فضاء ياسر حمود

لخمود والبعد البنّاء
لتمزيق التشابه

فضاء ياسر حمود

لا شبهة في أنّ تجربة ياسر حمود آخذة في التوجه نحو وضع يجعل منها خلاصة للالتباس الذي يحفّ بمنصب التصوير عربياً وعالمياً. إنها صدى للتردد الاجتماعي العربي العام إزاء ممارسة تصويرية، لا هي بالجديدة تماماً ولا هي بالقديم المستعاد، كما أنها ليست وافدة تماماً ولا هي مترتبة عن مبادرة محلية صرفة. ولعله لهذا السبب شاب النقد السلبي سوء مشاركة لمنطلقات المبدع وشاب النقد المبارك للتجربة سيطرة المنحى التبريري على التأويلي. ولذلك، تحسّباً من التورط في المقاربة الخارجية لرهانات التصوير كما تعاطاها ياسر حمود فلا بدّ من استحضار ذلك المبدأ الجازم بأولوية الموقف على المعرفة. فما جديد ياسر على مستوى الموقف من التصوير ومن متعلقاته؟

بناءً على ما تقدم لن يكون منطلقنا لتنقيط علاقاتنا بلوحات ياسر معرفياً وإنما إجرائياً. وعليه فسيكون السؤال الذي يوجه المطالعة الأولى للأعمال هو التالي : ما هو الخيار الإجرائي الذي ترتبت عنه كل الإجراءات التي سيتألف في ضوئها بروتوكول التصوير كما أراده ويمارسه ياسر حمود؟

لا نخال أن كل من يرتاد اللوحات (على نحو أو آخر) لا تستقطبه فكرة الحريق كمشهد ولا تسعفه كلمة «فورة الأشياء» حين ترد على سمعه. بكلام آخر، يمكن القول أنّ إشراقات ياسر حمود-لو خصصنا الحديث عليها- تتسم بكونها فعلاً ذروياً. ولهذا اشتبه الأمر على بعضهم بخصوص انخراطها ضمن الجمالية العربية من عدمه. خاصة وأنه يكاد ينعقد الإجماع على تعارض التراث العربي الجمالي مع فكرة الذروة وذلك بحكم تلازمها مع مبدأ التمسرح، وهو خيار يتعارض مع الانفعال الشعري الذي انتدبه تراثنا مرجعاً لبلورة ذائقته. ولنا أن نذكر بهذا الخصوص كلام جبرا إبراهيم جبرا التالي: «أما المسرحية العربية فلم توجد قط (بغضّ النظر عن إنتاجنا المعاصر). وقد حاول كتاب كثيرون أن يجدوا الأسباب لذلك، وآراؤهم مختلفة. أما أنا فأرى أن أحد الأسباب –ولعله السبب الأهم- لذلك هو أن الإبداع العربي لم يكن ذروياً قط، ولم تقبل العبقرية العربية هذا النوع من التركيب الفني الذي، يخيّل إلي، امتازت به العبقرية الأوروبية فقط. فالمسرحية لا يمكن أن توجد بدون الذروة. ولما كانت هذه الذروة في الغالب هي نهاية مكافحة البطل للآلهة أو الأقدار (كما يقول الإغريق)، أو المجتمع (كما نقول اليوم)، فإن العبقرية العربية رفضت هذا الفن لأنها عبقرية قدرية لا تسمح لنفسها بالشك فيما هو قائم، ولاسيما الشك في عدل الله». وقد تعزّز في نظر جبرا إبراهيم جبرا اللاتلاؤم على مستوى الموقف بأسباب لها صلة طبيعة الشعر من حيث هو ميل تخييلي لا يساعد على البناء الدرامي والتشكيلي. وهو ما عبّر عنه بقوله: «وفي الشعر العربي كانت الذروة مجهولة، وما زالت كذلك حتى في الشعر المعاصر، إلا في ما ندر [...] ففي القصيدة العربية، يلي البيت الآخر في أكثر الأحيان حسبما اتفق، وفي استطاعة المرء أن يقدّم ويؤخر في الأبيات أو يحذف بعضها دون أن يؤثّر على المعنى –أو على الغرض الذي ترمي إليه القصيدة- وذلك لأن القصيدة العربية لا تُبنى على «الوحدة الموضوعية» بل على «روعة المعاني» ذات القافية الواحدة».

