سفر الضوء المبارك
وفي رواية أخرى: في البدء كان الضوء
بهياً، وصافياً، ومكتملاً بذاته ولذاته.
وكان شيء حسن.
ولكن الضوء أراد أن يُعرف فخلق الألوان والظلال والظلام.
فجاءت كلها دلائل على ألقه، وانعكاسات لنوره، أو ضده المكمل.
ومن تنويعاتها نبعت تنويعات الحياة، فالصورة بنتيجة الأمر هي مزيج من الضوء وعكسه، بالألوان.
الضوء هو أصل الصورة، وهو أيضاً اكتمالها النهائي الذي لن تستعيده ثانية بنقائه الأصلي حتى نهاية الزمن عندما تعود الألوان والظلال والظلام لمنبعها الأول. أما اليوم فهي تهوم في فلك الضوء، تنوس حول محوره، تمنحه ذواتها، وتصبغ تشكيلاته، وتذوب شوقاً للالتحام به. ولكنها لن تبلغ ذلك حتى يؤون الأوان. ستبقى في حالة حراك مستمر، حالة خلق وإعادة خلق متناوبة، وسعي حثيث للوصول إلى خاتمة المطاف.
من هذه الحركة الدائمة تتشكل الأشياء، كل الأشياء، بمقادير معلومة من الضوء وتفرعاته وألوانه، والضوء وأضداده.
هذا هو فحوى «إشراقات» ياسر حمود: محاولات رائعة للعودة إلى الحالة الأولى، حالة الضوء الكامل، ومحاولات أكثر روعة تؤكد استحالة ذلك في عالمنا هذا. «إشراقات» ياسر حمود هذه تستل معناها من رغبتها الجارفة بالعودة إلى أصلها الأزلي ومن إدراكها المأساوي أن في عودتها فناءها. وبين الرغبة والوعي، تبقى الإشراقات في حالة إعادة تشكل دائم. تشكل بالأزرق، وتشكل بالأحمر، وتشكل بالأصفر، وتشكل بكل الألوان وأطيافها. وهنا وهناك تبرز إرهاصات الضوء الأبيض النقي، مانح الألوان وجودها وموئل ذكرياتها عما كانته في البدء وعما ستكونه عند الاكتمال: إرهاصات بالنقاط والخطوط، إرهاصات بالمساحات الموشحة، وإرهاصات بالبقع السديمية.
كل هذه التشكيلات باللون والضوء تنداح فوق خلفيات داكنة، ومظلمة أحياناً، تحتل أوسع المساحات في اللوحات وتمنحها أعماقاً تدفعنا لأن نمعن النظر في هذه السطوح ثنائية الأبعاد لكي نكتشف الأبعاد الأخرى: البعد الثالث قطعاً، ولكن أيضاً البعد الرابع والبعد الخامس ومايليهما حتى يصل بنا الوجد إلى ذلك البعد الذي لايمكن لأي ما تمثيله لأنه فوق كل تمثيل، والذي لايمكن لأي ما رؤيته لأنه فوق مجال البصر. كل مايمكننا فعله هو استشراف كماله عن طريق استحضار تمثلاته الكونية اللانهائية. وتبقى رؤى «الإشراقات» علامات لنا في توسم المسار إلى الالتحام بهذا الكمال.
وهي كلها تسبح، فليتبارك رسمك يا ضوء.
دمشق، ٢٧ نيسان ٢٠٠٨
ناصر الرباط