حنا مينه

مقدمة
سيرة حياته
الجوائز التي حصل عليها
أدبه
تأثيره على مسيرة الأدب
أعماله
البطل وأيديولوجيا الرجولة في أدب حنا مينه
ملخص لبعض أعماله
المصابيح الزرق
الشراع والعاصفة
الشمس في يوم غائم
مأساة ديميتريو
الولاعة
خاتمة
المراجع

مقدمة
سهلٌ على الإنسان أن يجلس في برج عاجي ويكتب نظريات في علم الاجتماع، أو يدرس ويكتب الفلسفة أو ربما الأدب، والواقع أن البرج العاجي لا يخفى عند كثيرين من المفكرين لا بل من الفلاسفة، وهذا يخفي شعور بالفوقية على الجنس البشري الذي يتخبط في عالمه ويبحث عن خلاص، ولكن الضمير الإنساني يُخرج من حمأة الواقع رسلاً بسطاء لهذه الإنسانية يلهمونها بمواقفهم، وأعمالهم.

من حمأة هذا الواقع وفي غمرٍ من الفقر المدقع تفتّح برعمٌ حطّت عليه السماء قطرة من ندى هي قبلة السماء وبركتها، هكذا كانت ولادة حنا مينه، لقد سُجِّلت في خلاياه منذ نعومة أظفاره معاناة شعبه وبؤس الفقراء، لكي تتحول هذه المعاناة وهذا البؤس فيما بعد إلى نسغ يغذي كيانه ويطلقه في عمل إبداعي لا مثيل له في غزارته وبساطته ورهافة حسه لخلجات القلب الإنساني. وهكذا نسمعه يقول عن نفسه:

«أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضاً. إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي، وكانت التجربة الأولى في حي (المستنقع) الذي نشأت فيه في إسكندرونه، مثل التجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا، ومثل تجربة الكفاح ما بينهما، منذورة كلها لمنح الرؤية للناس، لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم ومعهم نحو المعرفة، والتي هي الخطوة الأولى في المسيرة الكبرى نحو الغد الأفضل».

سيرة حياته
وُلِدَ حنا مينه في اللاذقية عام 1924، والدته اسمها مريانا ميخائيل زكور، وقد رُزِقَت بثلاث بنات كن بالنسبة لذلك الزمان ثلاث مصائب، عانت منهن الكثير الكثير، فالوسط الفقير إلى حد التعاسة كان يشكل عقلية سلفية بالغة القسوة، وقد تعاون هذا الوسط، وما فيه من ظلم ذوي القربى على إذلال الوالدة باتهامها أنها لا تلد إلا البنات، وكان المطلوب أن تلد المرأة الصبيان، وفي الأقل الأقل، أن تلد صبياً بعد بنت، لكن القدر شاء أن تحمل وتلد البنات الثلاث بالتتابع، الأمر الذي كان يحمل إليها مرارة الشقاء بالتتابع أيضاً.

وهكذا إلى أن أتى حنا في الحمل الرابع، وبكيت والدته فيه من الفرح بينما كانت قبل ذلك تبكي من الحزن، وهكذا بعد طول انتظار وطول معاناة أتت هذه المنحة مهددة بالأمراض، والخوف عليه منها، ثم الدعاء إلى الله في أن يعيش، حتى لا تعيش الوالدة في الخيبة من جديد، وكان الموت والحياة يحومان حول فراش حنا الذي كان طراحة على حصيرة في بيت فقير إلى حد البؤس الحقيقي؛ لقد كان شمعة تنوس ذبالتها في مهب ريح المرض، وكانت الوالدة تسأل الله، وتنذر النذور، وتبتهل بكل ما في الابتهال من ضراعة ألا تنطفئ الشمعة التي كانها، وشاء الله أن يعيش حنا في قلب الخطر، وهذا الخطر لازمه حتى الشباب، وعندما تحول من خطر الموت إلى خطر الضياع، في السجون والمنافي، وهذه التي أبكتها بكاء مضاعفاً خشية ألا تراه وهو يعطي نفسه للعذاب في سبيل ما كان يسميه التحرر من الاستعمار الفرنسي، وتحقيق العدالة الاجتماعية.

إذن، تعين على الطفل الذي جاء إلى الدنيا أن يهاجر مع عائلته من اللاذقية إلى مدينة السويدية في لواء إسكندرون، ثم هاجرت إلى الإسكندرونه، وثم إلى الريف، وبعدها عودة إلى الإسكندرونه نفسها حيث عاش طفولته في حي «المستنقع»، ليدخل في السابعة من عمره المدرسة، وينال الابتدائية عام 1936، ويوقف دراسته. ذلك أنه لم يكن بالإمكان إرساله لمتابعة تعليمه فبالكاد كان لديه «صندل» ينتعله شتاء، فيما يمضي شهور الصيف حافياً. فالأب كان حمالاً في المرفأ، وأحياناً بائعاً للحلوى، أو أجيراً في بستان، وكثيراً ما كان يترك عائلته ويرحل بحثاً عن عمل، لتبقى الأم تعاني مع أطفالها من الخوف والجوع، ما اضطر حنا للعمل في سن مبكرة.

و كانت أسرته تتلقى المساعدة والشفقة من الكنيسة، وقد تحدث عن طفولته في الإسكندرونه قائلاً: «طوال أربع سنوات كنت أقوم مع بعض أطفال المدرسة بالخدمة في الكنيسة، نطفئ الشموع، نحمل الأيقونات، وننام أحياناً واقفين، بكلمة، صلّيت بما فيه الكفاية، أنا مطمئن من هذه الناحية. وفي باحة المدرسة والكنيسة كان ثمة قبور يونانية قديمة، وعلى أحدها كان مجلسي في ساعات الضيق والغربة، والجوع في أحيان غير قليلة، على هذا القبر تعلمت أن أحلم بالمدينة الفاضلة قبل أن أعرف اسمها، وبالحب قبل أن أبلغ السن التي يحق فيها لمثلي أن يحب» وهكذا كان لحياته القاسية أثرها في رواياته تلك، وقد قال عنها: «كنت أعاني البطالة والغربة والفقر والجوع وأحسد الكلب لأن له مأوى».

لقد كان والده رحمه الله رحالة من طراز خاص، لم ينفع ولم ينتفع برحلاته كلها، أراد الرحيل تلبية للمجهول، تاركاً العائلة أغلب الأحيان في الأرياف، للخوف والظلمة والجوع ويقول حنا: «لطالما تساءلت وراء أي هدف كان يسعى؟ لا جواب طبعاً، إنه بوهيمي بالفطرة».