بصرف النظر عمّا في كلام جبرا من استشراق (ظهر خاصة عندما حوّل الضرورة الباطنية إلى اعتباط صوري فحكم بتتالي الأبيات الشعرية كيفما اتفق) فإنه يمكن الاحتفاظ بذلك الفارق الذي يفصل الدلالة عن المعنى، بين ما يتم إنشاؤه على قاعدة الفكرة المستندة إلى وحدة موضوعها وغرضها وبين الخصوصية الحيّة التي تمتاز باشتمالها على ديمومة تتسم بكونها محسوسة ولكن غير معلومة. ولأنه بين التخييلي والتشكيلي نفس الفرق الفاصل بين المعنى والدلالة فإنه يحسن أن نشير إلى أنه في حين أنّ الدلالة هي من طبيعة تداولية صرفة (الدلالة الرياضية العلمية تنجح في أن تحقق تواصلا بدون فضلة، من قبيل : 1+1=2) فإنّ المعنى لا ينفصل عن قدر يزيد وينقص من الإبهام. ولذلك فإنه بين شروط المعنى شرط غياب الدلالة. فعندما يقول ابن رشد مثلا، أنّ تحريم المرأة كتحريم الماء فإنه في هذه الحالة يسوق معنى بعينه أكثر من تنصيصه على دلالة بعينها. وإذا كان هذا المعنى جليّ لمن يشارك ابن رشد ثقافته ومبهم لمن اختلف وضعه فلأنّ ضارب التخييلي في هذه المقولة يفوق ضاربها التشكيلي. إذ لا يفهم هذه الجملة إلا من أذعن لمقتضيات التعاطف، فأدرك الماء بوصفه ديمومة مستفحلة الخصوصية وذلك قبل أن يوظف هذا الفهم الآلم (المنفعل) بشكل يسمح بسبر طبيعة الديمومة المحبوّة بها المرأة وبالتالي بلاغة الحكم الرافض لتحريم المرأة على الرجل. هذا على مستوى الفهم التأثري، فكيف يتجلى الأمر على مستوى الفاعلية الإبداعية؟

من يواظب على معاشرة إشراقات ياسر حمود سيلفت نظره أولا علاقة التسلسل الذي تقيمه اللوحات مع بعضها بعضا. فهي تعطي للمرئي أسلوب الحياة في تكريس عودة المؤتلف. ولكن في حين كانت اللوحة التشكيلية تربط إبداعيتها بنجاحها في تحويل المؤتلف Le Même إلى مطابق identique فإنّ اللوحة التخييلية معنية بهدف آخر، هدف ارتبط في تراثنا الشعري بما دُرج على تسميته بالعجيب والذي أقدّر شخصيا أنه حاصل دهشة يستشعرها الإنسان حيال كل ضروب الاشتمال الذي ينجح في التعدية والتأدية دون أن يذعن مع ذلك للإكراه الذي تقيمه الرمزية شرطا لها، عنيت بالحديث ضرورة فصل الجسماني عن الروحاني. وفعلا، لو شئت شخصيا أن أحصر حاصل قدرات ياسر حمود الإبداعية في خصلة واحدة لحصرتها في أخطر الخصلات على الإطلاق، عنيت بالحديث القدرة على وهب الديمومة. وفعلا، فبالرغم من غياب كل تشابه مع اليومي فإنّ لوحات ياسر حمود تشتغل بوصفها انعكاسا (وليس محاكاة) لجسد العالم وجسد الإنسان، أي تشتغل بوصفها مصنعا للقوى. ومن التخريجات اللطيفة التي لامست هذا الطابع الديناميكي للوحة حمود فكرة تحوّل المربع إلى دائرة كما وردت في مقال لعمار حسن في شهر حزيران الماضي وعنوانه رؤيا الدائرة من نافذة المربع. ويمكن أن نذكر الآن الفقرة الرابعة من المقال الذي تضمّن سبعا. يقول عمار حسن في الفقرة المذكورة : «لم أتحدث مع الفنان حول أعماله، فكلانا يرى أن هذا مهمة اللوحة وحدها. والناقد لاحقاً.. ولذا تحدثنا لوقت قصير عن فضاءات الدائرة والمربع والذي كنت أعرف أنه لكل منهما خصوصيته لكن أن يكون المربع دائرة؟! هذا لم أستوعبه!.. إذا تحرك حول ذاته سرعة كافية سيغدو دائرة!! عندها عرفت أن ياسر بحركة انفعالاته على سطوح لوحاته (اللوحة الواحدة) يتسارع كفاية موسيقياً ليصبح دائرة لونية تذوب فيها الألوان ليغدو أبيض مرتحلاً برداء (برتقالي اللون) بفضاءات الأزرق حتى عمق الفيروزيات والأخضر. ياسر ليس ثباتاً فنياً إذ يصل إلى آخر مطاف ارتقاء الصورة هنا في البعد المادي للتجريدات الحسية وغير الحسية، وإلى بدايتها في بعد إزاحة الصور الملتبسة عن المعنى المجرد..! إنه فن موسيقا التجريدات المتحركة.. المتحركة حتى حدود يُظن أنه الثبات..».

