فضاء فاتح المدرس

فاتح المدرس كما رأيناه ونراه

فضاء فاتح المدرس

ثلاثة كتب وعدد يصعب حصره من الدراسات في الكتب والمجلات المختصة والدوريات والصحف، هي حالة غير مسبوقة في الفن التشكيلي السوري تشير إلى أهمية «فاتح المدرس» فيه.

تتجاوز أهمية «المدرس» إطار نتاجه الإبداعي إلى رحاب دوره الأساسي والمؤثر في نشر مفاهيم الحداثة في الفن التشكيلي المرتبطة بآن معاً بمفاهيم الانتماء. وقد حاولت معظم الكتابات عنه واللقاءات معه ترجمة دوره هذا ومفاهيمه الفنية عامة، ومن ذلك تخصيص نشرة «التشكيلي السوري» التي أصدرتها نقابة الفنون الجميلة غلاف عددها الثاني للوحة لـ «فاتح المدرس» مع تفصيلين لها، وتضمن العدد مقالة عنه كتبها «رضا حسحس» تحت عنوان «فاتح المدرس كما رأيناه ونراه»، وحوار معه أجراه «سعد القاسم» ونبدأ بمقتطف من مقالة الفنان «حسحس». ويليها اللقاء كاملاً كما نشر في العدد الصادر في الشهر الرابع من عام ألف وتسعمئة وأربع وتسعين:

لقد كان حدثاً فنياً هاماً عودة «فاتح المدرس» من روما إلى الوطن. كنا يومها طلاباً في معهد الفنون الجميلة والهندسة المعمارية قادمين من محافظات أخرى مدفوعين بشوق دراسة الفن الذي لم يكن له فيها حضور إلا في أذهاننا وفي الكتب والمجلات وفيها يتناقله الأصدقاء الهواة خفية في منازلنا. وكانت لوحة «كفر جنة» عالقة في ذاكرتنا ضاجة باللون وعبق أرض الشمال.

في إحدى الصباحات سمعنا أن «فاتح المدرس» قد حضر إلى المعهد ليبدأ التدريس، وبدأنا نشعر بحضور شخصية فنية مبدعة في وعينا.

وفي اليوم ذاته سمعنا عنه كيف دخل إحدى الغرف التدريسية الغارقة بالعتمة إلا من ضوء كهربائي مختنق مسلط على أنية نحاسية صدئة وقطع قماشية مطرزة وفاكهة قد ذبلت واختفت طزاجة ألوانها. وسمعنا يومئذ كيف اخترق «فاتح المدرس» هذه العتمة منذهلاً وقال: لم تغلقون النوافذ وتحجبون ضوء الشمس والهواء. ففتحها على مصاريعها فاختفت الطبيعة الصامتة خلف شاشة الضوء الصباحي الساطع. كانت تلك الصدمة الأولى التي واجهت تعاليم فنية بائدة.

احتفى الطلاب الشباب بحضور «فاتح المدرس» ذهنية جديدة خلاقة طال انتظارها مشبعة بروح حرة تفهم الفن تحققاً إنسانياً وجمالياً عالياً، وتطرح جانباً من المفاهيم الرثة والبالية وتفهم الفن جوهر حياة لا خيالات شاحبة لها.

