فضاء نذير نبعة

أبجدية مفتوحة على التجارب

فضاء نذير نبعة

مما لاشك فيه، بأن الفنان التشكيلي السوري نذير نبعة هو علم من أعلام الفن التشكيلي السوري، وواحد ممن أسسوا وأرسوا جذوراً عميقة لولادة فن تشكيلي سوري معاصر عبر طلابه ومريدي فنه من مختلف الأجيال، تلك التي وجدت في كلية الفنون الجميلة ومرسمه بدمشق مجالاً حيوياً لمثاقفة معرفية وبصرية وأكاديمية وإنسانية بكل حنوها وشفافيتها، لاسيما في ميدان عمله كمدرس للفنون في إطار وزارة التربية أو الجامعة على مدار عدة عقود. وأمسى مرجعية معرفية وبصرية للعديد من التجارب الفنية التشكيلية السورية منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اللحظة الآنية المعايشة، لتفرده وخصوصيته التعبيرية والتقنية والفكرية المنحازة بطبيعة الحال لذاكرة المكان العربي بكل ما فيه من شمولية وتكامل حضاري وإنساني، وما تحمله تقاسيمه البصرية من تفاصيل الحكاية السورية منذ العصور المغرقة بالقدم وحتى وقتنا الراهن.


آلهة الموسيقى لنذير نبعة

إذ شكلت الأسطورة (الميثولوجيا) السورية الموشاة بروحية الحكاية الشعبية ذات النزعة المدرسية الأكاديمية مجاله الحيوي كتعبيرية متطورة على الدوام متنقلة أو جامعة للاتجاهات الانطباعية والواقعية التعبيرية والرمزية المعانقة لزهو اللون وحركية الخطوط والتمكن المهاري لملامسة التقنية وقدرته على صف مفرداته الفنية التشكيلية ومقولاته المنحازة لقضايا مجتمعه، كل ذلك جعل تجاربه محببة وسهلة التفاعل ما بين عين المتلقي ورؤية الفنان. تلك المرحلة التي لازمته منذ تخرجه من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1964 وحتى عام 1997، والتي تبوح بخفايا أسراره كإنسان وفنان بآن معاً. تقدم ذاته الابتكارية وليمة بصرية حاشدة بالخطوط والملونات المتآلفة والمتجانسة وبضربات الريشة ولمسة السكين الأنيقة المنسابة بهدوء وألفة وروية فوق سطوح اللوحة الحاوية على مناهل أفكاره ومدار تفاعله مع شخوصه وأدواته الفنية التعبيرية، ومسرباً لقدح زناد مخيلته وحدسه وهندسة بيانه البصري وتوزيع مفرداته الفنية التشكيلية فوق بياض اللوحة المفتوحة على الحساسية والتآليف وإعمال الخيال عبر يد ماهرة أحسنت صنعاً في تقديم لوحات حافلة بالأنسنة وتجليات المكان العربي بكل إحالاته الدلالية وإشاراته الموحية جامعة في مضامينها كافة أطياف الحكاية الشعبية المشغولة بفهم ودراية فنية من حسن توزيع عناصره ومفرداته التشكيلية. رصانة التكوين وجودة بناء مكوناته واختيار عناصر موضوعه شكلاً ومضموناً ولمسة تقنية حافلة بالموهبة والدربة التي تصوغ تفاصيل حكايته الفنية التشكيلية العاكسة لذاته الوجودية كقيمة إنسانية اجتماعية وجمالية في كافة نسج لوحاته العامرة بالإنسان عموماً والمرأة على وجه الخصوص كسمة وبصمة لصيقة بتجاربه المعمدة بقوة الخطوط ورقص اللون ووضوح الرؤية في توصيف الفكرة المستحضرة (كما أشرنا) من معين تراثه العربي وجمالياته الزخرفية التي تجد لها في خلفية وزوايا اللوحات متسعاً لمكان.