فعلا، ذروية ياسر حمود هي ذروية لا صورية، أي لا تتقصد المسرحة كهدف وإنما هي تساير فورة الأشياء ومنه اعتمادها لإستاطيقا ديناميكية تهدف إلى الانفتاح على اللاصوري على نحو يجعل اللامرئي يُرى. والرؤية ها هنا هي فعل لا علاقة له بمساومة المسافات وبحساب القرب والبعد وباختيار المنظور طلبا لملمح يستوعب بقية ملامح الغرض المطلوب تصويره. إنما الرؤية ضمن إشراقات ياسر حمود فعل أساسه التعاطف. ولذلك حفَرت الصورة ضمن لوحة ياسر بشكل معاد للصورة، أي معادٍ للصورة التشكيلية الكلاسيكية بوصفها صورة حاملة لنظرة متمدية، صورة تجد في المسافة وقاء لها من فتنة الاقتراب المفرط والذي يرفع الحدود بأنواعها : حدّ النفس، وحدّ الشكل، وحدّ الممكن. هكذا يمكن القول أنّ نجاح لوحة ياسر حمود في وقف استيعاب التشكيلي للتخييلي تم توظيفه وفق صيغة أخذت شكل رخصة سمحت بعودة الشعري من خلال سبر مضانّ صورة قريبة تدفع بالوهج الطاقي وبالتعاطف الكياني إلى ذروتهما. ولو شئنا إرجاع الصورة المذكورة إلى منوال إرشادي لطلبناه من اللقطة القريبة كما ترد ضمن الممارسة السينمائية ولنأينا بها عن المنوال المسرحي القائم على ثنائية المشهد والرائي وما يترتب عن هذه الثنائية الأولى من ثنائيات فرعية، أهمها ارتهان العملية الابداعية بالصيغة الكلامية –الحكائية للبنية الحوارية. ولكن لم كان اعتماد الصورة القريبة يمثل انتصارا للتخييلي على التشكيلي وللشعري على التصويري؟

هنا أيضا تجد لوحة ياسر حمود نفسها في علاقة تواصل مع التراث كما هي في علاقة قطيعة معه. فهي تتواصل معه من جهة ما عُرف به التصوير الإسلامي من أنه يستند إلى إستاطيقا غياب الموضوع. ولكنّ لوحة ياسر هي في قطيعة مع التراث لأنها لا تتعاطى تغفيل الموضوع إلا تمهيدا لحضور الشيء. والأخير يحضر في لوحة ياسر حمود لا بوصفه نقيض المعلوم، كحاله في التصور التراثي، ولذلك اعتُبر وقتها أنكر من كلّ نكرة، وإنما الشيء هو مؤتلف يتغيّر باستمرار دون أن تنقلب عينه، فهو مهما تحوّل تظَّل «الشيء عينه». تصويريا لا تظَّل اللطخة مجرد لطخة ولكنها لا تنقسم على نفسها لتصبح علامة، وبالتالي تصبح غرضا وموضوعا. هي لطخة من وجهة نظر صورية بحتة ولكنها هالة حسية من وجهة نظر طاقية وتخييلية. وهو ما يسمح بأن لا يكون مبدأ التجاور التشكيلي ضمن اللوحة من طبيعة مكانية صرفة وبأن ينفتح على ما هو طيفي واستيهامي وغير ميقاتي (باعتبار أنّ الزمن هو غير بالنسبة للوقت)، أي ينفتح على تلك الأصناف من الكيانات التي قال عنها الجاحظ بأنها موجودة في معنى معدومة. ومثل هذا الانفتاح هو خطير التبعات، ومن أهمها مراجعته لمبدا صلاحية الفن والتشكيل بحيث لم يعد يستند هذا المقياس لمقولة الحقيقة (الرابطة للجسامة بالموضوعية التي مر معنا كيف ترتهن بفصل الجسماني عن الروحاني) وإنما لمقولة الخبرة. خاصة وأنه في حين أنّ الموضوع هو حاصل كيفية عمل، فإنّ الشيء هو كيفية وجود، ومنه انفتاحه غير القابل للإقفال على ما هو تقديري وعلى ما هو في الضمير. ولنذكر في هذا السياق كيف أنّ الحداثة لا يمكن إلاّ أن ترتاب في كل تصور يقبل ببقاء التخييلي على حاله، أي يبقى في وضع الدلالة الظاهرة على المعنى الخفيّ. فهل حضرت الأشياء في لوحة ياسر حمود لإفساح المجال، بشكل مفارق، للغيب؟