نما حنا عليلاً، وقد عملت أمه وأخواته الثلاث خادمات، أما هو الصبي الوحيد الناحل فقد عمل أجيراً.

في عام 1938، تمت المؤامرة بين تركيا وفرنسا كما يذكر حنا، وأُعطِيَ اللواء إلى تركيا، ودخل الجيش التركي إسكندرون. وفي عام 1939 حدثت هجرة الأرمن والعرب من لواء إسكندرون. وذكر حنا أنه كان ابن ستة عشر ربيعاً عندما هرب في أيلول عام 1939 من إسكندرون إلى اللاذقية عن طريق كسب. ومن احتكاكه مع الأرمن في هذه الظروف كتب فيما بعد روايته «الفم الكرزي».

وكان حنا قد دخل المعترك السياسي الحزبي مبكراً منذ أن كان فتى في الثانية عشرة من عمره، وناضل ضد الانتداب الفرنسي، وعند وصوله اللاذقية عمل حمّالاً في المرفأ، ووجد أن العمل الحزبي في اللاذقية صعب، فشرع مع أصدقائه في تأسيس نقابات في المرفأ، وهكذا استوحى من هذه الحياة فيما بعد روايته «نهاية رجل شجاع».

وكان حنا يبيع علناً في الشوارع جريدة «صوت الشعب»، ويروي حنا أنه كانت هناك صعوبة في توزيع الجريدة بسبب مقاومة الإقطاعيين، وأن أزلام الإقطاعيين لاحقوه وضربوه بالخنجر ليلاً في أحد الشوارع، وظنوا أنه قد مات، لكنه لم يذهب إلى المستشفى خوفاً من معاودة الاغتيال.

وهكذا بعد أن كبر حنا ألقى بنفسه في التيار الهادر لمقاومة الاحتلال الفرنسي، وما عاناه في السجون الفرنسية وحتى السجون الوطنية على امتداد عهد الإقطاع بعد الاستقلال كان يؤرق والدته التي تمنت لو لم ترسله إلى المدرسة التي حرصت على إدخاله إياها كي يتعلم «فك الحرف»؛ ولا يغرب عن بالنا أنه بعد أن أنهى الابتدائية في إسكندرونه، اشتغل في دكان حلاق، وفي ذلك الدكان تفتحت مواهبه، فاحترف كتابة الرسائل للجيران وكتابة العرائض للحكومة، كونه الوحيد الذي يفك الحرف في حي «المستنقع»، هكذا كانت بدايته الأدبية المتواضعة جداً.

إذن، بعد أن قاوم الاحتلال الفرنسي تطوع في البحرية بعد دخول قوات «فرنسا الحرة» إلى سورية في الحرب العالمية الثانية، ولما لم يكن له حظ في التعبئة والتسويق إلى العلمين، لقتال جيش رومل ذئب الصحراء، فقد ترك حنا الخدمة كجندي في البحرية ليصبح بحاراً لمدة قصيرة على المراكب الشراعية التي تنتقل بين مرافئ المتوسط العربية، وعلى هذه المراكب، وخلال العواصف، عاين الموت بنظرات باردة ومن هنا كان ولعه بالبحر ثم الكتابة عنه.

بعد الإبحار على المراكب، غدا الرغيف خيالاً، وكان عليه سداً لجوع العائلة، أن يركض وراءه. فقد اضطر بادئ ذي بدء للعمل حمالاً في المرفأ، ثم حلاقاً في دكان صغير على باب ثكنة في مدينة اللاذقية.

وفي عام 1948 انتقل حنا إلى بيروت حيث أمضى بعض الشهور قبل أن يستقر في العاصمة دمشق، حيث بدأ نجمه يصعد تدريجياً مع روايته «المصابيح الزرق» وعمله في الصحافة في جريدة الإنشاء التي أصبح رئيساً لتحريرها؛ كما عمل في السياسة، وكان قد تزوج من السيدة مريم التي لم تفارقه أبداً، وقد أنجبت له خمسة أولاد بينهم صبيان هما سليم وقد توفي في الخمسينيات في ظروف النضال والحرمان والشقاء، والآخر سعد أصغر أولاده، وثلاث بنات سلوى وسوسن وأمل. لكن عمله في السياسة أدى به إلى الرحيل إلى بيروت مجدداً ثم إلى المجر هرباً من «المباحث السرَّاجية»، ويذكر حنا النوم تحت الجسور في سويسرا وأخيراً إقامته في الصين خمس سنوات، وعودته إلى الوطن عام 1967 فأمضى بضعة شهور في اللاذقية ثم دمشق، حيث عمل في كتابة المسلسلات الإذاعية بالفصحى والعامية، قبل أن يعمل في وزارة الثقافة، وذلك بعد منفى اضطراري دام عشرة من الأعوام.

وهكذا فقد نفعته التجارب القاسية: «أنا الحديدة التي تفلوذت بالنار»، كما يقول في المقبل من أيامه، عندما بدأ بالكتابة الفعلية في الأربعين من عمره.

وقد أفاده العمل في البحر، في كتابة «الشراع والعاصفة»، والاختباء في الغابات أيام مطاردة الفرنسيين وفّر له مادة لكتابة «الياطر» (أي وسادة السفينة)، والتي ستغدو من أشهر رواياته رغم أنه لم يكتب الجزء الثاني منها.

في إحدى قصصه (الكتابة على الأكياس) يصور حنا الظروف الصعبة التي ميزت طفولته، وكيف جعل منه سوء التغذية صبياً نحيلاً غير قادر على القيام بعمل جسدي شاق، وحين أحس بضرورة مساعدة عائلته المعدمة مادياً، ذهب إلى الميناء، حيث اكتشف عدم قدرته على رفع الأكياس، فشعر بالأسى. وحين برزت حاجة لكتابة بيانات بسيطة على الأكياس اختاره «المعلم» لأنه يتقن الكتابة.

ويذكر في القصة أنه حين التقى «بمعلمه» في دمشق بعد مرور سنين طويلة، وكان بصحبته صديق يعرف كليهما، قال ذلك الصديق للمعلم: إن حنا كاتب معروف اليوم، قال ذلك الرجل البسيط: نعم، أعرف ذلك. لقد بدأ الكتابة عندي، على الأكياس!.

