فضاء نذير نبعة

نذير نبعة، وما بعد الصورة

فضاء نذير نبعة

ثمة قلق لزم نذير نبعة وهو يعيد قراءة مجموعة لوحاته التي أنجزها حتى عام 1995. في هذا التاريخ وبقوة الزلزال، تمثل نذير أسباب هذا القلق، فثار على الأدب المداهم لنص الفن، وقرر اللجوء إلى أقصى ضفاف الطبيعة المتحجرة على سطوح اللاذقية. هناك تسلق سطوح فن مجرد عن اللغة المحكية وعن الحروف، بأهداب تجاعيد هذه السطوح، باحثاً بين تلافيفها وأعصابها وشرايينها.

لقد انفجرت ضبابات القلق ومضى إلى الكهف لتولد فيه لوحة جديدة، خارجة عن عصر المشاهد الساحرة التي أخذت بلب القابعين وراء كوات صندوق العجائب المدهش، الذي حمل اسم فنان الصعب والمعجز (نذير نبعة).

ثورة شاملة ألمت على محترف نذير، بعدما أغلق جفنه على التصاوير التي كانت قد عششت في أحلامه ليفتح بصيرته على غلالات لونية لعبت أصابعه وسكينة في تشكيل ملمسها، تشف عن مشهد تنقله عدسة لا واعية ولكنها نفاذة، تنكرت بقسوة لشبكية وعيه الشديدة الحدس والحس، يوم كان يصور الكائنات الأسطوريات الرائعات الحسن، وهن في مناخ الفردوس الموعود للأبرار.

غلالات كأنها خيوط العناكب وأعصاب الجنادب وشرايين الفراشات، صاغها بمهارة الحائك على منوال يتحرك عليه مغزل لولبي، يختال من اليمين إلى اليسار، ثم يعود مثنياً، كيما ينهي نسيج بساط لوني يبحث عن عنوان خبئ في حدوس الملتقي. لقد عمد نذير أن يتواجد مع الملتقي بلا موعد سابق، ولكنه أبداً لم يش بأسرار البساط المخملي الذي شده على إطار خشبي بسيط، فإذا كانت لحمة هذا البساط مشهداً أو مدينة أو حشداً بشرياً، فإن هذا يؤسس لما يسمى «ما بعد الصورة»، إذ لم يعد من شأن الفنان أن يقدم وجبة شهية تم نضجها وتم هضمها، مطالباً المتلقي بأن يعيد مضغها بشراهية ولو كراهية. «ما بعد الصورة»، يبدو لي العنوان المناسب لأعمال نذير الأخيرة، فلقد أصبح على نذير وقد استهلك أروع ما تقدمه الصورة، أن يعمد إلى تفكيك الشكل حتى يصل إلى أساسه الهيولي، تاركاً للمتلقي حقه الكامل في إعادة تركيب هذه الهيولى تصورياً. ولعله أصبح يعتقد أنه مع توالي التأويلات تتشكل ماهية اللوحة التي تريد أن تكون الحبل السري الذي يربط الفنان بالجمهور المتلقي، فالفنان يغيب ولا يموت، يغيب في فضاء نصه التشكيلي وفي ضباباته عن قصد، رافضاً أن يكون هو النص الذي يؤلفه.

لقد أعطى نذير كل قارئ على حدة، حرية التفكيك والتأويل والإحالة، فلم يشأ أن يبقى عمله سراً مقفلاً. ففي اللحظة التي وقع فيها على عمله، قدم خاتمه الذهبي هبة للمتلقي أن يكمل مشوار الإبداع بالتلقي، مشوار الفعل يرد الفعل، مشوار التجلي بالإشراق.

ونحن الأمناء على حضور المؤلف في نصه، نرى نذيراً متجلياً في لوحاته التي تقرأ فيها حفراً في أعماق أركيولوجية المشهد البصري، الذي تجاوز جميع طبقات الأشكال الظاهرية، إلى أن يصل إلى الطبقة البكر، لطبق الجوهر التشكيلي القابع خلف الصورة التي تزينت بأنواع الأصباغ الحضرية.

لكن نذير استطاع أن يصل إلى الطبقة الجوهر من دون أن يحرق الأعصاب ويكسر الهياكل ويمسح الأدمات والبصمات، مستعيناً بحصافة المعمار الدؤوب، لبناء معاني الحياة في لوحة اتهمت بالعري والتجريد، لولا الدورة الدموية التي انتشرت في جسم اللوحة، حتى ولو كانت مشهداً لمقطع توالت فيه طبقات الصورة في الجيولوجية اللونية.

كان نذير قد أسهم في خلق «واقع تشكيلي» صار مدرسة لم يطاوله فيها رسام آخر، واستمر أميناً على موهبته وخياله الخصب في إنشاء مرحلة فنية انتصر خلالها على المستحيل وغير الممكن في الواقع، وها هو اليوم ينقلب على الواقع التشكيلي الذي صنعه، لكي يخترق عالم الصورة إلى أبعد أعماقها، مكتشفاً هيولى الأشكال والمشاهد، هذا العالم السحري الذي يدركه العقل والحسن والخيال وتصنعه التقنية والعلم. تلك هي المآثر الثابتة التي تميز بها تاريخ نذير نبعة منذ بدايته قبل خمسين عاماً، وحتى وصوله اليوم في هذا المعرض على هودج النجاح والانتصار على الشكل، بحثاً عما وراء الشكل المرئي والصورة وصولاً إلى اللامرئي وغير المتوقع.


عفيف بهنسي