أكثر من مرّة صير إلى القول أنّ لوحات ياسر حمود تقوم «بالتحليق خارج عتبات المكان»، ومن لم يزعجه ذلك ربطه «بسمة التجريد التعبيرية» وبغيرها من الخيارات التصويرية. والحال أنه لا تحليق ولا تهويم. هو فقط انفتاح على التخييلي الملازم للشيئ من حيث هو كيان طبيعي، أي كيان يتموقع بالقياس للوجود الحالي وللوجود الممكن وكذلك بالقياس للوجود التقديري. وهذا الضارب الأخير يجعل الشيء موسوما بإبهام علته انفتاحه على ما هو مباين لوضعه الحالي مما يضفي على ذلك الإبهام هالة تشدّ إليه الاهتمام على أكثر من نحو. ولأنّ لوحات الحمود تنفتح على تلك الهالة المتسمة بكونها سائحة وعائمة فقد كانت مناخا أكثر منها مشاهد ومواقف. وهو ما يقيم بينها نوع علاقة امتدادية تتخطى بفضلها كل أشكال الانفصالية. حتى قاعة العرض كفّت بفضل مناخ اللوحات عن أن تكون مجالا مكانيا يجسّد بلاغيا فراغ المقروئية وذلك بفضل ما يتسم به من حيادية (بياض الجدران، إنارة مدروسة ومسافات محسوبة الخ). وفي معرضه الذي أقيم في غاليري آرت هاوس تحت عنوان إشراقات، لفت نظر رامان آل رشي أنّ « رباعيةٌ له [احتلت] جزءاً كاملاً من صالة الغاليري مما يمنحك شعوراً بتصوفه الروحي الذي سيطر على أرجاء المكان.» والواقع لا يتعلق الأمر بتصوف بقدر ما يتعلّق بتعالق مع ما درجت الحداثة على تسميته بالخارق.

إذ من أجل أن تضع حدا لتفضية الزمن وتسمح لمصالحة المطلق مع الراهن من خلال علاقة تعاطف لا يمكن أن تحصل خارج السياق الكوسمولوجي انفتحت لوحة ياسر حمود على الخارق بدلالة «غلوّ الموضوع»، لا بسبب نقص ذاتي كما درج التسليم به مع الحداثة وإنما طلبا لخيار الاشتمال الكياني وطلبا لراحة االكلية الشخصية التي هي أوسع مدارا من العقل ومن الوعي. فقد درجت الحداثة على وسم كل ما خرج عن أطر البصري وكل ما لا يقبل المعالجة الصورية بسمات نافية، وبالتالي تحجب عنه كل بعد توكيدي. ومنذ قيام اليونان بتحويل دلالة مصطلح «بووزيس» من الإشارة إلى الشعر نحو التّعبير عن الفن حُكم على التخييل الشعري بأن يلتحق بمجال الخارق الذي لا يسمح بأي تعامل معه ما عدا التوظيف الخرافي. ولنذكر في هذا الخصوص قول أرسطو في كتابه عن الشعرية قوله : «أما الفن الذي يحاكي بواسطة اللغة وحدها، نثرا أو شعرا - والشعر إما مركبا من أنواع أو نوعا واحدا – فليس له اسم حتى يومنا هذا.» وفعلا، خرج التخييلي في نظر الحداثة من دائرة الصلاحية ولن يرجعه إليها التخريج الذي قام به مثلا الجاحظ عندما قال: «المعاني القائمة في صدور الناس المتصوّرة في أذهانهم، والمتخلِّجة في نفوسهم، والمتّصلة بخواطرهم، والحادثة عن فكرهم، مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومةٍ لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون على أموره،، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره.» يرفض الفكر التشكيلي هذا الكلام لأنه يتقاعس عن معالجة الضمير بحيث يعبر مضمونه من سجلّ التخييلي إلى سجلّ التشكيلي وذلك عندما يتحول إلى هيئة ونصبة وسيمياء. وعلى هذا الأساس ستقوم التشخيصية أساسا بدمج التخييلي ضمن مجال العقل وذلك بتأطير حضور عناصره وأحداثه بإطار وإحداثيات التاريخ. هكذا تطابقت، منذ الإغريق الحقيقة مع المرئي واعتُبر «سحريا» و»مشبوها» كل ما تعارضت اعتباراته مع مقتضيات المرئية وقد درج الفكر الحداثي على الاشارة للفائض الذي لكيفية الوجود على كيفية العمل بمقولة الخارق Le surnaturel. وعلى هذا الأساس تم فصل الروحية spiritualité عن الروح كما تم في المقابل حصرها في الفكر [لقد كان أبو حيان يونانيا حين جزم قائلا: «لو كان الإنسان إنسانا بالروح لما كان بينه وبين الحمار فرق]، إذ على أساس روحية الفكر سيتأسس مجال الحسّ المشترك والذي من مزاياه تحويل التخييلي إلى تشكيلي.

