فضاء نذير نبعة

نذير نبعة في تجلياته اللونية... القطيعة والتصادم

فضاء نذير نبعة

باقتدار فنان مخضرم تمكن التشكيلي المعروف نذير نبعة من إحداث صدمة لدى كل من شاهد معرضه الأحدث المقام حالياً في غاليري أتاسي بدمشق حيث خيب آمال المشاهدين الذين تربطهم علاقة قربى بلوحاته السابقة، فأخلفت عشتار موعدها كجسد أسطوري تقمص لوحات نبعة لعقود خلت، ولم تحضر عشتارياته بتنوعها إلا بفعل الغياب الذي تساءل المتلقي عنهن. فإذ بالمقارنة تسحب لوحاته من أحلامها وتزج بها في معرض غير قوانين اللعبة بطريقة مدهشة إلى درجة الصعق، الأمر الذي يتطلب أدوات جديدة في التلقي يقودها نبعة بخبرة حاوي أخرج من أنامله معزوفة من مقام مختلف. هكذا تقود لوحات المعرض الاثنتا عشرة المتلقي إلى أجواء التجريد طالبة منه إحداث قطيعة في علاقته مع المرحلة السابقة في تجربة نبعة، ولعل الشيء الوحيد الذي تعلنه اللوحات مواربة هو طرد كل من يعجز عن إنجاز هذه القطيعة من عالمها، هكذا وبفعل القطيعة والتصادم، يؤسس نبعة لآلية جديدة في تلقي لوحاته، هذه القطيعة التي طال انتظارها بعد أن كادت تكون غير موجودة، حيث بدا نذير وقد «استقر» منذ سنوات كما ظن البعض محاطاً بأعمال تستلهم الأسطورة متكئاً على تاريخ من الأمجاد صنعته له لوحاته في ذاكرة المشاهد. ولأنه الفنان المسكون بالقلق غادر لوحته السابقة ـ ولا ندري إن كانت هذه المغادرة مؤقتة ـ ليصوغ رؤاه بأسلوب جديد بكل معنى الكلمة. لكن ما الجديد الذي يحمله هذا المعرض؟

«تجليات» عنوان سري
أول ما يستقبل مشاهد المعرض عنوانه (تجليات)، هذه الكلمة المأخوذة من عالم الصوفية هي المفتاح الدلالي لهذا المعرض، فكما في عالم التصوف على قول النفري (كلما ترامت الرؤيا ضاقت العبارة)، والعبارة في تجربة نبعة هي الدلالة الواضحة التي تضيق إلى حد التلاشي، فليس في هذا المعرض ما هو مقروء سابقاً ومن المستحيل توصيفه كتابياً، إذ أنه يملك لغته الخاصة به تماماً بمعزل عن أي نظام سابق.

التجريد والعلاقة مع المتلقي
في لوحاته السابقة لهذا المعرض، كان الموضوع حاضراً بقوة سواء عبر استحضار الأسطورة أو عبر العناصر البيئية من مصابيح ونايات وعيون مفتوحة على أقصى اتساعها حيث يمكن للمتلقي أن ينسج حكايته فقط، أي أن اللوحة ليست أكثر من خيوط أولية تقود المتلقي في عوالمها نحو جماليات ظلت تحتفظ بصلات وعنصر ما يربط بين الفنان والمتلقي، فالعلاقة بينهما تضمر شيئاً من القصدية في الإرسال والاستقبال، بينما في هذا المعرض الذي تغيب عنه الموضوعات الواضحة، فإنه يترك لوحته في عالمها تنجز علاقاتها مع كل متلق لتولد دلالات لا نهائية تتجدد مع كل محاولة للدخول إلى فضائها، وبالتالي تحمل هذه اللوحات الكثير من المراوغة التي تمنحها حيوية مفتوحة على الزمان والمكان.

قطع الأنساق
من ما هو جديد في هذا المعرض أنه ينسف أي محاولة لتوضيع اللوحة أو المعرض في نسق أحادي، فمن البداية يقطع نبعة نسق هذا المعرض مع تجاربه السابقة نحو توليد أنساق جمالية جديدة، ولكن هذه المرة عبر التجريد الذي ينكر أصلاً مفهوم النسق. وعلى مستوى المعرض ككل، ما إن يحاول المتلقي إيجاد نسق ليتمكن من قراءة المعرض من داخله حتى يفاجأ بأن الفنان يقطع له هذا النسق، فمثلاً إذا حاولنا ربط المناطق العليا في اللوحات سنجد أنها لا تستقر على نسق واحد، فمنها المضاءة بقوة ومنها المعتمة ومنها الشاحبة وكذلك الأمر مع المناطق السفلية من اللوحات أو مراكزها، جانبيها، وتوهم بعض اللوحات المشاهد بوجود نسق يعتمد حضور الخطوط الأفقية على حساب الخطوط العمودية في بنية اللوحة، فإذ بلوحات تقوم على التقاطع المتكرر وبنسب مدروسة بين ما هو أفقي وما هو عمودي، وتشير بعض اللوحات إلى اللعب على مفهوم المنظور الذي يعدم الأشياء في العمق وإذا نحن أمام لوحات من بعد واحد.

اللون ذريعة اللوحة
يستخدم نبعة اللون ليس كعنصر خام بل كذريعة وموضوع بحد ذاته، فالتجريد يمتطي اللون ليقول ما خلفه، فباستخدام الأكريليك على القماش بتقنية السكين، يمنح جلد اللوحة بشرة تقتحم الفضاء مشكلة طبقات متتالية تندفع نحو المتلقي لتحرضه على مداومة النظر بحثاً عن تأويلات جديدة لا علاقة للون أو للفنان بها سوى كونهما ذريعة تيسران طريق التأمل والدخول إلى أعماق الذات، ولأن اللوحات تشي في أكثر من بؤرة بأنها صادرة عن حالة جوانية لدى الفنان يمكن لها أن تقفز عبر قوس اللوحة إلى أعماق المتلقي دون الحاجة إلى مخاطبة العقل عبر ما هو واقعي وقابل للتسمية، أي تشكيل منطق خاص به كما هو الحال في تجارب نبعة السابقة، أما في هذا المعرض وعبر عتبة التجريد يمكن للأرواح أن تلتقي بين الفنان والمتلقي.

غنى المعرض وكثافته يحتاجان إلى قراءات لا نهائية نكتفي منها بما سبق لنخلص إلى أن هذا المعرض لا شك سيغدو مفصلاً في تجربة الفنان نذير نبعة حيث سيكتب تاريخ الفن التشكيلي السوري عندما سيقف ملياً عند أعمال هذا الفنان ما قبل معرض تجليات 2003 وما بعده.

لهذا، فمن لم يشاهد هذا المعرض سيفقد إحدى أهم حلقات التشكيل السوري التي أغناها ويغنيها نذير نبعة حاملاً شعلة أورفيوس بشجاعة وحب كبيرين يستحق منا أن نرفع قبعاتنا له احتراماً. فشكراً نذير نبعة القلق على الدوام.


ماهر عزام