أخيراً وليس آخراً، يقول حنا: «لقد تقضى العمر، في حلقاته المتتابعة، بشيء جوهري لدي هو تحقيق إنسانيتي، من خلال تحقيق إنسانية الناس. أنفقت طفولتي في الشقاء، وشبابي في السياسة، ولئن كان الشقاء قد فُرِضَ علي من قبل المجتمع، فعشت حافياً، عارياً، جائعاً، محروماً من كل مباهج البراءة الأولى. فإن السياسة نقشت صورتها على أظافري بمنقاش الألم، فتعلمت مبكراً، كيف أصعّد الألم الخاص إلى الألم العام، وكيف أنكر ذاتي، وأنتصر على رذيلة الأنانية، وكل إغراءات الراحة البليدة، التي توسوس بها النفس، فكان الإنسان في داخلي، إنساناً تواقاً إلى ما يريد أن يكون، لا إلى ما يُراد له أن يكون.

وكان المحيط الاجتماعي الذي نشأت فيه، بتمام الكلمة، أمياً، متخلفاً، إلى درجة لا تصدق، لم يكن في حي المستنقع كله، من يقرأ ويكتب، كان سكان هذا الحي، والأحياء المجاورة من المعذبين في الأرض، الباحثين دون جدوى، عن الخلاص، وعن العدالة الاجتماعية التي لا يعرفون اسمها بعد!!».

الجوائز التي حصل عليها
1 – جائزة المجلس الأعلى للثقافة والآداب والعلوم بدمشق عن رواية «الشراع والعاصفة» عام 1968.
2 – جائزة سلطان العويس من الدورة الأولى عام 1991 على عطائه الروائي.
3 – جائزة المجلس الثقافي لجنوب ايطاليا، فازت بها رواية «الشراع والعاصفة» عام 1993، كأفضل رواية ترجمت إلى الإيطالية.
4 – جائزة «الكاتب العربي» التي منحها اتحاد الكتاب المصريين بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على تأسيسه، اعترافاً بموقعه المتميز على خريطة الرواية العربية.
5 – وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة بتاريخ 28/5/2002م.

أدبه
يقول حنا مينه: «لقد فكرتُ منذ قرأت عمر الفاخوري في الأربعينات، كيف يكون الأديب من لحم ودم، وليس من حبر وورق، وأدركت ألا شيء يجعل الأديب حياً، مثل أن يباشر الأحياء، ويخرج من وحدته البودليرية التي لا تتيح سوى السقم والأشباح، وأن التجربة بأوسع وأعمق معانيها، بكل أخلاقيتها ولا أخلاقيتها، هي التي تكسو هيكل الأديب باللحم، وهي التي تجعل الدم يجري في شرايينه، وبذلك تؤهّله لأن يكون خالقاً حياً. يخلق شخوصاً أحياء يعيشون بيننا، ويتنفسون هواءنا، ويكونون صورة عنا، حتى إذا عايشناهم في الكتب قلنا: هؤلاء هم نحن».

كان أدب حنا مينه واقعياً، وقال عن نفسه أنه كاتب الواقعية الاشتراكية، ويرفض الواقعية باعتبارها مدرسة في التعبير الأدبي تأخذ الواقع كما هو، فالواقع في الحياة في رأيه يصير واقعاً فنياً في العمل الأدبي وهكذا فإن مقولة «الانعكاس» تعبّر عن أشياء الوجود التي تنعكس في الذات الإبداعية، وهناك تختمر، وتعود لتعكس الواقع بصورة أخرى: «فنية» إن صح التعبير.
أما مفهوم الواقعية الاشتراكية كما يحددها أرنست فيشر في كتاب «ضرورة الفن» فهي التي تحقق الشروط الآتية:

- تحليل الواقع ونقده من خلال عقيدة واضحة، الأمر الذي يسمح بفهم جماعي لا فردي للظاهرة الاجتماعية.

- التأكيد على انهيار البنى التقليدية وعلى مظاهر الفساد والفقر والتخلف.

- الثقة بالمستقبل والتأكيد على أن هذا المستقبل المتفائل يمكن إنجازه من خلال النضال الاجتماعي والتضحية والتجربة.

ويقول حنا: «الواقعية في الإبداع هي غير الواقعية في الحياة، فالواقعية كمدرسة في التعبير الإبداعي تستوعب جميع المدارس الأدبية من الرمزية إلى التعبيرية إلى الأسطورية إلى رواية اللا رواية وبدعتها التي ظهرت في أوروبا وتسابق عليها بعض المبدعين العرب، وكذلك رواية الحداثة وما بعد الحداثة، إذ كل هذا مصدره الواقع، مادياً كان أم معنوياً، ومن الطبيعي، والحال كذلك، أن تكون الأسطورة من بعض الواقعية التي أومن بها، ولا أنكرها كما يفعل بعض الآخرين».

وحنا يميز بين القصة والرواية فهما مختلفتان، ففي حين أن الرواية حياة وبالتالي فهي تتقدم، نجد أن القصة عبارة عن لقطة مفردة من الحياة، فهي تتراجع، وفي رأي حنا أنه ليست فقط القصة وحدها هي التي تتراجع أمام تقدم الرواية، بل الشعر والمسرحية وكل الآداب النثرية.
أما عن علاقة المضمون بالشكل فقد كان المضمون هو الذي يجذب انتباهه. وها نحن نسمعه يقول: «في كل رواية أكتبها هناك الجديد، وهناك الاكتشاف للمناطق المجهولة».

وفي رأيه أن كل إقحام للسياسة في الأدب دون أن ينبثق عن ذات الأديب، وضمن شرطه الفني يفسد العمل الإبداعي.

تأثيره على مسيرة الأدب
يُعتبَر حنا مينه شيخ الرواية السورية وأحد أعمدة الرواية العربية في إثرائه لفيوض الخطابات السردية وتمازجاتها التاريخية والسيَرية والواقعية مع الأخيولة.

كما أن عشاق النقد التقييمي يعدون حنا مينه أبرز اسم بعد نجيب محفوظ على خارطة الرواية العربية المعاصرة.

وكانت مساهمة حنا مينه كبيرة في ما يعرف بأدب البحر، وذلك لأن الأدب العربي القديم يكاد يكون خالياً من الإبداع العربي البحري، وكتب تقريباً ثمانية روايات عن البحر لعل أهمها «الشراع والعاصفة» التي أطلق النقاد عليها اسم قصيدة البحر أو ملحمة البحر وتُرجِمت إلى الإيطالية ونال جائزة عليها. فمعاناة البحر في اللجة وفي الأبعاد القصية ومجابهة العواصف، لا يوجد ما يعالجه بفنية عالية، كما لا نجد في الأدب العربي الحديث، مثل هذا الحيز اللازم لهذا الأدب.

وقد أشار أحد الباحثين إلى أن البحر في أدبه إنما هو مكان وإنسان وإله، تتعرف إليه مادة وروحاً وتصطاده رمزاً وأسطورة وتقرؤه فلسفة لمعنى الحياة ذاتها. وهكذا نجد أن المرأة والبحر لديه مرادفان للمغامرة والتجربة وارتياد المجهول واكتشافه، مناقضان للرتابة الاعتيادية، وهادفان دوماً إلى التجديد والتغيير.

