فضاء فاتح المدرس

فاتح فنان تعبيري، أولاً

فضاء فاتح المدرس

لقد عرفت الفنان فاتح المدرس قبل أكثر من ثلاثين عاماً، كنا فيها بشكل متصل أكثر من عشرين عاماً، كان خلالها ولأكثر من عشر سنوات نقيباً للفنون الجميلة، وكنت أنا مديراً للفنون الجميلة.

وخلال هذه الفترات، كنت على اتصال مباشر به، وعندما أردت أن أجري معه مقابلة ذهبت إلى مرسمه، وجلست معه جلسات طويلة، واستنتجت بعد ذلك، أنك لا تستطيع أن تأخذ من فاتح أي كلمة لها علاقة بلوحاته، فيجب أن تدرس اللوحة بذاتها، لأنها هي الطريق إليه، كما إنني استنتجت أيضاً ملاحظة، وهي أنه شاعر وكاتب، وهناك خطورة في أن يكون الإنسان شاعراً، ويستخدم الألوان، وأحياناً يعد كثير من النقاد أن هذه هنة من الهنات التي يقع فيها الفنان، إنه شاعر، فيجب أن يتمكن من التصوير أولاً، وأن ينقل بعد ذلك شاعريته الموضوعية إلى اللوحة، هنا يرتفع فاتح إلى المستوى العالي.

وهناك نقطة أخرى أود أن أؤكد على شيء أساسي أن فاتحاً فنان تعبيري، أي أنه حين يكون منسجماً مع الموضوع أو الانفعال، يرسم اللوحة الجيدة، وحين لا يكون منسجماً، ولا تكون الحالة النفسية التي هو فيها، تضيع اللوحة منه، التعبيرية التي يعيشها الفنان، هي حالة، والتعبير فيها بلحظة الإبداع، اللحظة التي اختزنها ذلك التعبير، إذا تكرر ذلك، أو انقطع، أو لم يأتِ مستجداً تسقط الحالة ومع ذلك يبقى فاتح المدرس فناناً كبيراً، لأنه فنان ملتزم، وبالدرجة الأولى كان اهتمامه الأول «الإنسان» كل لوحة فيها شخص، أو شخص مجزأ وخلفه ذلك الشخص معالم قرية، وهناك حوار بين هذا الشخص وما وراءه، لكنه في كثير من الأحيان حين يهتم بالإنسان، يعطيه بعضهاً من المشاكل التي تثيرها علاقة الخلفية بالمقدمة، وهذه العلاقة مرتبطة بالتراث، إذن دائماً هناك إنسان وهناك أرض والأرض موضع التراث وهي التي تمده بالكثير من العوالم التي تختزن لوحته، والسقوط يحدث حين يكون فعلاً لا يعيش الفنان الحالة المأساوية التي توجد في لحظة الإبداع.

حضوره أكد أهمية الفن المعاصر والحداثة
بداية الشكر لمن تحدثوا جميعاً، أن ثلاثة كتب عن فاتح المدرس وإضافة إلى ورود فصول واسعة عنه في كتب أخرى، تؤكد هذه الأهمية ويؤكدها أيضاً حضوره الثقافي في حياتنا.

أقول إن فاتح المدرس استطاع بحكم وبفعل وزنه الثقافي أن يؤكد أهمية الفن المعاصر وأهمية «الحداثة» في الفن التشكيلي السوري رغم الأمية الواسعة في الفن التشكيلي، وفي الثقافة عموماً والتي عاشتها البلاد منذ بداية تجربته وحتى عقود قريبة تقريباً، فقبول المجتمع لتجربته المتقدمة لم تكن نتيجة اقتناعه فيها، وإنما كان بفعل ذلك الوزن الثقافي الذي يشكله فاتح المدرس، وهو يتمثل فيما قاله الأساتذة في تجربته التشكيلية أولاً، وفي غناه المعرفي وتنوع اهتماماته وتعددها، كشاعر وكاتب قصة قصيرة، وعازف حر على البيانو، بالإضافة للعديد من آرائه الفلسفية والفكرية العميقة المختلفة.

وأحب أن أعقب هنا عما يتردد عن وفرة إنتاج فاتح والإشارة ضمناً إلى أن ذلك نتيجة غاية مادية، أو أن ذلك أدى إلى إنتاج لوحات أقل من مستوى تجربته عموماً.

أن يضع الفنان لوحات بسويات مختلفة فهذا أمر طبيعي لأنه يرتبط بالآلة المزاجية والإبداعية وقت إنجاز لعمل، وليس هناك فنان في العالم، تملك لوحاته جميعها السوية ذاتها.

أما الحديث عن الغاية التسويقية، فأستعيد هنا حكاية كنت شاهداً عليها حينما هبت إلى مرسمه برفقة إحدى الصديقات مصطحبة معها مبلغاً كبيراً من النقود لاقتناء إحدى لوحاته فاقترح عليها فاتح لوحة بقيمة النقود التي تحملها... لكنها أبدت رغبتها بلوحة غير تلك، وعندما استفسر منها عن السبب أجابت أنها أحبتها أكثر...

ونفاجأ كلانا بفاتح يقدم لها اللوحة التي اختارتها بأقل من ربع ثمن اللوحة التي كان قد اقترحها، مع أنها ليست أقل أهمية من الأولى، وحين سألته بعد أيام عن سر تصرفه قال أن هناك من يشتري توقيعي، فليدفع ثمن التوقيع، أما الفتاة فالواضح أنها تريد اللوحة لأنها أحبتها، وقد أسعدني ذلك.

أخيراً يبقى فاتح هامة كبيرة نفخر وجميع المبدعين أنه ينتمي إلى وطن يضم كل الأحرار، والدليل يعبر بكل شجاعة عن أفكاره وفلسفته في لوحته والتي ستظل بعد رحيله، مرآة ناصعة للحقيقة. وداعاً يا فاتح ولروحك الطاهرة والتي ستظل تهيم فوق لوحاتك الباقية أبداً...


سعد القاسم