فضاء ياسر حمود

أقوال النور:
إشراقات الغامض الواضح

فضاء ياسر حمود

-1-
المقتبس المأخوذ من شذرات أدونيس الذي صدّر به الفنان ياسر حمود كتاب (إشراقات) المصور عن أعماله لأعوام 2003-2008 ينسب للضوء فماً يقول: إن النور لا يوجد لكي يقود إلى الوضوح والانكشاف، وليسهّل مهمة التواصل التالي والضروري مع ما تنتجه الأعمال الفنية والأدبية من معانٍ، وقد كان أدونيس دقيقا في التفريق بين الضوء والنور، فالضوء يكشف وتَبين به هوية الأشياء وأشكالها لأنه خارجي جسدي قادم من مصدر خارج الذات المبصرة، أما النور فإنه دعوة لنرى ونبصر لأنه روحي داخلي يكمن في الأشياء والصور والبصريات المنزرعة في فضاءات العالم وجهاته، فما الوضوح الذي يقود إليه النور في سطوعه وإشراقه إلا سَفر في (ليل المعنى) حيث لا ضوء يعين ويكشف سوى الهجس والتوقع وتشكيل الدلالات –المتسعة عن المعنى الجزئي والظرفي والمباشر- فيظل النور متخلقا في رحم الأشياء ينتظر أبصارنا وبصائرنا –الناظرة والمفكرة –لكي تستوعبه وتدركه.


من أعمال ياسر حمود

فما الوضوح إذن في عملية استيعاب الأعمال النورانية والإشراقات الداخلية كالتي جسدتها أعمال الفنان ياسر حمود إلا منتجا لمزيد من الغموض حيث لا وضوح بالمعنى التداولي إذ تتسلم أبصارنا أشكالا مصنفة في رموز أو معان واضحة، فوضوح كهذا ليس نهاية الغموض وانفتاح النصوص على جماليات الواضح بل كما يقول أدونيس في المقتبس، إنه على العكس ليس إلا بداية الغموض الذي انشغل به فنانو الحداثة وما بعدها كما انشغل الشعراء حين كانت تلاحقهم أسئلة المعنى والبحث عبر عين المشاهد عن معادلات أو مساويات للكتل البصرية التي تتراكم فوق السطح التصويري في مؤاخاة فنية خاصة بين عناصر العمل الفني لونا وخطا، و بُعدا عمقا، ظلالا وأضواء. فيتعالق في عتبة التقديم التي توجهنا في إشراقات ياسر حمود وقراءتها بصريا الإشراق الجواني مع التعبير عنه فنيا بالقصيدة كما باللوحة، تختلف الوسائط لكنها تصب في نهر جمالي يجري باتجاه الأعماق التي عادت مستودعا يغذّي اليد وهي تدوّن رسائل العين المبصرة التي لا تقوم بوظيفة الإبصار فحسب بل هي (تسمع) كما كان المصريون القدامى يعتقدون، وتلتقط ذبذبات الإيقاع الكامن في المرئيات. وربما تراجعت باتجاه الاعتقاد القديم الذي سيطر على الفكر الإنساني طويلا حين كان البشر يفسرون الرؤية بخروج الضوء أو النور من العين، وهذا ما ستستكمله تداعيات الفنان المكتوبة في مدخل الكتاب المصور والتي عنونها بعنوان ذي دلالة (بالفن أقتل الموت) وهو ما تناهى إلى مسمعه أيضا من أقوال نورانية تتهادى في إذنه فتتمثلها عينه ثم لتترجمها يده صورا وأخيلة وغنائيات لونية لا تخرج عن حدود الإشراقات التي أرادها مؤطرة بالبياض ومفعمة بالنور والضوء: النور القادم من الداخل والضوء المقتنص من مرائي وتمثلات بصرية منجزة في أقصى حالات التماهي والاعتكاف على صبوات الذات ورهافة حسها بالعالم وموجوداته.