إلا أن المحور الأساسي في أعماله كان النضال لأجل العدالة الاجتماعية التي نذر نفسه لها والتي بدونها ستبقى البشرية معذبة، ثاقبة، عارية، حافية، مجروحة الروح مدماة القلب والمشاعر كما يذكر في حوار له.

وقد تُرجِمَت روايات حنا مينه إلى سبع عشرة لغة أجنبية، «المصابيح الزرق» تُرجِمت إلى الروسية والصينية، و«الشراع والعاصفة» إلى الروسية والإيطالية، و«الثلج يأتي من النافذة» دُرِّسَت في السوربون بفرنسا لطلاب القسم العربي، و«الشمس في يوم غائم» ترجمتها منظمة اليونسكو إلى الفرنسية، وتُرجِمَت إلى الإنكليزية في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة الأميركية، و تُرجِمَت «الياطر» إلى الفرنسية والإسبانية والرومانية. و«بقايا صور» تُرجِمَت إلى الصينية والإنكليزية في واشنطن والفارسية والألمانية. و«المستنقع» تُرجِمَت إلى الفارسية، و«حكاية بحار» إلى الروسية.

وهكذا فإن أدب حنا مينه قد انتشر عالمياً وساعد هذا على انتشار تجربته في أوروبا والصين بالإضافة إلى الوطن العربي، فقد عبّر عن علاقة الأنا بالآخر، وقد درست هذه العلاقة الباحثة وجدان يحيى محمداه.

وفي دراستها تذكر أن مفهوم الآخر يتمثل في بحوث الأدب المقارن بصور الشعوب وما تتضمنه من أنماط بشرية مختلفة وأحكام مسبقة، وإشارات وطرائف وآراء ومشاهدات حول تلك الشعوب.

«وهكذا بات مفهوم "الآخر" في ميدان الأدب المقارن يعني "الأجنبي"، أما مفهوم "الأنا" فإنه يعني الوطني».

من هذا المنطلق ينجلي هذا الآخر في أعمال حنا مينه، فهو الذي كتب رواية الصين الكبرى في ثلاثية تقع في ألف صفحة بعنوان: «حدث في بياتخو، عروس الموجة السوداء، المغامرة الأخيرة». وهو يرصد واقع الصين في بداية الستينات والثورة الثقافية في بناء الصين الاشتراكية في قمة الاضطراب والنكوص والإقدام والحماس، والخلاف الذي استحكم بين موسكو وبكين.

أما في رواية «الربيع والخريف» فقد كتب عن «بلاد المجر-هنغارية» وعن الثورة المضادة في المجر عام 1956، أما في رواية «فوق الجبل وتحت الثلج» فقد كتب عن بلغارية، وسبب انهيار بنائها الاشتراكي عام 1990، أما في «المرأة ذات الثوب الأسود» فهو يتحدث عن المجتمعات الغربية (الفرنسية والإنكليزية)، وما تعانيه من آفات ومشكلات اجتماعية مثل الشذوذ الجنسي من خلال شخصيتي مارغريت الفرنسية وسميث الإنكليزي، أما في «حمامة زرقاء في السحب» فقد كشف عن الديمقراطية المزيفة التي وجدها «جهاد مروان» في كل من حي «سوهو» وحدائق «الهايدبرك» في لندن، وأما في «الرجل الذي يكره نفسه» فقد كتب عن سبب انهيار العالم الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي وصموده في الصين.

وقد كتب عن «النضال ضد الاحتلال الفرنسي» في أكثر رواياته، ووضح أن الاستعمار الفرنسي هو امتداد للاستعمار التركي العثماني الذي كان من قبله، وهما وجهان لعملة واحدة وهي الاستغلال واستعباد الشعوب واستنزافها ونهب خيراتها.

فمن خلال أعمال حنا مينه نرى تفاعل الذات مع الآخر سلباً وايجاباً. فقد بات من المعروف أن «الذات تدخل في نسيج الآخر، وتتحد مع الآخر على نحو يعترف بتعدد الآخر وتنوعه وتباينه واختلافه معها».

وهكذا فقد تخطت روايات حنا مينه حدودها اللغوية العربية باستقبالها المتنوع خارج حدودها القومية عن طريق الترجمة، بمعنى آخر كما تذكر الأستاذة وجدان يحيى محمداه أن توفر الشرط الاستقبالي، وما تضيفه من جمالية إلى الأدب في العالم، بالإضافة إلى توفر الشرط الإنتاجي، أي ما تتمتع به من مستوى فني وفكري متميز، يكسب أعمال مينه الأدبية صفة العالمية.

أعماله
1 – المصابيح الزرق، رواية، 1954.
2 – الشراع والعاصفة، رواية، 1966.
3 – الثلج يأتي من النافذة، رواية، 1969.
4 – ناظم حكمت وقضايا أدبية وفكرية، سيرة ودراسة، 1971.
5 – الشمس في يوم غائم، رواية، 1973.
6 – الياطر، رواية، 1975.
7 – بقايا صور، رواية، 1975.
8 – الأبنوسة البيضاء، مجموعة قصصية، 1976.
9 – من يذكر تلك الأيام، مجموعة قصصية بالاشتراك مع د. نجاح العطار، 1976.
10 – أدب الحرب، دراسة بالاشتراك مع د.نجاح العطار، 1976.
11 – المستنقع، رواية، 1977.
12 – ناظم حكمت: السجن–المرأة–الحياة، دراسة، 1978.
13 – ناظم حكمت ثائراً، دراسة، 1980.
14 – المرصد، رواية، 1980.
15 – حكاية بحار، رواية، 1981.
16 – الدَّقل، رواية، 1982.
17 – هواجس في التجربة الروائية، خواطر وتأملات، 1982.
18 – المرفأ البعيد، رواية، 1983.
19 – الربيع والخريف، رواية، 1984.
20 – مأساة ديميتريو، رواية، 1985.
21 – القطاف، رواية، 1986.
22 – كيف حملت القلم، مجموعة مقالات وحوارات، 1986.
23 – حمامة زرقاء في السحب، رواية، 1988.
24 – نهاية رجل شجاع، رواية، 1989.
25 – الولاعة، رواية، 1990.
26 – فوق الجبل وتحت الثلج، رواية، 1991.
27 – الرحيل عند الغروب، رواية، 1992.
28 – النجوم تحاكم القمر، رواية، 1993.
29 – القمر في المحاق، رواية، 1994.
30 – حدث في بياتخو، رواية، 1995.
31 – المرأة ذات الثوب الأسود، رواية، 1996.
32 – عروس الموجة السوداء، رواية، 1996.
33 – المغامرة الأخيرة، رواية، 1996.
34 – الرجل الذي يكره نفسه، رواية، 1998.
35 – الفم الكرزي، رواية، 1999.
36 – القصة والدلالة الفكرية، دراسة، 2000.
37 – حارة الشحادين، رواية، 2000.
38 – صراع امرأتين، رواية، 2001.
39 – البحر والسفينة وهي، رواية، 2002.
40 – حين مات النهد، رواية، 2003.
41 – شرف قاطع طريق، رواية، 2004.
42 – الذئب الأسود، رواية، 2005.
43 – الأرقش والغجرية، رواية، 2006.
44 – هل تعرف دمشق يا سيدي، مجموعة مقالات.

