فضاء نذير نبعة

نذير نبعة في «تجلياته»
يصعد جبلاً جديداً في مغامرة تشكيلية يستحقها وتستحقه

فضاء نذير نبعة

أذكر بعد ظهر يوم حار من العام 1987 عندما بدأت تنبثق بين يدي الأستاذ «مستحمة» آنغر، بدأها بتدرجات البني التي سحرتنا، نحن طلاب قسم التصوير سنة التخرج، ثم ملوناً فيما بعد استناداً إلى صورة فوتوغرافية للأصل، وكان مع زعمه بأنه يعلمنا يقع تحت سحر معلم من زمن آخر، ويتمتع بالعمل بصورة استثنائية. وفيما كان يشرح لنا تفاصيل عمل آنغر، كنا نشاهد قوة عمله هو وحرفيته العالية.

كانت تجربتنا الأولى مع عملية نقل لعمل كلاسيكي خلال سنوات دراستنا في كلية الفنون الجميلة في دمشق، تجربة لم يقدم عليها أمام طلابه سوى نذير نبعة، وهذا ما منحه، فيما بيننا، لقب المعلم بين ألقاب الدكاترة التي بدأت بعدها بالانتشار والترسخ.

ورغم انتقالاته المهمة في محطات تجربته الفنية الطويلة ظل اسم نذير نبعة مرادفاً بشكل رئيسي للمحطة الأغزر إنتاجاً والأطول عمراً، والتي استوحاها من تراثه الوطني ومن روح الذاكرة الجمعية لشعبه، وفيها «امرأة نذير» التي حولها غالباً نحو رموز تتعلق بالأرض والمدينة وقيم الحق الخير، والتي جمعت، على سطحها المشغول بمحبة، الأساطير والموروث جنباً إلى جنب مع قضايا معاصرة مارست تأثيرها عليه وعلى أبناء جيله.

ورغم أن بذور تجربته الحالية في معرضه المقام هذه الأيام في صالة أتاسي بدمشق كانت قد بدأت بالتفتح منذ سنوات، ورأينا لوحات منها في معارض جماعية سابقة إلا أن حجم الزاوية التي فتحها نذير نبعة في هذا المعرض كان مفاجئاً بجميع المقاييس.

وللمفاجأة بعدان يصعب فصلهما: الأول؛ يتعلق بالتقنية المستخدمة، والثاني؛ يتصل باللعب الحساس والمرهف والمتقن في المنطقة الفاصلة بين التجريد والواقعية، والتي وفرت لها التقنية أفضل شكل للظهور، وحيث أصبح من الصعب رؤية أحدهما دون الآخر مثلما أصبح من الصعب رؤية لوحة نذير نبعة الحالية في صورة فوتوغرافية مهما كان مقدار وضوحها أو تمثيلها للأصل.

في الستين من عمره، صعد نذير نبعة جبلاً جديداً في مغامرة تشكيلية يستحقها وتستحقه، نشاهدها الآن بعد خمس سنوات من ولوجها تشكل بالنسبة إليه محاولة لتلمس هواء آخر، نوعاً آخر من التنفس وإشرافاً أكثر علواً وثراء ودهشة. وفي صعوده ذاك تلمس طريقة في رواق حياة فنية وإنسانية زاخرة أوصلته إلى ذلك البعد الفريد من صبوة العقل للغوص والاكتشاف والابتكار، وغير المدقق فقط يمكن أن يفصل تجربته الحالية عن مسارها في تحولاته الهادئة وانبثاقاته التي تأخذ الآن بعداً ثورياً مدهشاً يستند إلى تاريخ غني يبرر تلك النقلة ويحتفي بها بمقدار ما يغذيها ويسندها.

عشرون لوحة من قياسات مختلفة، كبيرة عموماً، شكلت مفاجأة نذير نبعة السارة للفن التشكيلي السوري ولمحبيه ولمحبي العلم، ترب أتت في وقتها تماماً لتذكر بالحيوية التي يتمتع بها الأصيلون وللقدرة النادرة على التجاوز الذي تحرسه وتحفه العراقة والصبر والذوبان في العمل في أفضل صورة له.

تحتفي لوحات نذير بتضاريس الأرض السورية وهو يحضر بعجينته البيضاء أثلاماً ونتوءات وتهشيرات منشئاً عالماً من الغرافيك الصافي تحبه العين وتحار في مساراته وتشكيلاته، ولا تطمئن لعزلته حيث لا بشر ولا طير وإنما فلاة قفر تتناغم خطوطها مشكلة ما يشبه بداية خليقة ما تتكون، كما يقول هو نفسه: «مع مشوار الشمس على سطح خشن كتيم أو أملس شفيف، وفي كل الأحوال مستجيراً بالخيال» أو «يتجلى سارياً من أخدود إلى كهف، متحولاً إلى نافذة صخرية، أو ربما قرية متحجرة خالية من الحياة أو مليئة بالأشباح الساكنة... يتجلى، يخرج من الوهم وينجلي عنه الغموض، يتجسد في سطح اللوحة حتى تراه، يتخذ سطح اللوحة مسرحاً للوجود، ملعباً لسيولة المادة تحت سطح سكين الرسم».

ولكن دخول اللون يعيد الدفء إلى لحم اللوحة، ونتذكر أحياناً خلفيات لوحات نذير الواقعية قبل تسلل الأشخاص إليها مع اختلاف الملمس وطرق المعالجة.

يذكرنا الأزرق الشفاف بسماوات ما تطعنها نتوءات الجبال، بينما ينغلق الأفق في لوحات أخرى تقربها من هذيانات تجريدية تختبر أحوال المادة واللون في حوارهما مع البصر والبصيرة.

ولكن لعبة البصر في الانتقال من بحث عن تشابهات واقعية إلى بحث في قيم تجريدية يقودها اللون والملمس والقيم الغرافيكية، ستشكل لازمة إجبارية لمشاهدة هذه التجربة بكاملها، ولن يكف العقل عن التساؤل القلق فيما واجهه من أشكال، وتكمن هنا بالذات أهمية الجملة الجديدة للمعلم، حيث لا تقترب مع تغريب الشكل إلى درجة القطيعة مع ذاكرة المكان، ولا تغوص في تفاصيله السطحية إلى درجة القطيعة مع روح التشكيل وثقافة البصر وحداثة الرؤى الفنية.

يغري الفراغ الشاسع، ولاسيما في اللوحات التي تبتعد عن أي ذاكرة مألوفة للمكان، باختراع عناصر تضاف هنا أو هناك في فضاء اللوحة، تبعد ذلك الانطباع الموحش الذي يخلفه في النفس وكأنما وضعها نذير هناك ثم أزالها لتظل مثل منارات خفية تهدي للتجول في اللوحة ونستمع إليه والأفكار تراودنا «أدعوك لترسم في لوحتي لوحتك، أدعوك لترسم في فرحي غضبك، أدعوك لترسم في منظري وجهك،لأن هناك نافذة أخرى للرؤية، نافذتي هي فراغ اللوحة، وهي طريقي إلى الأشياء، أدنوا إلى أغوارها، أتلمس في ظلالها فسحة للروح، أو ومضة للحياة، فراغ اللوحة هو طريقي إلى الأشياء».


عصام درويش