وعلى رأي بارت فإنّ الخارق هو مقولة تنتمي لعهد الإنسانية الشعري والذي غادرته الحداثة عندما حوّلت الصيغ البلاغية التي تُستعمل بالسليقة إلى صور بلاغية. وعن سؤال له بخصوص كيفية هذا التحوّل يسوق بارت جواب فيكو فيقول : «يعطى فيكو جوابا بنيويا جدا وُجدت الصور البلاغية حين نشأ التجريد، أي حين وجدت الصور البلاغية نفسها في تقابل استبدالي مع لغة أخرى،» أي حين خضعت للعبة التشابه التي يحكمها التماثل الصوري فتحولت الصيغ (التي منوالها الصيغ الشفوية) إلى صور (منوالها المفهوم من حيث حاصل العملية التي قام بها اليونان عندما حوّلوا الكتابة المقطعية إلى كتابة ألفبائية قابلة للاستنساخ الآلي فهيؤا بذلك ليصبح مجتمع عصر النهضة مجتمعا طباعيا).

من جهته، انفتح ياسر حمود على الخارق وجعل من لوحته وعاء لمناخ سائح ولمزاج جامح وذلك من أجل تمزيق التشابه الصوري. ورهان هذا التمزيق مراجعة التصوير على نحو يتخطى المشكلية الفنية ومراجعة منصب الشعري على نحو يصالحه مع الحياة والتاريخ. ومدار المصالحة المذكورة كما تكرسها لوحة ياسر هو التمسك بالقيمة الشاملة كشرط مركزي لمقاومة الحياة لاستيعاب الفكر لها. ولعلّه بحكم ارتباط الشعر بهذه القيمة الشاملة كان أمضى صيغ توطين الخبرة ضمن سجلّ البداهة الحسية بحيث يبدو وكأنه يسدى لما كان من طبيعة استيهامية قواما يفتقده. ويبدو أن أوّل علاقة حميمة، أي شعرية، مع التخييلي من حيث هو تكريس للاشتمال، قد خبِرها الإنسان الغابر من خلال علاقته بالصوت. ذلك أن الطبيعة الانبثاقية للصّوت، من حيث هي نقلة مباشرة من الضجيج إلى النغمية، تمثّل خير إلماح لوجود بُعد آخر يلفّ مجالي اليومي والوظيفي. ولعلّ ذروية لوحات ياسر هي نوع رجع صدى لهذه الخبرة الأصلية، ولعل تمزيقه للتشابه هو من اجل الحفاظ على مقدمات الشرط الأصلي الذي يفتح التقديري على الانبثاقية الآنفة الذكر، أي على الفائض الذي يكسر طوق الصورية. ولكن ما دواعي هذا الاحتفاء العالمي (لا العربي فحسب) بكسر طوق الصورية؟

طوال أكثر من عشرين قرن التزمت الحداثة بالصورية ووظفت لأجل بلورتها الركح أولا ثم اللوحة ثانيا كوسائط تتكفل بعمل البلورة المطلوب. رهانها من كل ذلك هو نزع الروحية عن الروح ونقلها نحو الفكر، وهو ماتطلب فصل الروحاني عن الجسماني. ومن أهم مظاهر الفصل المذكور نذكر مقولة التصويري بدلالة Le pittoresque، أي بدلالة الغرض الذي يمكن أن يعالجه التصوير على نحو يُبهج العين والفكر l’esprit. ولعلّ غياب مقولة «البيتوراسك» هذه هو علّة الاستيعاب الغربي لمقولة الروح âme ضمن مقولة النفس esprit (ومنه حرج الترجمات حين تتقاطع مع هذه المقولات). ومعلوم أنّ الحداثة استندت إلى المسرح وإلى التصوير كفرع من فروعه لتكريس لزومها المركزي، عنيت بالحديث اقتضاء تحويل الطبع إلى فكر، أي تحويل الروح إلى نفس وذلك من خلال تزويد الروح بسيمياء تتعهد بتوطين الخصوصية الحيّة ضمن حدود الهوية الاجتماعية، أي ضمن حدود التشابه الصوري. علما أنه إذا كان مبدأ الهوية يقبل التحول إلى معطى بصري دون أن تنقلب عينه فإن الخصوصية الحية ألصق بالغرابة الشعرية المحيّرة. بكلام آخر يمكن أن نقول أنه إذا كان مبدأ الهوية لا يتعارض مع خبرة الاستجماع فإن الخصوصية الحية لا فكاك لها عن قدر يزيد وينقص من «الحيازة ضمن ما هو وراء»، ومنه ضرورة استفضاء الطبع وتوطينه بالكلية ضمن المظاهر. هكذا أصبحت الهيئات ديوانا لأنها أصبحت قاعدة التشابه الذي يجعل من نظام «الهو هو» يستند إلى أقصى حدّ ممكن إلى فاعلية الاستنساخ الآلي. ولا بدّ، من هذا المنظور أن نذكر أنّ المفهوم الفلسفي هو آلة، وكذلك الركح واللوحة والعمارة والشاشة والورقة وغيرها من الوسائط التي وظفتها الحداثة من أجل أن تجعل من الكتابة المكوّن الرئيسي للثقافة العامة. ولهذا اتفق الفن غربيا مع الفلسفة على قاعدة ما لاحظه هيغل حين لاحظ قائلا: «: «توجد بين الرسم والنحت سمة مشتركة، وهي تمثيل هيئة موضوعية خارجية، على اعتبار أن الرسم، مثله مثل النحت، مغلول إلى شيء واقعي، له من الأساس وجوده خارج الفن.» على هذا الأساس مثلت الشاشة التلفزية في عصرنا الحاضر استثمارا قصويا لخيار الحداثة الحريص على استيعاب التشكيلي للتخييلي.