البطل وأيديولوجيا الرجولة في أدب حنا مينه
من المعروف أن الشخصية الأولى أو الرئيسة هي المعبّر عنها بشخصية «البطل»، وهكذا فالرواية تولي شخصية ما عنايتها الكبرى، فتكون محور الصراع الذي هو أساس بناء الرواية والذي قد يكون ضد طبقة ما كما في «الشمس في يوم غائم»، أو ضد عوامل الطبيعة كما في «الشراع والعاصفة»، أو ضد الذات نفسها كما في «مأساة ديميتريو».

ويشير النقاد إلى أن البطولة تتراوح بين الفرد والجماعة، فالبطل الفرد «زكريا» في «الياطر»، أما البطل الجماعي الذي يعكس تطور الوعي الاجتماعي وصراع البطولة الجماعية في مواجهة الاستلاب والمأساة التي يعيشها فيظهر في رواية «المصابيح الزرق».

ويصنف الدارسون البطل بوجهين: البطل الإيجابي والبطل السلبي. يقول الدكتور محمد الباردي: «إن البطل الروائي في أعمال حنا مينه هو بطل واقعي مهمته الأساسية الاحتجاج على الواقع ونقده. ويستطيع البطل الإيجابي دائماً تجاوز العراقيل وإيجاد فرصة الانسجام مع محيطه الاجتماعي في نضاله ضد عدو يهدد مجموعته، وهكذا فالخطر الخارجي الذي يهدد العالم الاجتماعي الذي يعيش فيه البطل يدعوه إلى الانسجام مع وسطه الاجتماعي وبيئته في الروايات ذوات البطل الإيجابي؛ ويدعوه كذلك إلى أن يحمل وعي مجموعته. في حين يجد البطل الإشكالي نفسه غير قادر على تجاوز العراقيل الشخصية أو تلك التي تضعها المجموعة، رغم نواياه الطيبة ورغبته في الحركة والفعل.

والبطل في الروايات ذوات الشخصية الإشكالية، يجد نفسه وحيداً في مواجهة عالمه، وهو إذ يبدو متشبّعاً بوعي اجتماعي في عالمٍ لا يواجه الخطر الخارجي مباشرة، فإنه يشعر بصعوبة صقل شخصيته وبلورتها».

وبدوره، يصنف الناقد جورج طرابيشي أبطال حنا مينه من الناحية التحليلية النفسية، فيقول: «أبطال حنا مينه سواء احتلوا مكانهم في هذا الجانب أو ذاك من جبل الوجود، فإنهم لا يفهمون أنفسهم، ولا العلاقات فيما بينهم بمفردات التحليل النفسي أو غيرها، فهم -أكثرهم على أية حال- أشخاص من لحم ودم، وهم من ثم لا يعقلون أنفسهم إلا بلغة اللحم والدم: الرجولة والأنوثة. والقاسم المشترك بينهم هذه المرة، أنهم لا يكرهون شيئاً كما يكرهون الموقف السلبي أو المؤنث إزاء الرجال الآخرين، فهم إما رجال وأكثر من رجال، وإما مناضلون في سبيل أن يكونوا رجالاً.

والبعض منهم يفسرون نقص كينونتهم على أنه "أنوثة"، فلن يكون عندهم من تفسير للرجولة إلا على أنها وجوب كينونة، ومن هنا كان شعار وجودهم: التشدد الأخلاقي في معاملة الذات وصولاً إلى الشهادة.

أما في الموقف من البعض الآخر، فإنهم يفسرون فيض كينونتهم على أنه "رجولة"، فليست الرجولة إذن مجرد مسألة تشريح. والإنسان لا يُخلَق رجلاً، بل يصير رجلاً. وحتى إن خُلِقَ رجلاً فلن تكون حياته إلا نضالاً دائباً في سبيل أن يبقى كذلك، ولا رجولة بلا دليل على الرجولة».

ففي رواية «الشمس في يوم غائم» يروي الخياط هذه القصة: «دخل القائد الفارس مجلسه فغض الحاضرون أبصارهم. كان فارساً شجاعاً قاد رجاله عبر السهوب والجبال، وتحمّل معهم، ولأجلهم، أقسى العذابات خلاصاً من ذل السلطان. وكانت له عينان لا يقوى الناظر إليهما على الثبات. وفي المجلس عند دخول الفارس –كان رجل– يحدق فيه. لم ينهزم ولم يغض طرفه، وخيّم على الصيوان جو من الصمت المكهرب. ووسط الدهشة والذهول، تقدم الفارس من الرجل وصاح به: "هيا! لنتبارز! لينهزم أحدنا أو يموت". فأجابه الآخر: "لا، لا داعي لهذا، نحن من قبيلة الذكور، وفي قبيلتنا شيء اسمه صداقة الرجال. امنحني صداقة رجل لرجل، وهذا يكفي، وعندئذ لا يغض منا الطرف للآخر. منحه ما أراد: صداقة رجل لرجل، صار أحدهما ظهراً للآخر في الملمات».