-2-
وإذا كان المكتوب يعضد المرسوم ويجلي مشغّلاته ودوافعه فإن قول الفنان ياسر حمود عن النقطة التي تختزل كل الخطوط، يعيد ما يطرحه الصوفيون عن تشكل العالم ووجود النقطة في كل جزء من خط الحياة الممتد من وجودها الأولي وتكوين الخط ذاته من تلك النقاط المتسعة عن نقطة البدء، بحيث نستطيع العثور على موقع النقطة في أي مكان نمحو فيه امتدادات الخط واستطالته فما الخط من بعد إلا مجموع نقاطه ولا وجود له إلا بها، ولولا النقطة لما ظهر الحرف كما يعتقد المتصوفة انطلاقا من فكرتهم عن وحدة الوجود لذا فالنقطة عصية على الوصف كما يذهب شاكر حسن ال سعيد وإذ لا يمكن لنا وصفها فإننا نتأملها. وذلك جوهر ما تقوم عليه إشراقات ياسر حمود وفيوضات رؤاه اللونية بتقنيات وتكتيكات فنية متنوعة منها ما يدعو قراءتنا البصرية إلى محفل لوني أو مهرجان نوراني مشع بالتجاور أي بالإفادة من خطّية التراتب اللوني وانتظام أو تنضيد اللون بألفة تمنحها له موضعته على القماش مسلما أبصارنا إلى ما يجاوره ويكمله من الألوان التي لا تخرج كثيرا لدى الفنان ياسر حمود عن مجموعة محددة نتعرف عليها بالتكرار، وذلك يعطي اللون قيمة سردية، بينما تقوم المشاكلة اللونية لديه في مرات أخرى على التناقض الذي يدعو للتفكير بضدية المتجاورين لا ألفتهما، فتظهر القيمة الجمالية للّون لا باستكمال وجوده ودلالته من مجاورته لسواه بل من انفصاله عنه ونبذ قيمته وتشكيل النقيض المناوئ لها، وهو ما يبدو خاصة في الأعمال المنفذة بالأزرق وتدرجاته، فإذا كان الأحمر موكلة إليه مهمة تبليغ الرسالة النارية والتحرق الشبقي لمعانقة عالم سري بعيد فإن الأزرق وتوناته المنتقاة برهافة تعكس إحساس الفنان بما يختلط في العالم من عناصر ومقومات والبحث عن موقع الذات بينها.

ولكن لا بد أن توجه معاينتنا للوحات الفنان مسألة هيمنة النقطة استراتيجية وجودها على السطح التصويري بهيئات مراوغة، رغم أن الفنان وبخبرته التصميمية دراسةً وممارسة والموقع المهم للفكر الهندسي القائم على التناظر في منهجه التشكيلي، يفلسف الأشكال ويدعونا إلى سريالية ذهنية تقوم على تصور الهندسة على وفق وعينا بها لا وجودها الكوني كتربيع الدائرة:
أن أربّع دائرتي
وأقتل الموت بأدواتي
وأبحث عن عمق أعمق

وذلك لا يتم إلا بالعودة إلى النقطة التي يبحث عنها الفنان والتي (تختزل كل الخطوط)كما يقول مجسدا فكرة وحدة الوجود.

من إشراقات ياسر حمود

والالتفات إلى مركزية النقطة و أولويتها في الخلق سيقودنا إلى تمثل العالم القائم بفعل التنقيط، وسلسلة وجوده النقطي الغائب عن الأبصار فتتكفله البصائر بالكشف والجلاء للإدراك والتأمل لا المعاينة الواصفة.

وهي أمثولة تجلو وتوضح مسألة الحلول لدى الصوفية وفكرتهم عن انبثاق العالم أو فيضه عن المبدأ الأول له- بدايته وسلسلة فيوضاته اللاحقة –وتغدو الروح والحالة هذه أسيرة حنينها للعودة والالتحام بالنقطة الأولى من دورة حياتها التي يعبر عنها عمر الخيام بانفصال القطرة عن البحر لكنها تعود إليه في منتهى أمرها من خلال تشكلها في سحابة شربتها، وحلقت بها:
فأنا أبحث عن نقطة، اختزلت كل الخطوط
تلد نورا، آتيا من هيكل الشمس
ضوؤه سري أراه وقت لا بصر بعد
أبيضا يجاور أبيض

