فضاء نذير نبعة

الفنان نذير نبعة من أقصى حدود التجسيد إلى أقصى حدود العفوية

فضاء نذير نبعة

على كثرة ما كتب وقيل عن معرض الفنان الكبير نذير نبعة الذي استضافته غاليري أتاسي في دمشق، أريد أن أشير إلى مسألة جوهرية، وهي أنه لم يكن في أية مرحلة من مراحله الفنية ملتزماً ينمط أسلوبي محدد. فهو حين أنهى دراسته الأكاديمية في القاهرة، وعاد إلى دمشق، أقام معرضاً لأعماله خلال العام 1965، تضمن مجموعة لوحات بأساليب مختلفة، حتى أنه في اللوحة الواحدة كان يجري تحريفات شديدة في رسم الأجساد والوجوه في قسم من اللوحة تصل حدود التسطيح. ويعمل على إظهار نمنمة تفصيلية في القسم الآخر. وهذا يعني أنه كان ومنذ البداية يميل إلى الدقة ويميل إلى العفوية بآن واحد.

هكذا تميزت لوحات بداية انطلاقته الفنية في دمشق بطابع في حديث جمع بين الروحية الفرعونية مع ما هو تحويري ومسطح ورمزي حيناً، وقد نوع في التقنيات وقدم السطوح الخشنة والناعمة، كما نوع في المواد اللونية، ومارس الرسم التوضيحي للكتب والمنشورات، في حين استمر آخرون من جيل الحداثة التشكيلية على نمط أسلوبي وتقني لم يتغير إلى الآن.

وإذا كان نذير نبعة في نمنمته التفصيلية التي قدمها في مراحل لاحقة، قد اتبع أسلوبية معينة تميزت بواقعية تصويرية دقيقة، اهتمت بالمهارة التقنية وأجادت الشكل في آن واحد، فإن هذا لم يمنعه بعد سنوات طويلة من العودة إلى الاختيار التقني، والبحث عن صياغة تشكيلية عفوية تستعيد تلقائية الانفعال التي تميزت بها أعماله الأولى وأعماله التي رأيناها في المعارض المشتركة في السنوات الأخيرة والتي مهدت لإقامة هذا المعرض.

وأبرز ما يظهر في لوحات نذير نبعة الجديدة اعتماده على عجينة لونية سميكة، بالإضافة إلى معالجة هذه المادة بمشحف الرسم أحياناً، بضربات شاقولية وأفقية، وعلى الرغم من كل هذه العفوية وكل هذه الانفعالية، فأنا لا أستغرب ما وصلت إليه تجربته، لأن الفن هو بحث دائم، والفنان يجب أن يكون حراً في عمله حتى النهاية ولا يعني ذلك أن يتخلى الفنان عن دراسة المساحات والمادة والتقنيات التي يشتغل عليها.

بين العقلنة والارتجال
تجربة نذير نبعة في تحولاتها الواقعة بين ما هو عقلاني وما هو انفعالي، تفسر إحساسه ومزاجه، إذ يكون في حالة هدوء أثناء تنفيذ النمنمة التفصيلية، ويكون عكس ذلك تماماً في لوحات أخرى، مثل لوحات هذا المعرض. والمهم في الحالتين كيفية النقل الفني للحالة التي يعيشها، وهذه الحرية في رأيي، هي من حق الفنان، إذا كان صادقاً مع نفسه ومع عمله، وهي التي تحقق السعادة في التعامل مع المادة اللونية، وتقود الفنان إلى أن يكون ذاته وشخصيته، ولا يكون مقيداً ضمن قوالب مسبقة وضعها لنفسه (وهذه الحرية في التعامل مع الأشكال والمواد والألوان هي التي جعلت فناناً أسطورياً مثل بيكاسو ينتقل من مرحلة إلى أخرى ومن أسلوب إلى أسلوب).

إغراءات تراثية باهرة
لا تزال اللوحة الرصينة التي قدمها نبعة في سنوات العمل الطويلة، حاضرة في أذهان الفنانين والمتابعين والجمهور، بمعنى أن موضوعاته وتخيلاته وأساطيره لا تزال مسيطرة على عقول المشاهدين، لما لها من حضور خاص ودافئ وحميم في ذاكرة الفن التشكيلي السوري المعاصر، فإذا كان في سلوكه التشكيلي والتقني المغاير قد أخذنا إلى عوالمه الجديدة المفتوحة على الارتحال الدائم والغوص في روحية ليست بعيدة عن أحوال التصوف والنورانية، فإنه لا يزال يذكرها بجوهر إشاراته الفنية، ومناخاته اللونية الدالة عليه في عالم الأسطورة والحلم.

فقد كان من المحافظين القلائل على أصالة التراث العربي، ومن الباحثين عن يقظة شرقية تستعيد تفاصيل أزياء وجواهر وزخارف وجماليات ومظاهر ناس قديم الزمان، حيث اكتشف عن طريق النماذج التراثية المحلية والشرقية (الأزياء التقليدية، الصدفيات، الزجاجيات والأواني المزخرفة، الجواهر والحلي)، أن اللوحة هي فسحة يمكن من خلالها إعادة الاعتبار إلى معطيات التراث الفلكلوري والشعبي الذي يتعرض للزوال.