حاول «فاتح المدرس» بجهوده الخاصة الفريدة ورحابة نظراته للفن والحياة أن يخلق وسطاً فنياً قائماً على الحرية المطلعة والمسؤولية الشديدة، وفهم لغة التصوير أبجدية مستقلة بذاتها، وسط أجواء يشيع فيها الانغلاق والارتداد نحو الماضي ومعاداة تفتح الفرد والنظرة المضادة للتقدم فتحول محترفه إلى منتدى بمبادئ الحرية وطقوس الخلق والإيمان بالإبداع الإنساني والتجدد وبالشعر والموسيقى وتبادل الأفكار. لقد استطاع «فاتح المدرس» بشخصه وفنه أن يبث روحاً طليعية طليقة لم تكن معروفة من قبل فالتفَّتْ حوله مواهب شابة شغوفة بالإبداع الفني ورأت فيه داعماً كبيراً لها، ولما تبحث عنه وموجهاً فريداً لا تنفصل عنده الحياة عن عملية الخلق لا بل تعلمت كيف تحب الحياة وترقى بثقافتها وتؤمن بالجمال رسالة لها.
لقد أعلنت أعمال «فاتح المدرس» عن إنتاجات فنية راسخة في مفاهيم التصوير الحديث ومفعمة بقوة حضورها وإنسانيتها وعابقة بخصوصية انتمائها ألواناً وشخوصاً وبيئة، وحلولاً تشكيلية تبث حضورها أينما وجدت في العالم دون أن تفقد جغرافية ولادتها، فالأصالة بالنسبة إليه تصدر عن الأرض وعن حميمية العلاقة بالبيئة والإنسان وعن مخزون نضج حياة معاشة وعن وعي أعمق من أن يحتاج إلى استخدامات مباشرة وسطحية لمقولات إيديولوجية أو تراثية قاتلة للفن فـ «فاتح المدرس» معرفة واعية وعميقة بتاريخ الفنون الرافدية والمتوسطية وذو معرفة خاصة أصيلة بالنظريات الجمالية من أفلاطون إلى هيجل وإن لم يكن هو بالذات صاحب نظرية جمالية خاصة قائمة على أن الجمال هو الخلاص المتبقى للإنسان وهو المنقذ من طغيان القوة والغرائز وقائمة على خصوصية الانتماء لثقافة بعينها لا يمكن أن تفقد جغرافية هويتها.
الحوار
لما يمتلكه اسم «فاتح المدرس» من شهرة قل مثيلها في بلادنا، حتى لدى البعيدين عن الوسط التشكيلي. فإن إجراء لقاء صحفي معه يمثل رغبة مشتركة لدى معظم الصحفيين وخاصة العاملين منهم في الحقول الثقافية. لكن الفنان الذي يتحدث طويلاً في الندوات الفنية دون تحفظ. نراه أكثر حذراً في اللقاء الصحفي. يشترط منذ البداية أسئلة مكتوبة ومرقمة فنجدها تتراكم فوق بعضها على الطاولة الصغيرة في مرسمه. فأسأله وأنا أرقب عددها الكبير إن كان سبق له أن اعتذر عن إجراء لقاء صحفي لسبب غير ضيق الوقت. ويكون هذا السؤال فاتح الحوار فيجيب أستاذنا الكبير.

ـ اللقاءات الصحفية هي أصلاً عمل ثقافي إذا كانت الغاية منه إيضاحات في مجال الاختصاص وبعيداً عن المديح الذي لا يمنح القارئ إلا المزيد من التمويهات غير الجدية وأني أشعر بخجل عندما أرفض لقاءاً أدبياً يحكي جانباً من آراء الرسام ونظرته إلى المجتمع وتفاعله مع موجودات الحياة من حوله، هي أساساً مادة عمله.

ـ مع أن أهمية تجربتك الفنية ليست بحاجة إلى برهان، فإن حضورك هي الحركة التشكيلية لا يقف عند حدودها فهناك مساهماتك النظرية الهامة سواء كأستاذ في قسم الدراسات العليا في كلية الفنون الجميلة. أو خلال مشاركاتك النشطة في المحاضرات والندوات الفنية وفي كل هذه المناسبات اعتدت التحدث دون تخطيط مسبق. أو دون اللجوء إلى مادة مكتوبة، ومع ذلك فإنك في هذا اللقاء كنت حريصاً على استلام أسئلة مكتوبة. هل ترى أن التصريح للصحافة يحتاج إلى أكثر ما يحتاجه الحديث في ندوة أو محاضرة؟!

ـ في الندوات تجد نفسك مخطوفاً على الجهات الأربع حيث يصعب جر الحضور إلى بؤرة معينة تتركز حولها الرؤى الجمالية وكثيراً ما نشعر بالحرج إزاء مجابهة سائل مغرض يريد بسؤال مبطن أذية فنان ناشئ لغاية شخصية حيث يبدو المتسائل بريئاً. وهكذا ترى أن أكثر الندوات تفجر مهاترات غير علمية مع الأسف وإن في طلبي أن تكون الأسئلة مكتوبة ومرقمة، غايتي من كل هذا هو أن أكون مسؤولاً عن حرفية أجاباتي كما أحاول لملمة إجاباتي وسوقها نحو بؤرة معينة يخلص القارئ من إضاءة البؤرة، الحصول على مفاهيم محددة يمكن أن تعود بالفائدة إلى القارئ دون إضاعة وقته الثمين.

ـ وصفت ذات مرة بأنك ممثل التيار التعبيري في الفن التشكيلي السوري إلى أي مدى يتطابق هذا الوصف مع رؤيتك لمجمل تجربتك منذ بداياتها الأولى حتى الآن. والسؤال يتضمن بشكل ما طلباً بتقديم تجربتك من خلال وجهة نظرك الخاصة؟!

