فضاء نذير نبعة

ملاحظات وانطباعات نقدية
شاعر الربابة والأصابع الأسطورية
الفنان نذير نبعة ينتصر لحاضر الإنسان في ماضيه

فضاء نذير نبعة

لم يخب ظن نذير نبعة حين أمسك الريشة وقرر أن يفعل شيئاً له قيمة. أنا أكتب انطباعي الشخصي هذا وأكاد لا أعرفه إلا من خلال ابتسامة برزت حنونة من بين شفتيه وعينيه لتؤكد لي أن هذا الشاب من أصحاب العوالم الداخلية الرحبة.

هو شاعر من الداخل بدون شك، وأؤكد على أنه حاول أن يكتب شعراً قبل أن يرسم، فلم تستجب له الحروف لضيق أفقها، فتحدى السطح الأملس الأبيض ليقول شيئاً.

- أيها السادة أمامكم الآن فنان جديد، ولكنه لم يقل كل ما يريد.

وكأني به في هذه المجموعة التي ضمها معرضه الخاص في صالة الفن الحديث العالمي قد طرح نفسه بدون ضجيج، أما نحن فنقول بدورنا:

ـ ماذا يقول نذير نبعة في معرضه هذا؟

إنه متوتر ولكنه عميق، لذا فقد جاءت أعماله جدية بصلابة كبيرة أبرزتها الساحات اللونية المشدودة إلى بعضها البعض بوشائج متينة متماسكة.

إن الربابة التي عزف عليها الفنان ليست حنوناً لننصت إليها ونحن نتمايل. إنها نذير عنيف يطلب منا خلالها أن نستمع إلى التاريخ غير الستاتيكي، معبراً عنه في اللوحات المتناثرة هنا وهناك.

نستطيع أن نقسّم ـ كما يفعل النقاد ـ أعمال الفنان إلى اتجاهات ثلاثة كما بدت لنا، ولكننا نستطيع أيضاً ـ كما يفعل المراقبون ـ أن نبدي الملاحظات التالية، لا لتكون تقييماً لمنهج الفنان، بقدر ما تكون شاهداً على مرحلة حددت بالمعرض فحسب.

نذير نبعة قاص أو حكواتي، ولكنه مثير وجيد، نبش الأساطير من بطون الكتب وطرحها قضية كبيرة (مأساة سيزيف، وإسرافيل)، وامتزج البشر عنده بالأبهة فإذا هي حقائق بدت أوضح من قصة محكية، إلا أنها ظلت محملة بالرمز، فحافظت بذلك على روحها الأسطورية، والفنان في هذا العمل بدا سباقاً في أعماله الفنية لكثير من الذين سبقوه على الدرب.

امتدت الأسطورة في ذاته لتغنيها، فإذا هي في كثير من اللوحات تؤكد غناء عالمه الداخلي، وإذا هو شاعر بربابة قديمة الخشب. إنه نذير نبعة مغنياً، ولكنه لا يتلاعب بالكلمات، لأنه صريح وبسيط شأنه في ذلك الشاعر الشعبي يروي الحقيقة كما يفهمها.

وللتأكد على تلك «الأسطورة والشعر» استخدم الفنان لوناً لا أعجب ولا أحلى، اللون الأزرق المبحوح الصوت لعنفه والشفاف الناعم الملمس لرقته. ولونه الأزرق (إنليل) أسطوري، ومن هنا نستطيع التأكيد على قدرة الفنان على الملاءمة بين المضمون والأداة. اللون الأزرق نبيل، وكثيراً ما يدعو إلى التأمل الحزين، ولكنه عند الفنان نبعة حقيقي لأنه أدى إلى خدمة الأسطورة التي يحدثنا عنها.

لأنه أسطوري وحقيقي في نفس الوقت، فقد بدت آفاقه سخية، متعددة الرؤى. تارة تراه يجسد الأسطورة بالإنسان (كاهنة مردوخ) وتارة أخرى يجسد الإنسان بالأسطورة (ساعة التنفيذ)، وهو أحياناً يعني بالأشياء الصغيرة الناعمة (الزيز) وأحياناً تستغرقه المسائل الكبرى (طلسم)، وإنه لصادق في كل اتجاهاته وآفاقه.

الرمز عنده مشتت لأنه ثقيل الوزن ودسم. الفنان يستعمل الأصداف في معظم لوحاته، والصدفة عنده رمز للجنس أحيناً، وللسحر والتنبؤ أحياناً، وتارة يرمز بالصدفة للأشياء التي كان لها أن توجد ولم تستطع، فاللؤلؤ في الصدفة رمز للوجود الحقيقي، وعندما تكون الصدفة خالية يكون ذلك معناه الخواء وهو العبث، وهو عند الفنان الرغبة في البحث عن فعل الوجود في الصدفة.

والعيون الفزعة المذهولة المرعبة في معظم لوحاته، رمز آخر، إنها أسطورية ولكنها معبرة وإنسانية أيضاً، الفنان قادر على رسم العيون جمالياً ولكنه يتجاوز ذلك الواقع الستاتيكي لينتقل إلى أعماق اللوحة عبر الأعين.

والعيون الفزعة مفتاح للفضية، تأملها إذا شئت لفترة ثم أغمض عينيك، وستجد إذن أنك تعبر خلالها إلى مسافات وسنين لا حصر لها.

ولأنه يستطيع أن يكون ستاتيكياً، فإنه يرفض أن يفعل، إنه يهرب من الجمود الجمالي المسيطر على الفن ككائن، ولذا فإنه يحيي كائناته في لوحاته ويصرخ في وجوههم أن افعلوا شيئاً بحق الله، فأنا ديناميكي لأني يجب أن أفعل.

والفنان هنا ملتزم قضية الإنسان في ماضيه ومستقبله، ولكنه غير ملزم بحاضره.

لماذا يرفض الفنان حاضر الإنسان؟ والجواب هنا من لوحاته وأعماله: لأنه يؤمن بالمستقبل الإنساني، وحتى الماضي الأسطوري يُستغل لتحقيق هذا الأمر.

ونبعة فنان غريب الشأن، فلوحاته ليست للاقتناء الشخصي، لأنها لا تغري هاوياً باقتنائها، لأنها غير شخصية ومخيفة أيضاً.

الحق يقال أن نذير نبعة فنان لم يعرف بعد من أين تأكل الكتف، وأن ما هو مطلوب منه الآن وبعد، أن يبقى غير شخصي وأن يستمر في طريقه.

إن كل ما نستطيع قوله حتى هذه اللحظة بالذات، هو أن فناننا الشاب لم يقل كل ما عنده، وهو محب للإنسان في ماضيه ومستقبله، لذا فإنه سيقول أشياء أخرى كبيرة وخطيرة في سنيه القادمة.

إننا ننتظر بمحبة!


وليد إخلاصي