ونستطيع أن نرى في تلك اللوحات التفاصيل مجتمعة، ذاهباً إلى توليف الأشكال الواقعية بطريقة خيالية، رغم أنه في أحيان أخرى يحافظ على الجو الواقعي للمشهد، ولقد وصل إلى جماليات جديدة ومبتكرة لا تطلق الأصل ولا تقلده.

كان يركز لإظهار الأجواء الرمزية والأسطورية وتغييب هذه الأجواء في بعض الأحيان على حساب بلورة وإظهار الإحساس بالمنظور الواقعي على الأقل في مجال التأكيد على صياغة اللمسة اللونية الهادئة التي تعطي الأهمية الأولى لتدرجات اللون والنسب والعناية بالتفاصيل الصغيرة التفصيلية. هكذا عمل على إيقاظ الروح الحاضرية من سباتها العميق بالمزيد من التفاني والدقة والصبر الطويل للوصول إلى اللوحة التي تقتنص ملامح خاطفة من ليالي شهرزاد، تلهي العين وتثير الحنين والإعجاب وتعبر عن الهواجس الشرقية عبر تداعيات رموز المرأة والحنين الشاعري نحو أجواء لقطات جلسات حب رومانسي وطرب وسهر مستشفة من مسرح أحلام ألف ليلة وليلة.

وهذا يعني أنه فتح أمام المشاهد نوافذ على حكايات أسطورية من دفق حياة الزمن الغابر، وشكلت تلك اللوحات مدخلاً لدراسة موضة أزياء وجواهر وعادات وعفوية حياة أيام زمان، وهو في الغالب يقيم علاقة مزدوجة بين صورة المرأة بنظراتها الثاقبة والخلفية التي يزخرفها ويكثف فيها الأشكال الصغيرة والدقيقة وبمزيد من العناية والجلد والصبر الطويل. وقد يستبدل الزخارف والأواني والأشكال القديمة بتشكيلات نباتية، فيجسم أحياناً المرأة وهي محاطة بنباتات الزينة والفواكه والأزهار، كما يذهب إلى إبراز ثنيات الثوب عبر تقنية خاصة تصل إلى تغطية مساحات لابأس بها في اللوحة.

تداعيات مختلطة
في معرضه الجديد، الذي جاء بعد عقدين ونيف، تتلاحق التداعيات من الواقع والذاكرة، من اليومي والمتخيل، من الماضي والحاضر، فالتضاريس اللونية المحفورة والناتئة تختزن تاريخاً، وتتحول إلى ذاكرة شخصية وتأملات ذاتية لجروف صخرية شاهقة اكتشفها الفنان أثناء زيارته لبعض المناطق الجبلية المحيطة بمدينة اللاذقية. وسطوح لوحاته الجديدة تذكرنا أيضاً بجدران المغاور والحضارات القديمة، وتثبت من جديد الرموز التاريخية والأسطورية، وتحول اللوحة إلى سجل لذكريات طفولته ونشأته في بيت طيني في منطقة المزة في دمشق.

كلها مفردات لذاكرته الشخصية وذاكرة التاريخ الحضاري، وهذا ما يتبادر إلى الذهن في اللحظة الأولى لمشاهدة المعرض.

غير أن الإمعان أكثر في التأمل والملاحظة يفتح النص التحليلي على الكثير من التأويل والاجتهاد اللامحدود. فلوحات المعرض تعبر عن الزهد والروحانية والتقشف. هذا الانفلات نحو اللانهائية واللامحدودية، أي نحو المجهول، يدفع العين نحو التحسس لموسيقى اللون التي تنبع من القلب لا من العقل كتعبير مطلق يتولد من خلال الحركة التلقائية المتدفقة.

نحتار كيف نصنف نذير نبعة، لأنه في تحولاته الفنية، من أقصى درجات الدقة إلى أقصى حالات العفوية، يلغي كل تصنيف، يقتنص أسرار التقنيات المختلفة والمتناقضة، فهو يعجب برؤية لوحات فناني عصر النهضة ورسوم الرومانسيين بقدر ما يدهش في اكتشافه لحيوية وجنون اللون في التشكيل الحديث. كأنه رسام أجواء القرون الماضية، وبآن واحد، رسام الحداثة وما بعده الحداثة. الرسم عند نذير نبعة يجمع ما بين اتجاهين، واقعي وتجريدي (رغم أنه لا يعترف بهذا التجريد)، تجسيدي وتلويني، فهو معلم في صياغة تفاصيل من تركيبات الأشكال القديمة الوجوه والمشاهد الإنسانية، وحيث يحدد التفاصيل يبرز قدرة فذة في صياغة موسيقى النور وموسيقى الظلال.

إلا أن هذا الشعور بقدرته على تجسيد الشكل والحركة والتفاصيل الدقيقة، سرعان ما يتغير، رأساً على عقب، عندما نستشف في لوحاته الجديدة جرأة مدهش تقطف حرارة التواصل مع نبض الحياة ونبض التجارب ونبض العصر.