هذا عن صداقة الرجال. ولكن ثمة تمظهر أساسي للرجولة يتجلى من خلال الأنوثة، وبعبارة أخرى من خلال الخبرة الجنسية معها بأصدق معانيها التي يعبر عنها حنا مينه في أعماله، ففي «الشمس في يوم غائم» يعبّر عن مفاهيم درسها التحليل النفسي كعقدة أوديب وتعلق الطفل بأمه، وعثور الأم على أمنها اللاشعوري في طفلها، وحنا مينه برهافة حسه يجسّد هذه المفاهيم ويعبّر عنها دون دراسة لعلم النفس. فهو يؤكد على مفهوم الرجولة، وأنه تجاوز ناجح لمركب الأوديب، وأن الإنسان لا يولد رجلاً بل يصير رجلاً، وفي هذه الصيرورة تأتي الخبرة الجنسية مع المرأة. فالمرأة هنا هي التي تلده رجلاً، وهذا ما يعبر عنه حنا مينه في «الشمس في يوم غائم»، عندما طرقت «امرأة القبو» باب بيتهم لتعوده ولترد إليه الخنجر الذي جرح ركبته في رقصته الرمزية، فقد صدرت أكثر ردود الفعل جذرية عن الأم نفسها. ففي حين أن باقي أهل البيت لم يروا في زيارة المومس هذه سوى «فضيحة جديدة» يرتكبها فتاهم المتمرد، انتترت الوالدة، و«وقفت كدجاجة صغيرة رأت خيال طير يمر على الأرض التي يقف عليها فراخها. لم تقوقئ خوفاً. ارتبكت وشحبت. كانت هذه أول مرة تفطن إلى أن فرخها الراقد في غرفته قد صار له دجاجة غيرها. أحست، دون أن تفقه سبباً لذلك بعداء للمرأة الغريبة. الآن فقط غادرت والدتي عالم الدجاج إلى عالم الإنسان، انقلبت أنثى أمام أنثى».

«لعلها لم تعتد بعد على فكرة أنني رجل يمارس الجنس مع إمرأة. كان خيالها يتشبث بصورتي وأنا طفل. وإذ أكون طفلاً فأنا ملكها. وفجأة ألفتني رجلاً وهي إمرأة، أم ولكن إمرأة، وتأتي امرأة أخرى، غريبة، تأخذني منها. تدنسني بجسمها، تجعل للقبلة معنى، وللجلوس في الحضن معنى، ولوجودها معي في غرفة واحدة والباب مغلق معنى، وأمي لا تدخل في دائرة هذه المعاني، لكنها مضطرة إلى الإحساس بها، ومنذ أحست بها انطوت على شعور بأنها فقدت صغيرها الذي كبر وصار رجلاً».

وليس غريباً أن نسمع حنا مينه يقول: «أحب بطلاتي إلي "امرأة القبو"، أما التي تجسد المرأة التي أريد فما زالت وهماً، أسطورة، جنية قمر، يبحث عنها "كرم" بطل روايتي "الربيع والخريف"».
وأيضاً: «بودي أن أكتب قصة أهديها إلى أول "سيئة" في دمشق، لأنها في سوئها صنعت تقدماً اجتماعياً لم يقو عليه الرجل بشرفه المزيف. إن أول امرأة دخلت المقهى أو المطعم، وأول امرأة رقصت، وغنت، وسافرت، وعادت، وكسرت طوق القهر الاجتماعي، تماماً كالمرأة التي تعلمت وعلمت، مباركة المرأة في كل حالاتها».

ولما كانت المرأة هي التي تكمّل الرجل وتحقق توازنه ومن خلالها يولد البطل، فلا غرو أن حب المرأة، يكاد يكون مالكاً قلوب أبطال حنا مينه.

ثمة تمظهر آخر للرجولة ندرسه في رواية «الشمس في يوم غائم» كمثال هذا التمظهر، يعبر عنه الناقد جورج طرابيشي فيقول: «وخاتمة هذه الرواية وإن كانت على إبهامها المقصود فهي تقول كل شيء، تقول عجز الفتى، شلله عن الفعل انفغار جرحه». الواقع أنه صورة من صور البطل الإشكالي التي درسناها آنفاً في أدب حنا مينه، ولكن الخاتمة تقول أيضاً شيئاً يعبر عنه الناقد جورج طرابيشي بقوله: «الخاتمة تتحدث أيضاً عن كراهية الفتى. والكراهية يمكن أن تكون الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل نحو الموقف الإيجابي من العالم، أو ما يسميه الفتى بإكبار "الرجولة"، فليس بالحب وحده يحيا الإنسان، بل كذلك بالكره. وأحد منابع الجمال في رواية "الشمس في يوم غائم" أنها عرفت بتدخل من أيديولوجيا الكاتب الواعية، كيف توجه رأس حربة هذا الكره، لا نحو الأب من حيث هو أب فحسب، بل كذلك نحو الطبقة التي يمثلها هذا الأب، وهي طبقة يقارب كرهها، أن يكون واجباً يمليه حب الإنسانية».

وربما ما أراده الناقد جورج طرابيشي من تعبيره «الكراهية»، هي تلك النزعة العدوانية الكائنة في صميم الكائن الحي، والتي يتميز بها الرجل أكثر من المرأة بفعل ما تتطلبه منه الطبيعة من نضال ومقاومة وتذليل الصعاب.

وما البطولة إلا تسامٍ وتصعيد لهذه النزعة العدوانية ودعوة لتحقيق الرجولة بأعلى درجاتها.

ملخص لبعض أعماله
المصابيح الزرق
وهي الرواية الأولى التي كتبها حنا مينه سنة 1954 واستغرق في تأليفها ثلاث سنوات كاملة، وكما يذكر د. محمد الباردي أنها لم تكن رواية شخصية أو بطل، بقدر ما كانت ترمي إلى وصف مدينة اللاذقية أثناء الحرب وحياة الناس الذين كانوا يعيشون فيها. فموت البطل «فارس» بعد انخراطه في جيش الحلفاء يتناقض مع وعيه السياسي. وقد كان الكاتب مهتماً بالمأساة الاجتماعية، ولذلك ظل يبحث في هذا العمل عن مرض خطير كمرض السل ليضع حداً لحبكته.

