الصفحة الرئيسية | شروط الاستخدام | من نحن | اتصل بنا
|
أمسيتان شعريتان في ليلتين، أحيتهما اثنتا عشرة شاعرة قدمن إلى دمشق من بلدان عربية مختلفة ليعلنّ انطلاقة تظاهرة ثقافية شاء منظموها أن يسموها ملتقى «48 ساعة شعر»، على أمل أن يتحول تقليداً سنوياً بعيداً من الطابع الرسمي، الدعائي، وقريباً من نبض الثقافة المحلقة خارج المنابر المكرّسة، والملتصقة بالحياة العارية بكل صخبها وهمومها وأسئلتها. «قلتُ سأجرح هذا الصمت بقليل من الشعر. طيَّرتُ ما أملك من عتاد، ريشة... فكرة! فنفخ عليها الأصدقاء، لتعلو... لتعلو»، هكذا تفصح الشاعرة السورية هالا محمد عن كيفية ولادة هذا المشروع الثقافي الطموح الذي احتفى بقصيدة النثر المكتوبة تحديداً بقلم الأنثى.
وحين نقول «قلم الأنثى» فان ذلك يفتح الباب واسعاً أمام سجالات حادّة شهدتها الساحة الثقافية العربية، لكن الملتقى لم يخض في الجدل الدائر حول الكتابة النسائية، والفروق بين هذه الكتابة وتلك التي يكتبها الرجل، ولم يثر في الأمسيتين أي حديث يشير إلى بحث الأنثى عن مشروعية لها، ولكتابتها، ضمن «الثقافة الذكورية الطاغية»، بل، على العكس، جاء الاختيار «حباً بالمذكر واختيالاً بالأنثى» كما عبرت هالا محمد، ومثل هذا التعبيرالمهذّب والمهادن، لا يهدف إلى تكريس تلك المقولات النمطية في شأن الكتابة النسائية بقدر ما يطمح إلى إلغاء مفهوم النسوية الضيق الذي يقدم المرأة ككائن يرفض نسويته الناقصة، لكي يقتدي بالند الضد الكامل؛ الرجل.
ثمة نقادٌ كثر قاربوا هذه الإشكالية لعل أبرزهم الناقد السعودي عبد الله الغذامي، والمفكر السوري جورج طرابيشي وسواهما، وبمعزل عما قيل وكتب في هذا السياق، فان ما حاول الملتقى توضيحه هو الإشارة إلى أن الحالة الطبيعية هي التي تعيش فيها المرأة أنوثتها بحرية وثقة، ليس فقط في الحياة بل كذلك في الكتابة، وان تكون شريكاً للرجل لا خصماً له.
ولعل الشاعرات، المنتميات إلى أجيال شعرية مختلفة، ويمتلكن تجارب شعرية متباينة، ويعشن في جغرافيات متباعدة في العالم العربي، اللواتي جئن كي يعشن الشعر في كل لحظة على مدى الـ 48 ساعة من فعاليات الملتقى، عَبّرن عن هذا المنحى، المنحى الذي يؤكد بان جنس الكاتب، سواء كان ذكراً أم أنثى، لا يشكل معياراً لجودة النص.
ولئن سلمنا بذلك، فيمكن القول، عندئذ، بأن الشعر رقيق، ولطيف، وعذب في طبيعته، وتلك صفات تليق بالأنثى التي ستسربها، لدى الشروع في التدوين، إلى قصيدتها! لكن الأكيد أن ثمة معايير نقدية كثيرة لتقويم النص الإبداعي ليس بينها، بأي حال، معيار جنس الكاتب، وإذا كانت الناقدة البريطانية فرجينيا وولف قد طالبت، قبل نحو قرن، بـ «غرفة خاصة بالمرء وحده»، ورأت أن اتساع رقعة التجربة يؤثر في طرائق الكتابة ومضامينها، وهي هنا كانت تلمح إلى ضآلة تجربة المرأة المبدعة في الحياة قياساً إلى التجربة الواسعة للرجل المبدع، فيبدو أن الأحوال قد تغيرت مع مطلع الألفية الثالثة، بدليل أن الشاعرات المشاركات في هذا الملتقى حصلن في غالبيتهن على أعلى الشهادات من جامعات غربية، وبينهن من نهض بمشاريع ثقافية مثل السورية لينا الطيبي، وأخريات أنجزن أفلاماً سينمائية، وعملن في مجال الإعلام والتلفزة مثل البحرينية بروين حبيب التي تعمل في قناة دبي، وهالا محمد التي درست السينما في باريس وحققت أفلاماً لقناة الجزيرة، وكذلك الشاعرة الإماراتية نجوم الغانم التي درست السينما والتلفزيون في استراليا والولايات المتحدة الأميركية، والشاعرة السعودية أشجان الهندي الحائزة على الدكتوراه من جامعة لندن، والمغربية وفاء العمراني التي تعمل مستشارة ثقافية في سفارة بلادها في دمشق، وقد أصدرت دار «الأوس»، التي رعت هذا الملتقى، كتاباً يضم السير الذاتية للشاعرات المشاركات مع مختارات من قصائدهن.
