بمناسبة مرور عام على وفاة الدكتور عبد الكريم اليافي الدكتورة شادن اليافي ترثي والدها بقصيدة لشيللي

11/تشرين الأول/2009

بمناسبة مرور عام على رحيل الدكتور عبد الكريم اليافي نشرت ابنته الدكتورة شادن اليافي مقالة في جريدة تشرين، في عددها الصادر اليوم 10 تشرين الأول 2009، تستحضر فيها ذكرى والدها، وترثيه في نهاية المقال ببعض من أبيات للشاعر الإنكليزي شيللي، الذي أمضى سنين عمره في الاغتراف من مناهل المعرفة. وفيما يلي نصُّ المقال كما ورد في الصحيفة:

«عام من الفراق قد مضى لم يزدني إلا قرباً من والدي الحبيب. مازلت أرى أمامي عينيه المتألقتين ذكاء وتفاؤلاً، ومازالت كلماته الحانية تغمر وجودي بالإيمان. عام من الفراق قد مضى لم يزدني إلا قرباً من والدي الحبيب. مازلت أرى أمامي عينيه المتألقتين ذكاء وتفاؤلاً، ومازالت كلماته الحانية تغمر وجودي بالإيمان. ‏
تعلمت منه حبََّ العمل والجلد والإتقان. كما نقل إليَّ شغفه بالقراءة، وعشقه للفلسفة وللغة العربية، ونقل إليَّ شعوره الصوفي العميق ومناعته العتيدة تجاه عدوى المادة التي تلوث الحياة في هذا العصر. كان والدي يعمل مدفوعاً بحبِّ العمل وحده شأنه شأن كبار من الفنانين والأدباء الحقيقيين. كان يروي كيف رفض الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر جائزة نوبل مع ما تجلبه من أموال، وكيف كتب فان غوخ في رسالة لأخيه يقول: "لا يهمني حتّى النجاح إذ تكفيني متعة العمل". لقد علمني والدي أنّ الحرية الإنسانية الحق تأتي من تطهير النفس من التعلق بالمظاهر والأمور الزائلة، وأنّ التفاني في العمل هو نوع من العبادة. ‏ كان والدي يعشق الموسيقى الكلاسيكية، ولاسيما موسيقى المؤلفين الثلاثة: باخ وبتهوفن وشوبرت. كان يعجب بالروحانية في موسيقى باخ، وقوة الإرادة عند بتهوفن، والرقة في ألحان شوبرت وأغانيه. لعلّ هذه الصفات الثلاث تمثله خير تمثيل، فهو الروحاني المتدين الذي مزج العزيمة وقوة الإرادة دون التخلي عن اللطف والتواضع والرقة. لقد جلَّ في تواضعه، وسما في أدبه. هو الذي جعل دمه مداداً يغمس فيه قلمه. ما عسر عليه مشكلٌ قط ولا مسألة إلا وجدت عنده حلاً، وكم كان يعلو وجهَه البِشر حين يجد جواباً لمعضلة أو حلاً لمسألة.
كان اسمه في لوحة الشرف متفرداً في كلتا المرحلتين الإعدادية والثانوية. ست سنوات وانتهت الدراسة بفوزه الأول على طلاب سورية بالشهادة الثانوية، وأتقن في هذه السن المبكرة الرياضيات واللغة العربية وكان مبرزاً في مجال اللغة والنحو وتمثل بقول الشاعر: ‏
وعلمتُ حتّى ما أسائل واحداً عن علمِ مسألةٍ لكي أزدادها ‏

أما دراسته في الغربة فكانت صعبة ومفيدة، نال اثنتي عشرة شهادة وعلى رأسها الدكتوراه من جامعة السوربون، رغم ظروف الحرب والفقر والمرض. لقد غرف من مناهل العلم والأدب مع مكابدته تلك الظروف. كانت عزيمته على الدراسة كما يقول هو في تلك الأجواء "ملحمة، وأيُّ ملحمة" وحين وضعت الحرب أوزارها صيف 1945 عاد مع رفاقه إلى الوطن بعد انقطاع ثمانية أعوام "ذاق فيها المر وجنى المفيد". ‏
دخل في هيئة التعليم بكلية الآداب عام 1947 وطفق يرفع في الكلية بنيان علم الاجتماع وعلم السكان، ودعائم علم الجمال وفلسفة العلوم، ثمّ بحوث التصوف وتأملاته العميقة في نطاق الفلسفة العربية الإسلامية الواسعة، فدرّس نصوصاً للصوفية الأوائل كالحلاج والمحاسبي والجنيد، ثمّ عمد إلى تدريس أصعب كتب التصوف فصوص الحكم للشيخ محيي الدين بن عربي. ومن طلابه من أصبحوا وزراء وضباطاً ونواباً ومسؤولين، وتخرج عليه كثير من أساتذة الجامعات في سورية وفي الوطن العربي، وجمع غفير من أساتذة التعاليم الثانوي فتعاليمه مستفيضة وآثاره في الأجيال عميقة ومستمرة. كذلك تخرج عليه كتاب وشعراء وفلاسفة وعلماء أصبحوا معروفين في الوطن العربي استطاع أن يثير مكامن النور في نفوسهم وجوانحهم. يقول هو: "كم سعد حين كان يرى أغراسه تنمو فتنبت الورد والياسمين وصنوف الأزهار أو تشتد وتثمر شهي الفاكهة وطيب الثمار أو حين يبصر ضوء مصابيحه تنير أحياناً خبايا الظلام على توالي الأيام والأعوام" ‏