ـ يصعب تحديد جوانب التجربة في الإجابة على سؤال واحد، الأمر يتطلب شواهد عديدة من الأعمال. كما يتطلب وصف المادة التي أستعملها والمادة هنا ربما كانت البيئة كلها، التاريخ السيكولوجي للشعب الذي أنتمي إليه، ولربما تطلب الأمر الإشارة إلى موقفي كإنسان من هجمات شعوب أخرى معادية لسورية والعرب كما يدخل في موضوع المادة التي أستعملها، مجموع الأضواء التي تتميز بها أرض وسماء وطني، ربما تعين علي أن أحدد العوامل النفسية للوجوه الآدمية من أبناء بيئتي أو فهمي الذاتي لمفاهيم تجريدية عن القتال والشرف والحرية والحب الخ... وهكذا ترى -يا سعد- ما هكذا تورد الإبل، وأنا الآن أحد الإبل المتكلمة بالعربية! لعلك تبتسم. لقد تعلمت كثيراً من الحيوانات وأنا هائم في طفولتي في متاهات جبال طوروس وكليكيا السورية، وإني أعتبر أن كياني كله بما فيه تفكيري السري عن نوعية الحياة على الأرض –الوطن- الذي أكلت ترابه كما تفعل ديدان الأرض ورعيت أعشابه وأنا أهيم مع الرعاة أتذوق الأعشاب حتى إذا جاء الليل والظلام الغامض إصت في متاهات أروع الأساطير أسمعها وأنا أرتجف، من أفواه الفلاحين.

وهكذا ترى يا «سعد» فأنا لست تعبيرياً في اتجاهاتي التشكيلية ولست بالياً، ولست تجريدياً، بكل بساطة أنا رسام سوري عربي حديث أرفض الأخذ بالمفاهيم المستوردة أو المسبقة الصنع. بكل بساطة أنا شاهد على جمال الأرض والإنسان كما أنا شاهد على أحزان عصري.

ـ قد تكون التعبيرية الوجه الأكثر وضوحاً وحضوراً في حركتنا التشكيلية، وهي تمتلك فيها أسماء وتجارب جديرة بالاهتمام كيف يمكن أن تفسر أسباب هذا؟!

ـ التعبيرية وقبله المدارس الأخرى -أو لنقل الاتجاهات- والتي جاءت بعدها التكعيبية ثم التجريدية وغيرها، في كل هذه الاتجاهات نرى الفنان العربي اتجه نحو التعبير وليس التعبيرية والفارق كبير بين تحديد مجال الفنان التشكيلي التعبيري وبين الفنان الذي يعبر عن ذاته، وهو ما يحدث الآن في العالم، وإني من دراساتي الأكاديمية والمحدثة لم ألتق بفنان تعبيري واحد -لعلك لا تصدق ذلك-.
لقد كانوا جميعاً كل يعبر عن ذات نفسه إذا كان صادقاً مع نفسه وهذا أمر في غاية الصعوبة. من هنا تستطيع تحديد نوع الكارثة.

ـ يملك التجريد بدوره كثيراً من التجارب الهامة في فننا التشكيلي وقد سبق أن تحدثت في أحدث ندوة فنية عن تجريد صادق أو حقيقي وآخر غير ذلك... ما هي الأسس التي يستند إليها التمييز بين الحالتين؟!

ـ لكي أقرب إليك مفهوم التجريد في الرسم ومفهوم التجريد في الكلمة:
النوع الأول بكل بساطة الفنان يتجاهل ما تراه عيناه ويحدد موضوعه بألوانها وغرافيكيتها بغض النظر عن مفهوم موضوعها وببساطة أشد فالرجل الذي يمشي على الرصيف وبجانبه ابنه الصغير باللون الأحمر وهو يرتدي الأزرق وجو الشارع بألوان شتى. كل ما يستطيع فعله الاستفادة من هذه التكوينات اللونية والخطوطية، هي تكوينات تجريدية بصرية. أما النوع الثاني فهو التجريد في الكلمة يتحدد كما يلي: لنقل «تصور باباً يخرج منه رجل يحمل ديكاً».
ويكتفي أكثر الكتاب بهذا الوصف المجرد الموجز علماً أن العقل يستلم الجملة اللفظية ويرسم في خياله آلاف الأبواب وآلاف الرجال وآلاف الديكة ويحتار أي لون أو شكل ينتخب!! لأن التجريد في الكلمة غير محدد، أما التجريد في الصورة فهو شديد التحديد وإن كان لا يشير إلى الرجل أو الطفل!!

وهكذا ترى أن المجرد التشكيلي في أغلب الأحيان يلعب بأشكال ليست بذات موضوع، فالسؤال هنا لأي حد هذا الفنان صادق في تجربته الحياتية حتى استطاع أن يجرد الموضوع من موضوع ويكتفي بهذه الرموز اللونية أو الغرافيكية، وإن التمييز بين الصدق والتلفيق أمر في غاية الصعوبة! ولكن.. وبقليل من التروي يسهل كشف النشالين!!

ـ في حوار أجرته معك مجلة عربية منذ نحو عام تحدثت عن مخاطر تسويق اللوحة الفنية في بلادنا. وهو حديث شاع كثيراً في الآونة الأخيرة بين الأدباء والصحفيين. وقد تكون المرة الأولى التي يقال على لسان فنان تشكيلي لأعماله حضور استثنائي في سوق الأعمال الفنية. هل يمكن أن تحدد بصورة أدق أين يكمن الخطر في تنامي تسويق الأعمال الفنية؟!