تداخلت أصوات الشاعرات، وتزاحمت في فضاء «دار الفنون-تياترو» وسط دمشق، في طقس حظي باهتمام المشرفين، فبدا وكأنه عرض مسرحي تضافرت عناصره ومفرداته لتنتصر للشعر، لوحات تشكيلية مضاءة في عمق الخشبة، أنامل العازفة رهف شيخاني تتراقص على آلة الهارب لتواكب بعزفها إيقاع القصائد، إضاءة الفنان عبد المنعم عمايري تصوغ حواراً أليفاً بين العتمة والنور. منصةٌ خالية من الصور والخطابات والشعارات تستقبل الشاعرات، اللواتي قدمهن للجمهور الفنان غسان مسعود والفنانة أمل عرفة، بلا بهرجة زائدة، وكأن ثمة تحالفاً خفياً ربط بين الجميع، ضيوفاً ومنظمين، وجمهور، يقول إن الشعر وحده كفيل بأن يصنع ربيعاً في خريف المدينة المختارة عاصمة للثقافة العربية في السنة الجارية، وقد خلا الملتقى من أية إشارة إلى هذه المناسبة.
هل يمكن أن نتبين قواسم مشتركة بين اثنتي عشرة شاعرة قادمة من مرجعيات وأجيال مختلفة، ولها اهتمامات ورؤى وأساليب متنوعة؟ بعض هذه الأصوات حقق حضوراً واسعاً على المستوى العربي، وربما العالمي من خلال الترجمة، وبعضها طازجٌ جديد، وعلى رغم هذه التباينات، والتمايزات، فإن الملاحظة الأبرز تمثلت في الابتعاد عن القضايا الكبرى المثارة في العالم العربي، فالشاعرات المشاركات نأين بقصائدهن عن الحروب والصراعات والنزاعات المحتدمة في المنطقة، ما عدا العراقية داليا رياض، ورحن يصغين إلى صوت أوجاعهن الصغيرة، وهمومهن اليومية، وأحلامهن المؤجلة.
قصيدة نثر مغلفة بقليل من الغموض، عابقة بالأمل، تلوذ بها الأنثى الشاعرة كي تجهر بالمسكوت عنه، وتعبر عن غليان روحها وانفعالاتها على الصفحة البيضاء. فالمرأة، ومهما حققت من حضور، ونالت من امتيازات، تظل متوجسة من الحديث الصريح أمام الأهل والأصدقاء، فتلجأ، آنئذ، إلى بلاغة الشعر، وتحتمي ببيوت من ورق وكلمات تودعها الأسرار والأماني.
أصوات شعرية خافتة تسرد، بنبرة رومنطيقة، قصص الحب والحنين واللوعة والفراق والفرح والانكسار والحيرة والقلق، وتبوح بمكنونات الأنثى على نحو جريء حيناً، كاللبنانية لوركا سبيتي، وتارة في شكل موارب؛ غامض، كالبحرينية بروين حبيب مثلاً، وفي تارة ثالثة تأتي القصيدة شفافة؛ تهفو كالفراشة، إلى معانقة الضوء كالسعودية أشجان الهندي، والسورية لينا الطيبي.
إلى جانب ذلك حضرت أصوات سعت إلى التقاط اليومي والعابر عبر التكثيف والإيجاز، فتحولت ألفة اللحظات ورتابتها إلى قصيدة تختزل رحابة الحياة في جملة قصيرة؛ دالة كالسورية هالا محمد، والمصرية فاطمة قنديل، وثمة قصائد متواضعة لا تستحق وضعها في خانة القصيدة، فقد جاءت اقرب إلى الخاطرة الأدبية، أو إلى رسالة عشق مرتبكة إلى حبيب غائب.
الحياة
المشاركة في التعليق