الفنان السوري أحمد معلا في معرضه بدمشق: مشهدية غامضة ترثي المدن
في صالة أورنينا بدمشق أقام الفنان السوري المقيم في باريس أحمد معلا معرضاً شخصياً له، وفيه يؤكد تجربة تشكيلية متميزة ويعلن عن موهبة صريحة جديرة بالاهتمام حقاً.
تخرج أحمد معلا في كلية الفنون الجميلة السورية، قسم الاتصالات البصرية عام 1981، وواصل دراسته في الاختصاص ذاته في المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية في باريس، حيث تخرج عام 1987.
كتب أطروحة حول الدعاية الغربية الموجهة للأقطار العربية من خلال الإعلانات التجارية، وحاز الجائزة الأولى في المسابقة الغرافيكية الأوروبية لمدينة كيل بألمانيا الغربية. تلك هي سيرته حتى اليوم باختصار شديد. غير أن سيرته الأهم تدونها أعماله الفنية، وهي سيرة ناقصة بالضرورة ستنضجها وتكملها أعمال قادمة أخرى أكثر اجتهاداً. فهذا هو ما يطلق عليه المسعى الفني الذي ربما يعتبره الفنان نفسه ناقصاً مدى الحياة.
ضم المعرض الحالي 52 عملاً نفذ بالباستيل والزيت، وثمة أعمال مائية وغرافيكية.
ولكن ليس يسيراً أن نقسم الأعمال تقسيماً تعسفياً، حين تفرض علينا رؤيتها في وحدة كلية، مع أن تقسيماً كهذا وارد في الأعمال ذاتها. وتلك هي أهمية المعرض الأولى كما نحسب. إذن هناك رؤية واحدة، من خلالها يعبر الفنان عن موقفه من خلالها بوسائل تنفيذ مختلفة، ولذلك يصعب الفصل بين الأعمال الغرافيكية أو الزيتية، ولذلك أيضاً يبدو تشابه الأعمال جلياً للوهلة الأولى.
تقوم لوحة أحمد معلا على الحشود البشرية. وهذه سمة بارزة لكل الأعمال ما عدا المائية منها. هناك حشود أو مجاميع في كل لوحة، هي الحشود والمجاميع ذاتها في لوحة تالية في النسق المصفوف على الجدار. أحمد معلا يتفادى التركيز على شخصية واحدة.
وبمعزل عن كون ذلك أسلوباً، فهو يشير إلى المصير الجماعي الذي تنشده اللوحة، وهو مصير تراجيدي، يؤكد ذلك غياب الملامح لدى جميع الشخصيات، وتشابه حركتها ودواخلها. أو بعبارة أخرى: ملامح موحدة، وحركة موحدة، ودواخل موحدة تالياً. تلك الحشود متماسكة دائماً، قريبة من بعضها، متلاصقة، كأنها تتكئ على بعضها في مواجهة ذلك المصير التراجيدي القادم إليها من مكان ما. وربما شكلت تجاربها كلها محطات لمواجهته. فهو فعل بيّن كما في لوحة «التشييع»، وهو فعل خفي في لوحات أخرى، إنما نحسن بأثره وهيمنته على حيوات الناس. لذا تنضم الحشود في حركة تعتمد على فكرة مشهدية. كأن اللوحة مصممة من أجل خشبة مسرح، وأحياناً تذهب اللوحة كلها إلى رؤية جدارية، يفصح عنها التجزء الذي اعتمده الرسام في محاولة لتوضيح التحولات أو التقابلات. فنرى أعداداً من الشخصيات والأشياء والحيوانات في مشاهد مجزأة توحي بفكرة الشريط، باستثناءات قليلة ونادرة كلوحة «التشييع».
هذه اللوحة تصلح كتعبير بليغ على معنى الحشود، عن معنى تراصها وتماسكها. لكنها لا تقاوم، بل ترثي. أو أنها ترثي وتقاوم من دون أن تصرح بذلك. فثمة عدو معلن ومجهول في الوقت ذاته يتربص بها، ربما هو الموت أو القتل أو شيء آخر أكثر قدرة على الاختفاء، له ماضٍ بعيد وتجربة طويلة. لذلك نرى الحشود أو صفاً من حشد في لوحة «التشييع» وهو يغذ السير في الطريق حاملاً تابوتاً يمتد على الرؤوس ويستمر إلى أبعد من نهايتها. وثمة تناسق أخّاذ بين حركة القتيل، أي سيره على الأجساد المشيعة، وحركة الأجساد ذاتها. في هذه اللوحة وفي لوحات أخرى غيرها يبدو العمل وكأنه قادم من التاريخ. إنه الفعل ذاته الذي حدث في زمن مضى يظل اليوم كما هو من دون تغيير، إنها محاولة لرصد الحركة الآنية برؤية تستعير من التاريخ شكلها وزمنها، حتى تبدو اللوحة أحياناً وكأنها من النور الذي رسم على جدران الكهوف. لوحة أحمد معلا لوحة ممتلئة، لا فراغ فيها مثل «الطريق إلى حلب»، «أخبار جديدة»، «شجرتان»، «مكائد»، وغيرها. هنا تجتمع الحياة في مألوفها وفي غرائبها فيتوحد المصير مجدداً في اللوحة والبنية، وتكتنز اللوحة حد الانفجار. غير أن ازدحام الشخوص وتعدد المشاهد يشتتان البصر، ويشتتان التوصل إلى الفكرة، إنما لا يلغيان البحث الجمالي والإنساني الذي ينشده الرسام في معالجته لسطوة اللون والحركة والرؤية المشهدية.
كما أن التشابه في الشخوص ينتقل إلى تشابه آخر نجده في لوحات «بيروت»، «دمشق»، «الرقة»، «اللاذقية»، «حلب»، فهذه المدن ممثلة بامرأة عارية، كل مدينة هي امرأة عارية هنا في وضع حركي مختلف. لذا يصعب اكتشاف تمايز لها، إنها تلتقي في عريها الساكن أو الصاخب لا فرق، فالمدن واحدة والرؤية لها واحدة أيضاً. ولكن ثمة ما يميزها عن بعضها، شيء ما خفي وغامض وعصي على الاكتشاف. وهذا ما نجده في أعمال أخرى في صيغة شفافة إنسانية تتسلل إلينا عبر الإيحاء التعبيري في الحركة أو في الشيء المرسوم ذاته، والذي غالباً ما يذكر بالكائنات البدائية، أو في رسمها. يأتي ذلك في بساطة وعمق يستعيران لوحة الطفل البعيدة عن المقاييس التقليدية التي يصر عليها بعض الكبار. هنا تلتقي الروح البدائية مع روح الطفل، الأمر الذي يمنحه أحمد معلا في بحثه الدائب عن خلاص الإنسان بعداً واعياً وهادفاً في الوقت ذاته.
عبد الله صخي