رغما عن أخطار ابتذال التسويق الفني فإني أرى أن الأمر ليس خطراً فإنه يضع الغث والثمين على جدار واحد، وما عليك إلا الاختيار، إني لا أستسيغ السوبر ماركت في الفن، لأن الإبداع الفني في غاية الندرة من تاريخ البشرية. إنك تؤكد بلطف على خطر تنامي تسويق الأعمال. إسمح لي أن أقول لك بكل صراحة الخطر قادم من طرف الفنان الذي يتنازل عن هدفه الإنساني الإبداعي ويتجه بكل وقاحة نحو السوق!!

هذه خيانة مبطنة ومحزنة، نحن لا نريد أن نفقد فناناً قديراً سلم إمكاناته لشيطان المال. اسمح لي أن أطرح عليك سؤالاً. -هل يسمح الفنان الملهم من قبل الآلهة أن يتنازل عن قدراته الإبداعية- إذا كان له فعلاً هذه الموهبة من السماء!!

ـ أنت أحد الفنانين العرب القلائل المشهورين في أوروبا رغم عدم إقامتهم فيها، وقد أقمت الكثير من المعارض في عدد من مدنها، وفي العام الماضي أقمت معرضاً في الولايات المتحدة الأميركية. وسؤالي الآن من شقين... الشق الأول: ماذا أضافت أوروبا إلى تجربتك؟!
والثاني أية انطباعات شكلتها لديك كل من أوروبا والولايات المتحدة فيما يتعلق بالعلاقة مع الفن التشكيلي من جهة وفي مستوى الفن التشكيلي السوري من جهة ثانية؟

ـ إني من المؤمنين بأن الفن التشكيلي هو من تراث الوطن، ومن شجيراته النادرة، ويحمل خصوصية التراب والإنسان في هذا الوطن، ومن هذا المنطق الإنساني الجمالي ترى أن هناك في العالم فناً وطنياً عالمياً لدى الكثير من الشعوب الجادة في بناء الحضارة، هذا كان هدفي، وأنا أعمل، إن كان في أوروبا أو هنا في الشرق العربي. أنا أمين لجماليات وطني وعندما عرضت في نيسان الماضي في واشنطن رأيت في عيون الزوار أنهم ينظرون بدهشة إلى أعمال جاءت من الشرق البعيد من سورية تتحدث بلغة لا يفهمونها إلا بحسرة وصمت من خسر روحه، الحياة في خضم العالم الأميركي فقدت روحها، نعم نحن شعوب نامية، لكننا نمتطي خيول الإلهام. هذا الإلهام ليس تماماً من السماء بل سماء أخرى هي قبة الروح الإنسانية. فيها تطير رؤى الرحمة والتي افتقدتها أميركا الشمالية.

ـ من بين الظواهر اللافتة للنظر خلال السنوات الأخيرة في الحركة التشكيلية السورية، والعربية عموماً، ظاهرة الحروفية وبروز الاتجاهات التراثية التي تعتمد على الخط والزخرفة. هل ترى أن هذه الاتجاهات تمثل التوجه الصحيح نحو تأصيل فننا التشكيلي وإعادة صلته بتاريخه؟!

ـ الحروفية بمعناها التشكيلي الحديث، هي من جملة النشاطات التطبيقية، هكذا أول ما ظهرت في منتصف هذا القرن وفي أواخره يحاول فنانوها منح طاقة التشكيل للحرف أو الكلمة العربية ولا زلنا في أول الطريق. إنها تجربة جديدة بمفهومها التجريدي لا الموضوعي.

عند تقدير «فاتح المدرس» يلتقي جميع التشكيليون وغير التشكيليين والمؤمنون بتجربته مع المتحفظين عليها. تلمس هذا واضحاً وأرغب اختتام هذا اللقاء بسؤال يبدو تقليدياً. ماذا يدور في أعمالك وفي تفكيرك وأنت تتحسس حب أبناء بلدك وتقديرهم لك؟...

ـ بكل بساطة أشعر كما يشعر تلميذ صغير منحته المعلمة مرحى ذات إطار ذهبي، وعندما ذهبت إلى البيت لم أجد اسمي مكتوباً على المرحى فبكيت، وكانت أمي وهي فلاحة من الجبال الشمالية الغربية السورية، لا تقرأ ولا تكتب، فهمت سبب بكائي وقالت عابسة بحب:
«غداً ستعطيك المعلمة مرحى أخرى مكتوب عليها ـ مرحى فاتح غزال ـ والآن قل لي أنا أم الغزال؟».


وائل حميدان