لقد انقلبت مسيرة الكشف والرؤية هنا عكس مسيرتها في المقتبس من شذرات أدونيس حيث كان الضوء يقول عن النور فأضحى لدى ياسر حمود مبتدئا من ولادته عبر النقطة، من أمومة الشمس وضوئها الذي لا تدركه باصرةٌ ما، ولا تصل إليه، فعليها أن تتلقاه إشراقا وتتلمسه وجودا غير متعين، ليس لأنه بعيد المصدر والوجهة بل لأنه لا يختزل أو يلخص في مفردة أو لون أو معنى فلا يظل إلا بياض يجاور بياضا. وعلى المتلقي إزاء أعمال إشراقية تفيض عن نور فاض أصلا عن أمومة الشمس ألا يرى في ضوء كاشف بل يبصر في لجة نور تمثله تمثيلا تلك الأعمال المرسومة بجدل الوجود الثلاثي الذي ينبهنا إليه الفنان: النور والضوء والبياض وهي مفردات سيمنحها ياسر حمود الوجود الثاني لها على القماش ويدمجها في استعصاء الرؤية واستحالتها حيث لا بصر بعد كما يقول فكيف نحس إذن اندفاعاتهٍ النورانية؟ بل كيف أحس هو – الفنان- تلك الأنوار وتمثلها ثم أعاد تمثيلها بصريا؟

إن الفنان يثير بمقطعه النثري- الشعري هذا مشكلة جمالية معقدة تلخصها هنا جملته المتضمنة مجازفة مجازية عن رؤية الضوء حيث لا بصر يعين على الإبصار فلا يظل سوى التأمل سبيلا للمعرفة والإدراك، وهذا ما تنقص شروط التلقي البصري التقليدي القائم على استنفار الخبرات المباشرة دون استدعاء قدرة التأمل والبحث عما تخفيه السطوح.

من إشراقات

-3-
هذه الأعمال التي تحفل بالنور ويشع فيها اللون، زادته نورا ووهجا مادة الأكليريك التي ينفذ بها ياسر حمود كل أعماله على القماش، فهي أي المادة الإكليريكية (النور المشع) كما يصفها أسعد عرابي، وقد وفق الفنان باختياره لها وسيطا بين عينه ويده، بين قماش اللوحة وسطحها، بين بياضها المهادن والمحايد وبين احتدامها بالحيوات اللونية، فالتجريد اللوني هو اللغة الوحيدة الممكنة في هذه الإشراقات التي يتناغم فيها الواضح والغامض، فيتجسد ما قاله محمود درويش مرة: أقصى الوضوح هو الغموض، وتكسب اللوحة سترا أو غلالة ترتوي العين بالنظر إلى شلالات النور المختفية وراءها وهي تنثر الضوء (السري) الذي لا يُرى إلا بانعدام البصر أي باليقين المنعكس عن إشراقية الرؤية لدى الفنان، ولا وسيلة في محيط الإمكان لتوصيل هذه الصبوات و المعارج والأشواق إلا بتجريدها في حالات لونية تسبح في سديم يشابه العدم الجوهري والشكلي الذي يقول الفنان إنه يسأل الغائبين عنه.

اللون المشع إذن بالنور والضوء والبياض هو الواسطة بين المرئي والمرسوم لكي يُرى ثانية، وهو الضوء الذي يقول الفنان في إحدى مقابلاته الصحفية إنه يراه من حوله في كل شيء بل حتى في بياض اللوحة قبل الشروع في العمل وأظنه أثناء التحضير يدع فراغات من البياض لتطل كجزء من خلفية العمل المضيء كذلك، وهذا المنحى فرض وجود اللون عنصرا مهيمنا في أعمال ياسر حمود. ولا شيء يعين على قراءة لوحاته إلا باستدعاء الاصطفاف أو التنضيد اللوني وتوزيع كتله على السطح التصويري كأبيات شعر تؤلف القصيدة ككيان وبناء، أو أصوات تنسج السمفونية المسموعة ككتلة صوتية واحدة ونتاج لحني موحد، وهكذا نلاحق تأليف العمل وقراءته كسطر أو عبارة، فتكون نارية الأحمر السائد في أغلب الأعمال مدعاة لاستذكار الاحتراق بالحب الذي يتحدث عنه –ويعانيه- الإشراقيون الذين تتجه أبصارهم إلى دواخلهم ليروا وقع الأشياء وتماثيلها البصرية في أعماق ذواتهم، ونتتبع من بعد انشطارات الأحمر ووجوده عموديا أو أفقيا وهيمنته التي لا تتيح لأي خط أن يوجد حتى لو كان نحيفا دقيقا أو خارجيا ولا تفسح بتشكلات غير لونية فالأشخاص وإشارات المكان غائبة عن وعي الإشراقي ومحكومة بالإقصاء لصالح غنائيات الروح وهفوها صوب النور المعلق في حلم أو غياب أو عدم. والمستدعى من هيولى غير متشكلة لعلها الولادة التي تحمل الموت في طياتها وتستنجد بالفن لدحرها.

