كونشرتو الكمان الجهير

لنوري إسكندر


ربما كان كونشرتو الكمان الجهير (التشيلّو Cello) هذا أول كونشرتو عربي فيما أعرف لهذا الآلة الغربية. وأهمية هذا العمل تكمن في الآلة نفسها وخصائصها وإمكاناتها، وفي قبولها كآلة رئيسة في عمل مكتوب خصيصاً لها من قبل مؤلف عربي. قلما أُسند إلى الكمان الجهير دورٌ في موسيقانا العربية، وفي الفرق الموسيقية العربية، وعومل دوماً كآلة شبه ثانوية، ولم يُستعمل ويعمم انتشاره في الموسيقى والفرق العربية إلا في عام 1935، ولم ينفرد بعزف مستقل (تقاسيم) مثل العود والقانون والناي والكمان على الإطلاق، باستثناء ما أفرد لها بعض الملحنين عدداً من المقاييس في ألحان أغانيهم في محاولة منهم لتقريبها من المستمع العربي، على نحو ما فعل محمد عبد الوهاب في قصيدة "أيها الراقدون" عام 1935، ومحمد القصبجي في رائعته "رق الحبيب" عام 1944، والسنباطي في "ذكريات" عام 1954.


من هنا تأتي أهمية هذا الكونشرتو الذي تم تخصيصه لها، ولا يتوقف الأمر عند هذا التخصيص، لأن المؤلفين الغربيين كتبوا لها أعمالا خارقة إن في الكونشرتو أو السوناتا أو موسيقى الحجرة. وقد كتب لها من المؤلفين العرب الراحل جمال عبد الرحيم ثنائياً جميلاً بمرافقة الكمان، حاول فيه تكريس علوم الموسيقى الغربية لخدمة المقام الشرق-عربي. وهي محاولة تجريبية تختلف عن محاولة نوري اسكندر في هذا الكونشرتو، كما في كونشرتو العود، في المقامات الشرق-عربية، فطوّع بعض عناصرها لعلوم الموسيقى الغربية، بالرغم من صعوبة استخدام هذه المقامات بوليفونياً (تعدد الأصوات) في الألحان التي تنجم عن ربع الصوت التقريبي أو ثلاثة أرباع الصوت في بعض المقامات. وهو الأمر الذي أثير في مؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة عام 1932 وأحدث ثورة، والذي رفضه علماء الموسيقى السوريين المشاركين في المؤتمر من مثل: علي الدرويش وأحمد الأوبري وتوفيق الصباغ.


ويبدو لي أن نوري اسكندر قد درس الأخير دراسة وافية من وراء أبحاثه وتجاربه، حتى استطاع إيجاد التوافق المطلوب بين أرباع الصوت وغيرها من الأصوات، وابتكار توليفات هارمونية. على أساس تلك المقامات، وهذا ما نلمسه في مطلع الكونشرتو الذي مهد فيه لفكرة الموسيقي بانطلاقه من مقام الصبا. وهو لم يكتفِ بذلك، إذ حرر المقام من عبء سيره التقليدي، كما فعل في كونشرتو العود، على الرغم من اختلاف الآلتين طابعاً وخصائصَ وموضوعاً وتعبيراً، حتى إذا انتهى عرض اللحن الأساسي المتماوج اعترضه اللحن الثاني الصاخب والشجي في آن واحد على مقام آخر لا محط له.


من الصعب جداً تحليل ما قام به نوري اسكندر في دور التفاعلات في الألحان التي انبثقت عن اللحنين، وحتى في الهارمونيات التقليدية واصطدامها مع التوليفات النغمية الأخرى التي جاءت على المقامات الشرقية، فهذه كلها تحتاج إلى وقفة متأنية ليس هنا مكانها. ويمكن القول من خلالها إن الكمان الجهير لعب فيها بتوازن بديع مع الأوركسترا دوراً بارزاً، مظهراً روعة هذه الآلة التي قد يظنها المستمع في بعض المواضع بأنها كمان وليست بكمان جهير، ولا ريب أن إتقان العازف فادي حتّر للأوضاع التي يجب أن تكون عليها أنامل العازف في عزفه كان له تأثير كبير في ذلك، وقد يؤهله هذا مع التقنيات الأخرى التي لمستها في عزفه، ولاسيما في التعبير، لأن يصير من العازفين المتميزين والمرموقين بهذه الآلة.


ألحان الحركة الثانية تتسم في شجوها بشاعرية، والانفعال الذي يتبدى فيها أحياناً، ليس سوى معاناة أو ثورة نفسية هادئة، والمتأمل لبعض ألحانها المنبثقة عن اللحن الأساسي يشعر أنه أمام تسبيحة إلهية فيها. والحركة في مجملها لم تخرج في صياغتها عن الأسلوب الذي سار به في كتابته لها، مصمماً على تحقيق ذاته في انجاز عمل متقدم ينير للموسيقى درباً جديداً لم يطرق قبلاً.


تم صياغة ألحان الحركة الثالثة في قالب "الروندو" (Rondo)، ولحن الروندو الأساسي بني على لحن من ألحان الأغاني الشعبية السريعة والمرحة، هذا اللحن يعود بعد كل لحن جديد أو آخر منبثق عنه، في صورة جديدة ومن خلال معالجة مكثفة للنغمات، تتباين واللغة التقليدية المتبعة. والإيقاع الشعبي البسيط الذي استخدمه كان إيقاعاً داخلياً أكثر منه ظاهرياً، ووظفه بإتقان في توقيع اللحن وفي نبره أيضاً. أما الإعادة الأخيرة للحن الروندو الذي اختتمت به الحركة والكونشرتو معا، فيأتي شبه مبتور لأن نوري اسكندر أراد تأكيد ما ذهب إليه من تفكيك سير المقام وفي نبذ التقليد المتبع في المحط المقامي.


وفي كل الأحوال فإن نوري اسكندر، المبدع والمبتكر في أسلوبه الحديث الذي أتيت على ذكره، أقدر مني في شرح ما استعصى علي فيما استنبط وابتكر، وهو واثق بأن ما قدمه في هذين العملين: كونشرتو العود وكونشرتو الكمان الجهير، سيكون فاتحة لقراءة متأنية من قبل المؤلفين الجادين التواقين لموسيقى جديدة وجادة.


 


تمّت كتابة كونشرتو التشيلو لأول مرة بشكل خماسي وتري، عام 1985


تم تنقيحه وتقديمه مع أوركسترا الحجرة الخاص بالمعهد العربي للموسيقا بحلب، عام 1996


يتم تقديمه بصيغته النهائية عام 2008 على قرص مدمج CD من انتاج الأوس للنشر، بمشاركة من:


سولو التشيلو: فادي حتَّر
قيادة الأوركسترا: نوري اسكندر
الأوركسترا: خريجي المعهد العالي للموسيقا بدمشق

مواضيع ذات صلة: