فضاء نذير نبعة

في معرض الفنان نذير نبعة في المركز الثقافي العربي بدمشق

فضاء نذير نبعة

لقد أثبت نذير نبعة في تجربته الجديدة قدرته على الوصول إلى الصيغة المبسطة والمعقدة في آن واحد، والتي تتلاءم مع رغباته في ربط الفن بالناس، وتقديم أفكاره عبر شكل من التعبير يتوافق مع قطاع كبير قادر على التفاهم مع اللوحة وتذوقها ببساطة لكنها ليست البساطة السهلة كما يبدو لأول وهلة بل هي البساطة المعجزة.

إذ أن الحوار الآن يجري مع الأشياء التي تحيط به، يستخلص منها أكثر الأفكار، ويعمق بحثه فيها حتى تنطق بكل ما يريد قوله وما يريد أن يعبر عنه.

إن علاقته بالأشياء تبدو حميمية لأنه أصبح قادراً على توليد كافة الأفكار التي يريد منها، ولهذا فهي ليست مرسومة بدقة مذهلة كما نرى فقط، بل هي تحمل الأفكار والمواقف، وهي عناصر هامة مثلها مثل الأشخاص، وقيمتها كالفوضى التي تحيط بهؤلاء الأشخاص والتي تولد الحالة التراجيدية، ولهذا نحس دوماً أننا أمام إنسان وأشياء وقوى مغالبة، وقد نصل إلى صراع الإنسان مع الفوضى التي تغالبه، وتقف الأشياء هنا معه، تساعد الإنسان على التعبير عما يخالجه، وتقدم بعض مواقفه، ولهذا فهي مرآة حقيقية تعكس حالة الإنسان وموقفه في هذه اللحظة.

وهذا يؤكد لنا على عمق ما نحن بصدده الآن، فلسنا أمام قدرة مذهلة على الرسم بدقة قد تبدو معجزة لأول وهلة، وقد تعكس لنا براعة مذهلة، لكنها ليست البراعة المجانية التي تريد أن تقف عند حدود إظهار المقدرة، بل إنه يريد أن يتعمق في الأشياء التي نراها حولنا لتساعده على إبراز مواقفه، وعلى مخاطبة الناس وعلى الوصول إلى أن كل الأشياء التي يقدمها الفنان في لوحته لها أهمية كبيرة، لأنها تمثل المعاني الموظفة لها، وليست مجرد أشياء حولنا لا معنى لها، ولا تفسير لوجودها، بل إن العناية التي تصرف لها تعني بعضها، وتقديم الشيء على أنه المعنى الجوهري الذي يكشف لنا قيمة ما نراه في اللوحة التي هي عبارة عن كل متكامل.

إن الفرح العميق الذي تكشف عنه بعض الوجوه، أو الحزن الدفين الذي نراه في بعضها الآخر، يولدان لنا حواراً مع الأشياء التي في اللوحة، ويساعدان على إبراز المضمون، ولهذا فاللوحة ليست مجرد تمثيل لتراجيدية الحياة عند الشهيد مثلاً، بل هي محاولة لكشف قيمة ما يقدمه هذا الشهيد، ولهذا فاللوحة توحي لنا بالفرح عن طريق الأشياء، من زهور وغيرها، ولا تقدم لنا المأساة وحدها، ذلك لأن توظيف الأشياء قد ساهم في إبراز المضمون وساعدنا على إدراك أن الوردة الموضوعة والتي أعتني بها، لها دلالة عميقة مثل أي شيء وضع في اللوحة، ولا يمكن أن يكون وجودها مجانياً، بل إن التأكيد على تفاصيل الأشياء من بشر وقوى فوضوية، وعناصر أخرى، هي التي تساعد على توليد الأفكار ووضوح معانيها. وهكذا ظل نذير نبعة محافظاً على فكرته الرئيسية التي انطلق منها منذ البداية، وهي أن في قدرته أن يولد أعمق الأفكار عن طريق أبسط الأشياء، وأن في قدرة الزهور مثلاً أن تولد معاني عميقة، أو النباتات، وحتى الطحالب أو الزنابق، بل يمكن أن يستغني عن الإنسان أحياناً ليتحدث عنه بوسائل أخرى وبطريقة مغايرة لما هو مفهوم ومتعارف عليه.

ولهذا فالمرحلة الجديدة التي يمر بها نذير نبعة هي مرحلة تعلق صوفي بالأشياء لاستنفاذ ما فيها من قيم، وتوظيفها لتخدم الهدف الأساسي الذي يسعى له، وهذه العملية تبدو شاقة لأنها جعلته يستغرق في تفاصيل دقيقة أحياناً، تجعلنا في موقف المقارنة مع الصيغ الهيولية الأخرى التي نراها في اللوحة، وهكذا تنتج الفكرة من المقارنة، ونتوصل إلى صيغة جديدة من صراع الإنسان من أجل البقاء والاستمرار، في وصفه ضمن حالة الصراع وهذا الشيء يبدو هاماً في تجربة نذير نبعة كلها.


طارق الشريف