درّس في الجامعة مدة تزيد على أربع وخمسين سنة، أي أكثر من نصف قرن لا في كلية الآداب وحدها، بل في العديد من الكليات الأخرى: كلية الطب، التجارة، الصيدلة، العلوم، الشريعة. ‏سمتّه منظمة الأمم المتحدة خبيراً أول في علم السكان مرتين في بيروت أولاً ثم في بغداد. ‏لقد حمل أمانة العلم تعلماً وتعليماً وكأنه كان يحس أنّه مسؤول عن أن ينقل بأمانة كل ما حفظ وعرف وأنجز إلى أبنائه الطلاب، وأن ينشئ حركة فكرية حديثة تصل الماضي المجيد بالحاضر المتوثب، وذلك كما يقول هو: "بصمت الواثق بعلمه وتجرد المؤمن برسالته وصبر المدقق الغيور". وضع أربعة وعشرين كتاباً وعشرات المقالات في الصحف والمجلات، وكان ينتمي إلى العديد من الجمعيات العلمية والثقافية العالمية. ‏كُرّم ست مرات من بلدية حمص، وجامعة دمشق، ومجلة الثقافة، وجمعية خريجي الدراسات في حمص، واتحاد الكتاب، وتوج ذلك بوسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة منحه إياه سيادة الدكتور بشار الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية عام 2002. ‏حتّى أواخر حياته ظلّ والدي عصرياً متفتحاً يؤمن بتقدم مستمر للعلم والفكر وبالتجديد الدائم. كثيراً ما كان يذكر قول الفيلسوف المتصوف النفّري: "العلم المستقر كالجهل المستقر"، ويعجب ممن يحنّون إلى غبار الأزمان السالفة والعادات البالية ويسمونها "ثقافة". الثقافة الحقيقية عنده إبداع وتجديد مستمران وهناك فرق شاسع بين التراث العربي والإسلامي الذي كان له أبلغ الأثر في حضارة الإنسانية جمعاء وبين الأزقة العتيقة الوسخة والأبنية التالفة التي لا بدّ من استبدالها وتحديثها. إذ أنّ النظافة والجمال هما جوهر الحضارة، لا بل جوهر الإيمان كما جاء في الأثر: "إنّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال، سخيٌّ يحبُّ السخاء، نظيفٌ يحبُّ النظافة". ‏
كان الشاعر الانكليزي المرهف شيللي واحداً من أكثر الشعراء العالميين المفضلين عند والدي. وعندما يجمح بي ألم الموت وتنزف الدموع من عيني أردّد قصيدة كتبها هذا الشاعر في رثاء صديقه كيتس:
صمتاً، صمتاً! إنِّه لم يمت، إنِّه لا ينام، لقد صحا من حلم الحياة. إنِّما نحنُ هم التائهون في روئ مضطربة، المشتغلون في صراع مع الأطياف لا نفيد من ورائه شيئاً، إنِّما نحن هُم الهالكون تصرعنا المخاوف والأحزان يوماً بعد يوم وتأكلنا أكلاً».



اكتشف سورية

Creative Commons License
طباعة طباعة Share مشاركة Email

المشاركة في التعليق

اسمك
بريدك الإلكتروني
الدولة
مشاركتك
شادي منير احمد:
الدكتورة الرائعة بالفن والادب و الاخلاق و الوفاء لوالدها المفكر الكبير عبد الكريم اليافي رحمة الله عليه تحيه طيبة وبعد : نعتز ونفخر بالراحل الكبير الذي قدم لنا الكثير من العطاءات وكان المعلم وصاحب الفكر الوقاد ، إن الراحل المتميز قدم لنا قبل ان يرحل أرق واحلى فنانه ستكون من أهم عازفات البيانو في العالم .

سوريا
مالك اليافي:
كل الولاء والمحبة لهذه العائلة الكريمة التي نفتخر بهادائماعائلة ال اليافي وبالاخص عائلة الدكتور عبد الكريم اليافي التي قدمت الكثير من الفكر والمعرفة...... واني اسال الله ان يغفر له ويرحمه وان يغسله بالماء والثلج والبرد وان ينقه من الذنوب والخطاياكما ينقى الثوب الابيض من الدنس وان يجعل مثواه الجنة انك انت القادر على ذلك.والى الثمرة الدكتورة شادن الرائعة واشكرها على المقالة التي نشرتها في جريدة تشرين.اسال الله ان يزيدك علما على علمك وان تكوني نورا تضيئي به درب الاجيال القادمةبالعلم والمعرفة و الموسيقى........


ARMENIA