ولذلك فإنه ليس غفلا من الدلالة أن نلفت النظر إلى أنه مع ياسر حمود فكّت اللوحة كل روابطها مع الركح والمشهدية. وما ينبغي لها أن تكون ركحا في عصر قامت خلاله الشاشة التلفزية بتغوير الركح (بما أننا صرنا في عصر شمولية حضور الشاشة) فحوّلته إلى وسيلة في خدمة قيمة ثقافية جعلت مما هو معروض أمام البصر مقياسا وحيدا للصلاحية. وطبعا فقد آلت وجدة المرجع غربيا إلى اصطفاف اقتضاء التداولية إلى استيعابها ضمن منوال العلاقات الغرضية، أي العلاقات التي بتحويلها للأشياء إلى علامات تنتهي بها إلى أن تصبح متاعا يستمدّ قيمته من وظيفة المباهاة l’ostentation. وبالفعل، في عصر شمولية حضور الصورة الدعائية أصبحت العلاقة الغرضية هي مضمون السطح الأمامي الذي تنعقد حوله تعددية سجلات الطبقات الاجتماعية وتعددية الرهانات التي تلازمها. وعلى هذا النحو حلّت الشاشة العامةّ (بل الكوكبية، بعد ظهور الفضائيات) محلّ الساحة العامة، واكتملت دائرة ديوان الهيئات (وفق عبارة محمد عبده) كما استهلها المسرح اليوناني. في كلمة، فإنه من الجليّ أنّ الشاشة التلفزية دفعت إلى أقصاها سيطرة السطح الأمامي على النطاقات الأهلية والقريبة. ومعلوم أنّ الحداثة قد شدّدت على أهميّة السّطح الأماميّ إلى حدّ اعتباره المرجع الوحيد للمعياريّة، وذلك من أجل تأسيس اجتماعيّة شرعيّة تعتبر كلّ ما خالف معياريّتها موصوماً بالبهيميّة. وبحكم طبيعة الحداثة التّشريعيّة، لم يكن من الغريب أن تتأسّس على عادة الاستنكاف من كلّ ما هو حسّيّ وخِبْرٍيّ.

في ضوء هذه المعطيات العامة (بما أنها أصبحت معطيات عالمية) أصبح من علامات جموح المصور تعاطيه بشكل توكيدي وملتزم مع مسألة ازدواجية الانتماء. ففي وقت تستريب الحداثة في كل ما هو خارج المظاهر وتتهم كل مظاهر المثنوية وتشدد على أن تكون المجتمعات مبدأ تفسير نفسها، يختار الفنان المعاصر أن يعطف انتماءه للمجتمع والتاريخ على انتماءه للوجود وللحياة لا أن يطابق بينهما كما تطالب بذلك الحداثة. وقد درج في ديار الحداثة وصم كل من تمسك بضاربه الكوسمولوجي بكونه «جزيري»، وذلك اعتبارا لتمسكه باختلافه كمرادف لقراره مغادرة القارة للإقامة منعزلا في جزيرة. وأن يتم اعتبار الإنسان الاستطيقي جزيريا فذلك بسبب عدم إذعانه لعنف الانقسام الذي يقتضيه نمط الاجتماع المديني. علما وأنّ ما يعوز الإنسان الحضري هو استعادة وعيه الشامل الذي كان ملازما لكيانه الطبيعي قبل الانخراط في الحداثة وفي الاجتماعية المدينية بحيث يستطيع ضمن محيطه الجديد أن يقيم علاقة تنافذ سوية مع محيطه. وللتذكير فإننا نلاحظ أنّ أرسطو أرسى على أساس وحدة المرجع هذه دعائم الطهرانية الحداثية وذلك عندما جزم قائلا : «..أما العقل فيظهر أنه روحاني لا يألم.» وفي ذلك تكريس للتمييز الذي تقيمه الفلسفة بين نصاب العالم ونصاب الفكر والذي بمقتضاه فصلت بين الجسماني والروحاني فعطّلت المبدأ الذي استندت إليه البشرية منذ غابر عهدها، ألا وهو «أنّ الكلّ واحد». إذ قوام الطهرانية المطابقة بين السلبية والألمية من جهة، وبين الايجابية واللاألمية من جهة أخرى.