والرواية تسعى إلى أن تكون رواية ذات بطل إيجابي. ففارس هو فعلاً شخصية متميزة، إذ تمر بتجارب فردية وجماعية تضعه على اختبار وتتويج بين الشخصيات الثانوية التي تلعب أدواراً هامة. ومع ذلك فإن الرواية تعرض حكاية بطل ومجتمع في آن واحد، ففارس صبي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، كان يعيش مع أسرته في مدينة اللاذقية أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكنه يترك الدكان الذي كان يشتغل فيه لأن صاحبه يدعى إلى الحرب فيجد نفسه يعيش فراغاً قاسياً في بيت فقير، هو في الواقع ليس إلا حجرة على يمين الباب الكبير لسكن جماعي، يلتقي فيه بعض العمال والبطّالين وبعض القرويين الذين استقروا في المدينة منذ وقت بعيد. ولكنه يدخل السجن بسبب خصومة بين الخباز وسكان الحي سرعان ما تحولت إلى معركة مع السلطات الفرنسية. وبعد تجربة السجن يعود إلى البطالة والفراغ ويحب جارته «رنده» التي تشتغل مع أمه في «الريجي» ثم يلتحق في النهاية بقوات الحلفاء وقد انسدت أمامه كل الآفاق، وعندما تنتهي الحرب يموت البطل وتموت الحبيبة. بيد أن حكاية البطل توازيها حكاية المجتمع، فسكان مدينة اللاذقية يعيشون حياة عسيرة في ظروف الحرب، إذ قل العثور على الطعام ودُهِنَت الفوانيس باللون الأزرق، ومع ذلك فقد ظل الحي الفقير يستمتع بسعادته الشعبية العادية من خلال مقهى شوقي الذي تحول إلى قاعة للقمار أو إلى حانة، ومن خلال عدد هام من الشخوص الذين يختلفون أمزجة وسلوكاً ويبرزون عبر أحداث قصيرة يومية فرضتها وضعية الحرب التي تعيش فيها مدينة اللاذقية. فأبو البطل الذي عاش متسلِّحاً بالصبر لم يجد حرجاً في مشاركة جيرانه سعادتهم – رغم الظروف الصعبة- بحكاياته ومواويله. وكذلك الشأن بالنسبة إلى الأم التي تجد لذة في سرد بعض الحكايات المتعلقة بشغلها في «الريجي»، وبالنسبة إلى خادم الكنيسة الذي يقضي وقته في مغامراته النسائية، والحدّاد مكسور الذي لا ينفك يختلق الأكاذيب ليقنع مساعده البليد الحالم بالزواج. في حين ظل المختار رغم أنه الممثل الشرعي للسلطات الرسمية في المدينة، يحرّض على الإضراب ويعرّض ولده للاعتقال. وظل محمد الحلبي، رغم الحرب، لا يخفي مشاعره الوطنية ويقود الجماهير الشعبية في مظاهرات ذات بعد سياسي واجتماعي، فالدعوة إلى الاستقلال، لا تستقل عن ظروف الدعوة إلى تحسين الظروف الاجتماعية. وهكذا تخفي الاهتمامات الجماعية المشاغل الذاتية والفردية. فقد أثارت الحرب ضغينة بين سكان الحي الذين لا يعفون عن الخونة أمثال حسن حلاوة الذي سرق خبز المتساكنين، وتعاون مع الأعداء. فقد قسّمت فرنسا الوطن، وأحالت جزءاً منه إلى غرباء، وأهان الجنود سكان الحي عندما استباحوا النساء وقتلوا الرجال. ولكن الحرب انتهت بعد سنتين، فأزاح السكان اللون الأزرق عن فوانيسهم وواجهاتهم البلورية، وعاد الجنود إلى ذويهم واستعادت الحركة السياسية نشاطها ودعّمته. ولذلك تبدو الرواية قصة مجتمع يقاوم في ظلال الأضواء الزرقاء التي حتمتها الحرب.

الشراع والعاصفة
وتقوم هذه الرواية بدورها على حكايتين: حكاية بطل وحكاية وطن أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد ألفها الكاتب في فترة زمنية دامت سنتين (1956–1958).

يبدو الطروسي في هذه الرواية، الشخصية المركزية. فهو بحّار يعيش لحظة الانتظار والأمل، وقد ارتبط ماضيه ومستقبله بشاطئ اللاذقية، بعدما غرق مركبه أثناء عاصفة هوجاء عام 1936. ولكي يظل دائماً رفيق البحر و«جاره في الفصول الأربعة» افتتح مقهى على الشاطئ. وقد رغب في العودة إلى البحر، لكن الحياة تغيرت، إذ أصبح البحّارة عمالاً وهو لا يقدر في مثل هذا العمر، أن يتحمل هذه الوضعية الجديدة أو أن يصبح رجلاً من رجال سادة الميناء. وهكذا يجد نفسه وحده، بعد موت والديه وسفر إخوته، يدير شؤون مقهى صغير يستقطب مشاغل البحارة.

وقد وجد البطل نفسه في مواجهة صراعين، ينعكس الأول على حياة الميناء ويقوم على مواجهة بين رجلين ينتميان إلى أسرتين تتقاسمان النفوذ في المدينة، وتنتميان إلى تجمعين سياسيين مختلفين يتصارعان بدورهما في سبيل الوصول إلى الحكم بعد جلاء الفرنسيين، وينعكس الثاني على حياة الوطن عامة ويقسم الشعب بطريقة أو بأخرى، وهو يعكس الخلاف الكوني بين قوتين متصارعتين، المحور والحلفاء.

يُعتبَر أبو رشيد سيد الميناء، فهو وحده المالك للمواعين رغم تواضعه ولباس البحار الذي يرتديه، وهو يبسط نفوذه عبر أحد رجاله «الشرعيين» أبي أمين، مدير الميناء، ويعرض الرشاوي على أصحاب النفوذ في المدينة وكبار الموظفين، ويموّل الحملات الانتخابية ويدعم مرشحيه، ولكنه يباشر صراعاً سياسياً مع خصمه الرئيسي، نديم مظهر الذي يُعَدّ بدوره الرجل الأقوى في حي الشيخ ظاهر، بحكم أن العائلة التي ينتسب إليها تهيمن على حركة النقل في المدينة. وقد احتدم الصراع بين الرجلين، ذلك أن أبا رشيد الذي يدعم الكتلة الوطنية يسيء إلى مصالح عائلة مظهر التي تدعمها الكتلة الشعبية، وذلك بإثارة البحّارة ورجال الأمن ضدها. بيد أن الطروسي الذي يعيش في الميناء يصبح طرفاً في هذا الصراع، فهو في البداية يرفض أن يخضع لسلطة مالك المواعين الذي يسعى إلى إبعاده عن الميناء حتى يحبط أي محاولة لتنظيم حركة نقابية تدافع عن حقوق العمال، فقد حاول في البداية أن يستعمل مدير الميناء، ثم وظّف أعوان الأمن، وفي النهاية عمد إلى محاولة قتله بواسطة أحد رجاله. وقد كان الطروسي يدرك طبيعة الخلاف الذي يفصل بين الرجلين، ولكن طيبته وميوله الاجتماعية ووطنيته، تضعه في مواجهة الرجل القوي في الميناء الذي يقاوم أي شكل من أشكال التنظيم النقابي. ولكنه رغم الصداقة التي تربطه بنديم مظهر يدرك أن التناقض الطبقي يفصل بينهما ويجعله لا مبالياً إزاء الرجلين والكتلتين معاًً.