وسط هذه الاحتدامات اللونية ومهرجانات النور والضوء والبياض المدجج بمجاورة الأحمر لا يقود بصرنا أي عنوان، فالعنونة الغائبة ذات دلالة أبلغ من التعيين بالعنوان وتوجيه المعاينة البصرية لاتجاه تفسير واحد لا يهب فرصة التأويل ومتعة التخيل، العناوين الغفل في أعمال الفنان هنا تقود إلى استكناه كلّية الخطاب المولّد لها، وشمولية الحالة المعبر عنها، فتغدو العناوين المغيبة كما قال الفنان شاكر حسن آل سعيد في مناسبة مشابهة لا تمثل في عملية التفسير سوى الأسلوب الفني نفسه.

من الإشراقات

-4-
لن تخطيء العين وهي تجوس في لجة هذا الأوقيانوس اللوني حوار الضوء والظلمة، والنور والعتمة حيث تنبثق الأنوار من كوى مفترضة في عماء اللون وسطح العمل، فينكسر الظلام بتلك الشقوق الضوئية الموزعة بعناية وذكاء وكأنها وشوشات سرية أو دعوات حلمية ليتبعها الإنسان ويخرج من عماء حياته.

في إحدى حكايات ألف ليلة وليلة يجد السندباد البحري نفسه ملقى وهو حي في مقبرة رفيقا لزوجته المتوفاة التي جمعت وزوجها السندباد بحسب طقوس الجزيرة التي تحطمت عندها سفينته، ويجيل بصره في عتمة المقبرة، فلا يرى إلا موتا وظلاما وعظام موتى متفسخة، ثم في سكون الليل وموته الإضافي وأغلفة سواده المضاعفة يرى بصيص نور –لا ضوء- قادم من زاوية في جدران المقبرة، لقد صنع الحيوان حفرة صغيرة يتسلل منها ليلا ليتغذى بأجساد الموتى، وكان بصيص النور القادم من تلك الفتحة إيذانا بنجاة السندباد وخلاصه من الموت، فيتابع خيط النور ويلاحقه، وبحماسة حبه للحياة ورغبته في النجاة من الموت يوسع تلك الثغرة النورانية ويفلح في الهرب والخروج من الجب.

لقد أعطاه النور وجودا جديدا هو الذي تحاول النفس أن تلاحقه خلف موت الدلالات واندحار المعاني فلا يظل لنا من سبيل إلا مطاردة الإشارات التي تبعثها النصوص البصرية و تحولها إلى ألوان وخطوط وأبعاد داخل العمل والتسلل من تلك الإشارات صوب الدلالة النهائية التي يخلقها الأثر المتحصل من القراءة البصرية، وأعتقد أن أعمال الفنان ياسر حمود في مرحلة الإشراقات خاصة، تمثل مناسبة طيبة وناجعة لتعقّب الأثر الذي تتركه الإشارات المندرجة في ثنايا العمل والممثلة لكلية وجوده واستقباله أيضا، فتنفتح الدلالات لا على دوالها فحسب بل على عالم إشاري حر يسهم في ردم فجوة التواصل مع الأعمال التجريدية، ويسمح بإدراك المحتوى غير المعلن لها والحالا ت النفسية والشعورية المعبر عنها تشكيليا.

