحضار الأشكال، والتداخل بين العناصر المؤلفة، لتكون لوحته كلاً منسجماً، تقدم الموضوع، وتعبر عن إنسانية، فيها شكل الإنسان الذي يعيد صياغته كل مرة، ويتجدد مع محافظة على الروح، وبأشكال تعطي الميزات المتغيرة، وتقدم حضوراً لشخصية فنية موحدة تطبع لوحته بطابعها، وتقدم شكلاً ثابتاً قابلاً للتبديل في كل مرة، ولكنه في الحالات كلها، يعبر بالخط المضطرب الذي يترجم القلق الإنساني، وقد شحن بطاقة جديدة ليعكس ما هو ذاتي، أما اللون المليء بالإيحاءات الذي يضعنا أمام حالة إنسانية، فهو لون تعبيري، وليس مجرد لون، كما نراه في الواقع.

وهكذا أصبحت لوحات (فاتح المدرس) تعكس حياته معاناته، وتدل على شخصيته الفنية وتكشف عن عالمه الفني، وذلك لأنها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً، به، وبما يعيشه من أحداث راهنة وما يتفاعل معه من أشكال وعناصر، وما كان يعيشه في طفولته ولها ارتباطها بالقضايا التي تشغله، وهي التي تستدعي الماضي البعيد حين تدعو إليه الحاجة، وتقدم الموضوعات المعاصرة، التي تتمتع بميزة الحضور الدائم المكثف لكل ما هو إنساني، وما يمكن أن يعبر به عن قضايا ومشكلات، وما في حياتنا من إشكالات وتناقضات، ويسعى لإيجاد اللغة المعبرة عنها، والتي هي نتيجة ومحصلة لجمع ودمج بين عدة أزمنة في مكان واحد، ليؤلف ذلك لكل لوحة حافلة بالأشياء المبتكرة التي تتولد عنده لحظة الإبداع، حتى يكون معاصراً في لوحته، ومرتبطاً بواقع معين، وعبر حضور الزمان الماضي، والجذور التي يتفاعل معها في المكان، ويتعايش مع مشكلات الإنسان المعاصر الذي يعاني، ولمعاناته أهميتها الكبيرة، لأنها المصدر الرئيسي لكل عمل من أعماله، وهكذا تكون الشهادة على الواقع المعاش، عبر المكان والزمان، وفي لحظة تتكثف التجربة فيها لتعطي، وهذه اللحظات هي لحظات نادرة عند غيره من الفنانين، لكنها دائمة الحضور عنده، وقادرة على أن تكشف لنا عن أشياء لم نكن نراها، وهو يستطيع أن يقولها عبر شكل خاص من التعبير.

ولهذا أصبحت تجربة (فاتح المدرس) مميزة في قدرتها على الكشف، والوصول إلى الغاية في لحظات هي بين الوعي واللاوعي، تتدفق فيها الأشكال، وهذا الكشف هو نتيجة البحث المستمر، والدأب المتواصل، اللذين لابد من توفرهما حتى يتوافق العمل الفني مع عالم داخلي غني، يضم الأشكال والرؤى، وقد تجسدت الآن في لوحات معبرة، باللغة التي ارتضاها لنفسه، تلك اللغة القادرة على إقناعنا، والتي تكشف عن عالم (فاتح المدرس) الذي أمدنا بآلاف اللوحات الفنية، التي أصبحت تمثل الآن عالماً خصباً بدلالاته، ورموزه ورؤيته، وهذا العالم يتوافق فيه مع نفسه، ويعبر عنه، ويقدم شكلاً من التعبير يتمتع بقدرة لا متناهية على التجديد، وعلى الحضور المتميز الأصيل الذي لا يجاري في إمكاناته.


طارق الشريف