في معرضه المقام في صالة أتاسي للفنون التشكيلية بدمشق تحت عنوان «التجليات» في كانون الثاني 2003، حاول الفنان نذير نبعة تقديم ذاته الابتكارية في أشكال فنية تشكيلية وطقوس لونية وخطية مغايرة تماماً لكل تجاربه السابقة، وهي أشبه بطي صفحة الماضي وقطع الصلة معه تشكيلياً، انفتاحاً على فنون ما بعد الحداثة الشيئية التي تولي للفن المفاهيمي والتقنية وجماح اللون كل الأهمية. ضاربة بعرض الحائط كافة المدارس والاتجاهات المدرسية الأكاديمية، وطلاقاً مؤقتاً للذات الابتكارية المنفعلة بالأحداث الجسام التي تمر بها المنطقة العربية والقضية الفلسطينية خصوصاً من سيادة لمنطق القوة وقهر الإنسان لأخيه الإنسان واستعباده في ظل الحقبة العولمة التي جعلت من المجتمع الأرضي قرية كونية منساقة لشريعة الغاب، محطمة للآمال والأحلام والجمال وتعميماً لحالة الخواء والنكوص التي جعلت من الفنان نبعة يكتشف ذاته الفنية في لبوس وحلول فنية تشكيلية متجددة لم يعد مجدياً فيها التغني الجمالي والشكلي في سياقه المألوف، ولا مكان للحلم ولا لموسيقى الروح وواقعية اللفظة وجموح الخيال، وأمسى العزف على أوتار الحلم والخيال وذاكرة المكان وطيف الإنسان مجرد تركة ثقيلة من الماضي.

هذه الوقائع شكلت مقدمات منطقية للفنان نذير نبعة ليخرج من ثوبه الفني التشكيلي المعروف في انزياح قصدي في مساحة الابتكار لاختيار مسالك جديدة لبيانه البصري الاحتمالي الذي يتطلب من المتلقي ثقافة بصرية عالية موازية تليق بمساحة الفكرة التعبيرية المنسابة في تجليات اللمسة التجريدية كمجال حيوي آني لتأليف فكرته ولوحاته وعناصر مفرداته، مستبدلاً لوحاته وجمالياته التعبيرية الرمزية الحالمة بلوحات آنية عابثة لاهية مقصية للشخوص والأنسنة، مديرة الظهر لمألوفه البصري، مدخلة الفنان في غربة بصرية قصدية تروم معرفة وثقافة بصرية منسجمة مع وعي الفنان الداخلي لدوره الوظيفي وآلية تعامله مع المرئي المباشر، وإقحاماً قسرياً في مساحة اللامرئي كمحاولة مشروعه من قبل الفنان لمشاركة المتلقي حالة الضياع من خلال إقحامه للعبور القصدي داخل كهوف لوحاته وتضاريسه المحملة باللمسة الحسية الغرافيكية المنتشرة كملامس دسمة وكثيفة لتداعيات اللون، واكتشاف خفايا النفس والهوى وإنسانية الإنسان التي أمست في واقعنا الراهن مجرد حالة حلم.

غربة عن الأكاديمية والموضوع لمصلحة التقنية وملامس السطوح. اللوحة لديه هي زمن معاصر مفتوح على التأويل والمساءلة والمشاركة الواعية من عين وعقل المتلقي، تستنهض ذاكرته لرسم صورة تليق بسطوح لونية طليقة ومتحررة من كل القيود مليئة بفيض الرموز والترجمات البصرية والمعرفية التي تبوح بها مساحة التأمل، لتكتشف أنها في مواجهة مع ملامح المكان العربي وذاكرته البصرية والمعرفية والحضارية المرصوفة كحالة حلم مازال بصيص نوره يشع في تضاريس اللوحات في ملونات تزهو بشمس الشرق وأصالته، حداثة متجددة في قوالب بصرية مكرسة لأبدية تشكيلية راقية مفتوحة على التجارب.


عبد الله أبو راشد