من السويّ إذن، من وجهة نظر الفن المعاصر، الإذعان لاقتضاء الاستحالة، لو استعرنا مصطلحا سينويا وظفه لتعريف العشق هكذا تتكشف الذروية التي تسم لوحات ياسر حمود بميسمها ضربا من الإذعان الموالي لاستجابة عشقية لنداء الوجود ولنداء الأرض. ويتعلق الأمر بإذعان لأنّ فيه تسليم بغلوّ الموضوع بوصفه العلامة على صعوبة وهشاشة التوازن بين الطبيعة والثقافة. وإذا كان يُشترط في اللوحة الكلاسيكية أن تكون متوازنة ومستوعبة لكل ذروية فلكي تغادر منطقة التوازن الهش بين الطبيعة والثقافة بالانسحاب نحو مجال حضاري يفصل الثقافة تماما عن الطبيعة فيسيجها معماريا ويؤسسها على قاعدة عقد اجتماعي يبرمه البشر في غياب الطبيعة فيشطبون الأشياء ولا يستبقون إلا علاماتها ويسمون ذلك تقدما. ولهذا فقد كان التصوير شيئا اجتماعيا ينمذج حساسية تؤمن بتميّز الإنسان في العالم إلى حدّ صار معه من العبث فصل الأخلاق عن الفنون الجميلة وصارت كل مجالات الحياة أماكن لإشباع ملكة الحكم. بحيث أصبح من المستحيل على القول وعلى الأنظمة التداولية التقاطع مجددا مع الكائن الطبيعي واسترجاع العلاقة المباشرة القديمة بالكيفيات الحسية بعد أن تم استيعاب العائم والسائح ضمن المراتبية المعمارية وضمن شمولية حضور العلاقات الغرضية والمعايير الحقوقية. لم يعد إذن من مجال للحديث عن الحياة كشريحة رهيفة لا تمسها الأشكال. في ضوء هذه الخلفية العامة، فإنه لا عجب أن يكون رهان الذروية من طبيعة توكيدية، بما أنّ حاصل فعلها هو لفت الانتباه إلى أنّ شطب سؤال الوجود هو شطب للكيان الطبيعي وشطب لعفوية الحياة وتلقائيتها (إذ من فرط تمسك الإنسان الحداثي بحريته خسرانه لتلقائيته). ولأن إنقاذ هذه العفوية وتعهدها هو رهان التصوير كما يتعاطاه ياسر حمود فقد كانت اللوحة موضّبة بشكل يجعلها لا تكتمل إلاَّ عند المتلقي. فهي تخطئ رهانها وتصبح الذروية التي تعمرها خيارا لا طائل منه في حال لم يتحوّل فعل تلقيها إلى خبرة كيانية تورد على ما يسميه ابن سينا «انقلاب العين». والرهان الرئيسي للخبرة التي تحفز عليها لوحات ياسر هو التمسك بالرخصة التي تتيحها الثقافات وتمنعها الحضارة، عنيت بالحديث الرخصة التي تجعل متاحا عمومية تلقائية التمركز في قلب الكائن. وطبعا يتطلب تحقيق هذه الرخصة التباين من حرص الحداثة ونظامها الحضاري على المطابقة الدائمة والصارمة بين نظام المراتب ونظام الأشياء. وهو التباين الذي لا يتخلف ياسر حمود عن تكريسه ضمن ممارسته التصويرية ومن خلال كلامه الشخصي. فعن سؤال : أترى ثمة علاقة بين الواقع وفن التجريد؟ أجاب الحمود قائلا:

«في عموم مفهوم التجريد في الفنون كافة، أرى أن التجريد على الصعيد الإنساني والذاتي يعنى خروج الفرد عن صلب حالته الراهنة، ورؤية ذاته وذات الكون من زاوية أخرى. وقد تقتضي هذه المغامرة أن يرتدي الفرد ثياباً خاصة أخرى، والأصدق أن يكون عاريا بمعنى التجرد من كل شيء سوى الحواس وتلقائية المشاعر والفطرة الأولى في النظر إلى الأشياء المحيطة بنا. وبالنسبة إلى تجربتي كانت الطبيعة هي الأقرب إلى خلاصة روحي».