وقد تقفل الحالة النفسية المعبر عنها أفق التفسير أو الرؤية المستعادة ولكن التعارضات أو التناظر المبثوث بحساب دقيق ودراسة جيدة للصراع بين النور والظلمة ترتسم في منطقة الحياة التي اختارتها لوحات ياسر حمود مكانا لتدوين لواعجها وحنينها، وأسْر تلك اللحظات الوجودية الهاربة من كمائن الحياة وشِباك يومياتها الثقيلة ولحظاتها الكثيفة، وبمقابل تلك الكثافة يمتص القماش – نسيج العمل المفضل لدى الفنان – تجليات النور المشع من الإكليريك الذي لا يستبدل به الفنان مادة صباغية أخرى ليوحد الرؤية ويعيّنها ويعمق اتجاهها الجواني.

قليل من أعمال سنوات سابقة ستنفذ بمواد مختلطة بعضها بيئي يعطي ملمسا ناتئا للعمل وشعورا بتلقي عمل كرافيكي بارز السطح وخشن المفردات ويكاد لمسها أن يوحي بالنزعة النحتية أو التمثالية المعبرة عن مادية الوعي والرغبة في أسر الأشكال داخل العمل، ويكون السطح عادة أكثر هشاشة من القماش كالورق، بينما يكون التحبير أو القلم الكثيف وسائط مناسبة لهذه المعالجات التي يدخل بعضها تصنيف الدراسات الأولية أو اسكيتشات العمل السابقة على تنفيذه بصورته النهائية.

أما المرحلة التكوينية –نسبة إلى تسمية الفنان لها باسم(تكوين) والمنفذة في التسعينيات فقد تجاوزتها قراءتي الماثلة لإشراقاته لأنها منغمسة في التشخيص والموضوعات التي لن يعود لها مدلول في مرحلتي (تجليات) و(إشراقات)، كما أن المادة المستخدمة ستختفي فلا الزيت والأقلام –الباستيل مثلا والأحبار يعود لها حضور، وكذلك لا وجود لمضامين تعتمد البورتريهات - الوجوه - والأجساد الأنثوية الغارقة في اللذة الحسية وسلطة الغواية المقدمة بتعبيرية مشوبة بالرموز، بعد أن انشغلت الروح وأشغلت اليد بهذا الهيجان الصوفي اللاهب.

-5-
ياسر حمود ذاهب بحريةٍ لإنجاز إشراقات روحه بلونيات يجوهرها البياض ويغلفها النور ولكن تسكن في قرارتها كما في خلفيات اللوحة وأرضيتها ونسيجها كله تلك الصبوات المستمرة بحثا عن نقطة ارتكاز الذات في خط الحياة المتصل واللانهائي، فيكون التجريد اللوني وصراع النور والظلمة والضوء والظل هي اللغة الوحيدة التي تحيل إلى فهم متقدم للحداثة تعززه الأفكار حيث لا يعود الرسم تصويرا صباغيا للعالم، ولا يكون المحترف التشكيلي مكانا لصياغة امتثالية ثانية للعالم عبر أشيائه المتاحة، بل حداثة تسكن وعي الفنان لتقوم بدور المشغّل والمحرك لرؤاه، فلا يعتمد التجريد الخالص هدفا يسعى إليه ليبرر أو يؤكد انتماءه إلى قبيلة التحديث أو المعاصرة، قدر اتخاذه وسيطا لإبراز كينونة العمل وباطنه وأبنيته اللابثة خلف السطوح، وجلاء الغامض لا بتوضيحه وتحويله إلى مفردات وما تحيل إليه من معان وما يتألف عنها من دلالات منحصرة في خلاصات أو موضوعات مختزلة، ولعل هذا الاستنتاج يعيد تذكيرنا بتنازل الفنان ياسر حمود عن التسمية والعنونة، فكل عنوان في حقيقته توجيه صوب معنى محدد وحصرٌ للقراءة البصرية في موضوع أو مضمون، بينما النور الذي لا يُحد كما في إشراقات لا سبيل إلى تأطيره لأنه متناثر أصلا بحرية ووَجد تركت أثرها على القماش بهذه الغنائيات اللونية المرهونة بجذور دوالها وتكويناتها لتولد بملامح وسمات نحسبها كافية للوضوح الذي تلاحقه أبصارنا لكنه ليس الوضوح المنحل أو المتفسخ عن جثث محنطة وصور مجترة، بل ذلك الغموض العذب الذي كلما أردنا أن نرهنه بالواضح ونحيط به وندركه وجدناه قد ازداد غموضا وفاقَ جماله كل المسميات.


د. حاتم الصكر