فضاء فاتح المدرس

فاتح المدرس التحق بالأسطورة

فضاء فاتح المدرس

من رحم القبو الرطب المعتم الذي حوله الفنان مرسماً، في أحد الأحياء الدمشقية الجميلة والحيوية، كانت تخرج لوحات فاتح المدرس إلى النور، لتسافر إلى المعارض العربية والأجنبية، حيث تأخذ مكان الصدارة، وتعلّق على أبرز الجدران وفي أفضل الزوايا، فتحظى بالقسط الأوفر من اهتمام الزائرين. لكن كيف تنسى اللوحات، في مطافها الغريب، إنها تنتمي إلى جغرافيا أخرى؟ كيف يسعها أن تتنكر لمسقط رأسها في ذلك القبو، حيث طالما أسندت بالعشرات بعضها إلى بعض... وحيث يغص المكان بزحمة التفاصيل التي بعثرتها يد الفنان، ألواناً طالعة من اللوحات (أم تراه العكس؟)، كتباً، قشور ليمون، تفاحاً، أقداح شاي، رسائل، جرائد، أسماء أصدقاء، ومن يعرف ماذا أيضاً؟

كان الزائر حين يدلف إلى هذا المكان الغريب، يحاصره شعور بالارتباك، فيتقدم بحذر، خوفاً من أن تصدر عنه نظرة خاطئة أو حركة في غير مكانها، فيسبب خللاً في توازن ذلك العالم، أو يخرب طرفاً من تلك الفوضى المنتظمة بتفاصيلها العالقة على السطوح والمساحات الصغيرة، حيث تركها الزمن شاهدة استثنائية على عبوره. وإذا شردت عينا الزائر قليلاً، فمعنى ذلك أنه وقع في المصيدة: «عزيزي بيل كلينتون، إن تسأل عن المسيح الجديد ها هو: أطفال الحجارة». «الإنسان أجمل من العقل». «يستطيع رجل واحد أن يضع أمه خارج الزمن». «الإنسان ليس كلمة وكذلك الوطن». «الجمال عند العرب عورة». كتابات فاتح المدرس بخط يده على قصاصات ورقية كانت تتوزع على الجدران، كأنها معلقات، أو مناشير على الطريقة الدادائية. فالمعلم السوري، صديق أدونيس ومروان قصاب باشي، كان يجمع الموسيقى والشعر والأدب إلى فنه الأثير. كان من جيل حلم بتغيير العالم، بالعدالة والسعادة، فإذا بالعالم ينهار على رؤوس الحالمين، وإذا بالمستقبل يفضي إلى لا مكان.

لم يعد أمام فاتح المدرس سوى أن يخرج من الحلبة، مع القرن، تاركاً لنا هذا الفراغ المدوي وتلك الحيرة التي لا نملك غيرها زاداً في مواجهة الألفية الجديدة. بانطفاء الرجل المتعب الذي خبر الموت الموجع، واختار الطفولة ملجأ، والحداثة أبحاراً ضد التيار، والأسطورة هروباً من الواقع لإعادة ابتكاره، تنطوي صفحة في تاريخ الحركة التشكيلية العربية، ويسدل الستار على ذاكرة جيل دمشقي تجرأ على كل الرهانات، ولعب دوراً حاسماً في تشكيل وعينا العربي المعاصر في الأدب والفكر والسياسة والفن. ولعل الفيلم الذي حققه محمد ملص وعمر أميرلاي وأسامة محمد عن هذا الفنان يكشف أهمية ريادته، في زمن كان مشرعاً على الاحتمالات.

فاتح المدرس أبرز رموز المدرسة التعبيرية العربية. كل شيء في عالمه ينضح بالأمل الصعب، ويرشح بذاكرة غائمة آتية من أمكنة وأزمنة أخرى، مؤطرة بألوان الأرض والسماء. لوحته نوافذ ومربعات متعانقة يرشح منها دم تموز، وتزهر في زواياها شقائق النعمان، تسكنها سهول وهضاب، عرائس ترابية، وبيوت من الصلصال الأبيض الشاحب، أو من الطين، تعلوها قباب خرافية، وجدران متشققة كالأرض غسلها المطر، وتناوبت عليها الفصول. فيها تتناسخ طقوس غامضة، وتقام جنازات صامتة. كأننا به كان يحضر الديكور، يبنيه ركناً وراء ركن، يقوم بالبروفات ويعد العدة للحظة الرحيل حتى إذا حان الوقت، فتح باباً في لوحته ودخلها مرة أخيرة. التحق فاتح المدرس بأساطيره، عاد إلى الأرض التي ظل يهجس بها قرابة خمسين عاماً...


بيار أبي صعب