بناء على هذا الالتزام الكوسمولوجي لا نملك إلا أن نستغرب من شيوع التأويلات التي تجعل من النور موضوع لوحة ياسر حمود الرئيسي. فمثل هذا الالتزام بالكيان الطبيعي للوجود وللإنسان لا تخدمه فكرة النور ولا تتلاءم معه البتة، بل على النقيض من ذلك، هي تحجبه وتصيبه بالخفض المعياري والاستاطيقي. ومن المعلوم أنّ التصوير الكلاسيكي ندب نفسه لاستيعاب جسامة العالم ضمن معايير جسامة ترتبط بالموضوعية، أي بالشكل، باعتبار الشكل ما هو مشترك بين المواد والأفهام، وباعتبار أن الشكل هو ما يستدرج المواد نحو الوظيفية. كلنا يعلم كيف كان التكوين الكلاسيكي توطينا، وكيف أنّ الأخير كان مقياس حقيقية الجسامة الصورية، أي تلك التي تعتبر أفعال السكن والإقامة أفعالا ناقصة لأنها تراوح بين سجل الوجود وسجل المدينة (التاريخ). وبفعل تجويد القدرة على توطين الضارب التخييلي للإنسان فإنّ العالم الذي يقطنه الإنسان الثقافي ما انفك يفقد جسامته، بل وأصبح العالم الحضاري المعاصر عالما مضادّا للعالم (بدلالة الطبيعي والكوسمولوجي). ذلك من فرط المطابقة بين الخبرة اليومية وبين الإرادة المجملة، إرادة جمع العالم في لوحة. ولأنّ النور هو مبدأ المجانسة بين التخييلي والتشكيلي والتي تسمح للتكوين بأن يضمن اتصالية زمانه ومكانه فقد كان -النور- مقياسا مركزيا في تقويم صلاحية التكوين الكلاسيكي وفي صلاحية الحقيقة التي يبلورها. وبناء على هذه المقدمات فإنه يصبح من الجلي أنّ الصنعة في التصوير الكلاسيكي هي فعل بلاغي يقوم إما بتحويل سياق كوسمولوجي (عمراني) إلى سياق معماري أو يقرّب الأخير من ماهيته ويزيد في تطابقه مع ذاته. ولذلك، فإنه إخلاصا لضارب الصنعة الذي تشتمل عليه اللوحة، من حيث هي استهداف لجمع العالم، توجهت اللوحة الكلاسيكية إلى مشاهد مثالي (وهو ما أسس تاريخيا لامتيازات الناقد) وحافظت على وحدة نقطة الاستهراب وما يتطلبه ذلك من مركزية التوضيب المكاني للمشهد. مجمل هذه الإجراءات طلبت هدفا رئيسيا رهانه تسفيه ذلك الموقف العفوي الذي لا يعتقد أن المبدأ الذي يتمّ به تتميم الكيان الطبيعي هو مناوئ للطبيعي. في المقابل، فإنّ النور هو مبدأ مناوئ للطبيعي ولم تضعه شتى التصورات المثالية أساسا لتصوراتها الكونية إلا لكي تؤسس لطهرانية تجعل من الحسّي تدهورا ونجاسة. فعيب الوجود من منظور الحداثة هو غلوّه وتحركه خارج أطر المعرفة وما يتطلبه قيامها من تثبيت المرجعيات. ومن شأن هذا الغلوّ أن يجعل الإنسان مزدوج الانتماء فيراوح بين السجل التاريخي المدني والسجل الكوسمولوجي الفطري. وهو الازدواج الذي يجعله يتحدّد بشكل مزدوج : يتحدد بالقياس إلى نظام المراتب الاجتماعية وبالقياس إلى الطبيعة التخييلية والاستيهامية للوجود الكوسمولوجي. مجمل القول أنّ التشخيصية تستوعب تعارض التخييلي والتشكيلي برفضها أن يكون التصوير «إلماحا» وإنما «تنصيصا» وهو ما يتطلب إحداث الفراغ الضروري للمقروئية، الفراغ الموالي لاستبعاد الفطري والكوسمولوجي. وبإزاء فراغ المقروئية ستختلف استراتيجيات النور بالقياس للمادة. إذ من المعلوم أنّ النور يجانس في حين أنّ المادة تخصّص وتُفرد، والنور صوري في حين أنّ المادة عيانية، والنور متعالي بينما المادة محايثة.

حديث ياسر حمود عن الكون وعن الفطرة الأولى وعن الحواس وعن تلقائية المشاعر هو حديث عن المحايث وعن العياني وعن اللامنقسم وعن الأصلي.


محمد بن حمودة