نذير نبعة هو التجاوز بين الواقعية واللاواقعية، وهو التنقل بين أقصى حدود التجسيد وأقصى حدود التجريد الإشاري الذي يوحي بالشكل. وهو التحول من ترميز محض إلى تشكيل محض.

لأن ما نراه في هذا المعرض لا يرتكز على خبرات نبعة في صياغة التفاصيل الواقعية وتدرجات الظل والنور والشفافية واللونية.

لوحاته الجديدة توحي بأشكال الصخور والطبيعة والجدران القديمة، بقدر ما تنحاز إلى التجريد، فهو يرتكز على قوى الانفعال، ويصل إلى اللوحة التي تغاير الواقع العيني، بل إن معطيات الصدفة قد تتدخل في تداخل الألوان بعيداً عن أي تصور مسبق، فالنقدية عنصر أساسي في المعرض، وهي تحول اللوحة إلى سطح للعب بالعجينة واللون، فلا يبقى في حدود الاستفادة من معطيات بحوثه السابقة، إنما يتخطى ذلك، مع أنه يعمل في النهاية على تقريب المناخات اللونية من مناخات لوحاته السابقة بالقدر الممكن.

وهو لا يرسم لوحة، إنما يقوم بتشكيل سطح تضاريس مشغول بحس مباشر وبمزاجية تنتهي ولا تنتهي، وتقنع ولا تقنع، بل تجعل للمغامرة وللقلق الفني مكاناً في المعرض.

التباينات الشديدة والواضحة كل الوضوح بين لوحة اليوم ولوحة الأمس، جعلت من المعرض فرصة لإثارة الجدل، حيال لوحة نبعة التصويرية واللاتصويرية (قد تلتقي لوحتها الحديثة بكثافتها اللونية بتقنية الرولييف الجداري) وقد يكون المعرض ـ كما أشرنا ـ هو الإجابة الصريحة، لحاجته بالعودة إلى ذاته، إلى الاختبار الفني الذي يقربه من العصر، فالتكوين الذي يتجه إلى التجريد، ليس بمجاني كما يفهم البعض، وإنما هو لغة، وثقافة جديدة لفن الواقع، وهو أكثر صعوبة من أبجدية النقل الحرفي لتشكيلات الواقع نذير نبعة يتطور من داخل ذاته بغية الوصول إلى ألوان الأرض وألوان الطين والطبيعة فهو في هذه المرحلة لا يرسم الواقع، وإنما يجسد صداه في نفسه. كأنه يعيد تجسيد الإشارات بإيقاعات هاجس توازن النور مع "تونات" اللون المحلي المنتسب إلى جغرافية المكان. فاللطخة اللونية العفوية عنده تستمد حيويتها من تفاعلات مثمرة مع بعض الاختبارات التجريدية التي أطلقتها عواصم الفن الكبرى، من حيث التركيز على الملمس الخشن لسطوح الألوان والوهج النابع من بؤرة مركزه في اللوحة.

تجريد الشكل
لوحات معرض «تجليات» تزاوج بين الحركة اللونية كإيقاع انفعالي وتعبيري داخلي وبين التوازن الكتلوي الآتي عبر اختصار الشكل الواقعي وتجريده وتجسيده كلون مستمد من مؤثرات الواقع والعصر.

فالمعرض الذي لاقى سجالاً حاراً في أوساط الفنانين والمهتمين، لا يشكل انغلاقاً أو تراجعاً كما يفسره البعض، بقدر ما يشكل حواراً مفتوحاً مع الحرية التعبيرية المستمدة والمتفاعلة مع مؤثرات العيش، فالفن لا يعني الجمود واجترار مفردات وشعارات جاهزة، إنما يعني ترويض إيقاعات القلق الفني للوصول إلى تحول نوعي، فكل جديد في الفن يصدم، لأن صالات العرض في دمشق (مع بعض الاستثناءات) هي سوق مفتوح على المألوف، على المقبول والجاهز، لا على المغامر والطليعي بأشكاله الكاسرة، الصادمة، وهذا يعود بالطبع إلى فقدان الذاكرة المحرضة على الابتكار والتجديد، داخل اللغة الفنية ذاتها.

والمراقب لبعض خطوات مراحل النتاج المحترفي، لا الصالوني الاستهلاكي، يمكن أن يؤيدني في بعض أقوالي حيال عدم ظهور الأعمال الفنية الصادمة، إلا فيما ندر، وعدم ظهور هذه الأعمال يمكن أن يفسر في سياق الأزمة، التي هي ولية السوق الفنية الهابطة، والتي لم تشهد في السنوات الأخيرة، أدنى تغييرات جذرية في الأسلوب والتقنية (ماعدا بعض التجارب القليلة)، كأن اللغة الفنية المتداولة في معارض دمشق هي لغة المألوف، ربما لأن الأزمة المعيشية الخانقة التي يعيشها الفنان التشكيلي تدفعه في اتجاه مزاولة الفن كحرفة أو مهنة. فالفن في مألوفه الصالوني ساهم إلى حد بعيد، بتراجع أو اضمحلال الموقف الفني.


أديب مخزوم