وخارج الميناء يجد البطل نفسه في مواجهة صراع من نوع مغاير فرضته الحرب، ذلك أن مجموعة يونس بحري تساند ألمانيا في حرب الحلفاء، مقتنعة اقتناعاً تاماً بأفكار الدعاية النازية التي تربط استقلال الدول العربية بانتصار هتلر في حربه، إلى درجة أن أبا حميد زعيم المجموعة يرى العالم في وضعيتين ويعتقد أن المسألة لا تكون إلا ألمانية أو إنجليزية، في حين يبدو الأستاذ كامل رجلاً ملتزماً بقضايا السياسة دفعته ظروفه الشخصية إلى أن يكون نصيراً قوياً للحلفاء وللاتحاد السوفياتي بصفة خاصة، وصاحب أطروحة ترى أن القضايا السياسية معقّدة وأن ما يحدث في العالم يوجه قضايا الوطن. وقد كان الطروسي في البداية متعاطفاً مع أنصار ألمانيا، لا يكترث بتنظيم العمال داخل النقابات في الميناء، ويسهل الاستماع إلى راديو برلين بالنسبة إلى «مجموعة يونس» في مقهاه، ولكنه لا يفهم جيداً تحمس الناس لألمانيا وروسيا وقضايا العالم. وبعد خيبة ألمانيا، عمّق اتساع العمل السياسي في الوطن وتأثير أفكار الأستاذ كامل حبه الوطني والتزامه السياسي، بالإضافة إلى حدث غيّر مجرى حياته وأعاده إلى البحر والحرية تمثَّل في إنقاذ مركب الرحموني من الغرق. وهكذا كان تحرر البطل رهين تحرر الوطن من الاحتلال وتحرر العالم من الخطر النازي. وهكذا يعتبر د. الباردي «الشراع والعاصفة» رواية تسجيلية، إذ وصفت الحركة النقابية في مدينة اللاذقية سنة 1946 والحياة السياسية عامة في الوطن أثناء الحرب العالمية الثانية.

الشمس في يوم غائم
ويتحدث فيها الكاتب عن الفتى طالب البكالوريا ابن الثامنة عشرة، متمرّد، يهوى تعلم العزف على أية آلة موسيقية تطالها يده، عود، كمان، بزق، شبابة، لكي يصبح موسيقياً ويستخرج ما في قلبه.

وفي الوقت نفسه فهو سريع الولع بالشيء سريع الضجر منه، لا يطيق صبراً على حياة أهله المترفة الرتيبة، وهذا يكفي لكي يجعلهم ينظرون إليه كولد شاذ رغم تفوقه الدراسي. ولما كان لتلك الأسباب نزقاً، فقد كان يستبدل الآلات كما يستبدل المعلمين. أُغرِمَ بالناي، ثم بالعود، تلاه الكمان.

وعلى يد الخياط تعلم الفتى الرقص على أنغام العزف، وتمتع كثيراً بتعلمه رقصة الخنجر رغم خطورتها، تلك الرقصة التي أداها وسط الحشد الجماهيري بحماس حتى ظن أن روحاً جديدة حلت به، فكان في رقصه كمن هو بين الإفاقة والوسن، يرى حقيقة، ويرى حلماً، حين رأى بين الحشود وجهاً باسماً، فالصورة خرجت من الصورة، وكان واثقاً أنه لو عاد إلى الرقص فستخرج ثانيةً. ولكن الصورة بقيت صورة، فأقام في المعبد مطيلاً رافضاً، ولم تجدِ دموع الجموع توسلاً فكان كمن جن جنوناً قاطعاً، وغدا حزيناً صامتاً.

تلك كانت تداعيات الرقصة التي جلبت عليه رياح الغضب داخل الأسرة، فوالده اعتبر الحادثة مشينة، أما خطيب أخته، رئيس القلم، فقال بنبرة تحريضية، النوَر وحدهم يرقصون على هذا الشكل لجمع الفلوس، أما هو فلم يأبه لذلك أو كما قلنا كان كمن، جن جنوناً قاطعاً، واختفى معلمه، الخياط، ذلك الرجل الذي بات يؤمن به في داخله، ويتراءى للفتى حكيماً، وأنه سيدله على المرأة التي تراءت له خلال الرقص.

حدث ذلك قبل أن يهيم متسكعاً بين الخمارات والمقاهي على البحر، والسينمات. ولم ينه تسكعه إلا في بيت عمه، وهناك رأى ابنة عمه بنظّاراتها الطبية التي يكرهها، تعزف على البيانو، قبل أن تقترب منه خجلة وتقول: خذني معك إلى الخياط! ونتيجة لذلك الصراع المأساوي الناجم عن فقد ذلك الوجه العزيز ذي الابتسامة الومضية، فقد ترك الفتى نفسه نهباً لرياح الحيرة، كقارب قُطِعَت مرساته، واستسلم إلى النور. ولكن بقيت أسطورة الصورة، تخرج من الصورة، وعاد الخياط ومعه عاد العزف والرقص، وشعر الفتى أن عذاباً يغلف معلمه الخياط لا يريد أن يفصح عنه، وكانت هناك نقمة تلون كلماته، وقال له الخياط: رقصة الخنجر نزوة بالنسبة إليك غريبة عليك وعلى جوّك وستجلب لك المتاعب. رقصة الخنجر لا نوتة لها، مثل ريح العاصفة، وأنا أحب هذه الريح.

نهت زوجة الخياط فتانا عن النظر من النافذة إلى القبو أسفل بيتهم، أطاع الفتى رغم الفضول المحرق، ولكنه رأى امرأة القبو بقميصها الليلكي وهو في نوبة زيارة، تدعوه بصمت، إلى الخطيئة، وعرف لماذا كانت زوجة الخياط تنهاه! قالت امرأة القبو له فيما بعد: عشرة على واحد كنت أراهن على أنك ستأتي، وفي آخر رقصة في بيت الخياط كانت ترمق الفتى بعينيها السوداوين، تتحدى وتغري حتى جعلته يفقد توازنه تحت وطأة نظرتها الرهيبة، المتوحشة الآسرة، فهوى الخنجر ومزق لحم الركبة، قبل أن تتراجع وتختفي كما ظهرت. ولكنها ظهرت ثانية في بيت الفتى، وقد حملت معها فضيحة هزت الجميع، حين قالت مخاطبة خطيب شقيقته الذي يحب رقصة التانجو ويكره رقصة الخنجر: السيد نسي عندي سرواله!، ثم رمت بالخنجر، وفيما بعد أخفت زهوها بالانتصار. وكان الحل في رحيل الخطيب أولاً، ثم الفتى إلى بيروت لكي يواصل دراسته.

في نوبة غضب قتل والد الفتى فلاحاً، فسجلوا القضية دفاعاً عن النفس، وأعطوا زوجته نقوداً استر