دمشق كما يعرفها ابن عساكر ونزار
أزلية أبدية يقع العشاق في هواها

02/آذار/2008

في كتابه «تاريخ مدينة دمشق»، يورد ابن عساكر من بين ما يورد أن اسم سام بن النبي نوح يعني بالسريانية «شام»، وأن «دمشق» اسم رومي وهو في الأصل «دور مسكس» ويعني المسك المضاعف وذلك لطيبها وعبقها.
لا أريد أن أقف عند عشاق هذه المدينة الأزلية الأبدية، فعشاق هذه البتول عبر العصور لا يجرؤ أحد على عدِّهم أو إحصائهم كمن يطلب المستحيل أو يبحث عن سراب، لكني أودّ الحديث عن بعض أبنائها الذين أحبوا عناقها عن بُعد، فكان عشقهم لها ولقاسيونها ومساجدها وأزقتها وكنائسها وأسواقها أشبه بالعناق المستحيل والتمزّق بالعذاب، وأشبه بالأحلام المستحيلة كَمن يلامس خيط السراب الفاصل بين الوهم والحقيقة، أو كمن يتطهر بعبق البخور والمسك في الرؤيا.
لست هنا لتحديد أسماء كبيرة عشقت دمشق كثيراً إلا أنها غادرتْ دمشق لتعيش آلام الفراق دون أن يمنعها مانع من العودة إلى أحضان البتول الأزلية الأبدية!
دمشق أعرق عاصمة في الوجود. ألاَ يدل ذلك على أنها تحمل تميّزاً لا يحمله سواها على سطح الخليقة؟
ما دفعني لهذا الحديث هو أستاذ جامعي فرنسي الجنسية، انتدبتْه حكومة بلاده لتدريس مادة الأدب المقارن مدة سنتين في دمشق، إلا أنه كالكثير من عشّاقها سرعان ما وقع في هواها فظل يطلب تجديد عقده حتى صارتْ مدة إقامته تزيد على عشر سنوات، ولقد تعمدت ذكر هذه المفارقة للدلالة على لغز هذه العذراء التي تجذب عشاقها بخفر سحري فيهيم الكل في هواها، ويعبِّر كل واحد بطريقته عن هذا الهيام والعشق الصوفي، وذاك الفرنسي أقام في بيت دمشقي قديم في حي من تلك الأحياء الساحرة الزاخرة بعبق تاريخ آسر محمَّل بصدى بعيد لحضارات وحضارات تتالت ومضت، وبقيت المحروسة دمشق بتول الدنيا وعذراءها الأبدية، حماها الله بعين رعايته!
يجمع الكثيرون على أن هذه البتول تقول ولا تقول، وتخفي مشاعرها، ويحمرّ خدَّاها، فلا تعود تحزر أهو احمرار العشق المخبأ أم سورة الغضب أم صمت الاحتجاج، ولا يستطيع أحد أن يفك لغزها العصيّ ولا أنْ يدرك متى تكون عاشقة أو في سورة غليان، وهي غامضة مثل لوحة الجوكوندا لا يمكن لأحد أنْ يدَّعي أنه يفهمها على نحو نهائي لأنها ملتبسة أبداً وتحتمل كل الاحتمالات، وكذلك هي شام الياسمين ناصعة بيضاء نقية طاهرة.
يتراءى لي من بين السطور وجهها رمزاً قبل أنْ أنهي مقالتي الغزليِّة في الشام.
دمشق وبيروت أن تتلو وصيته الأخيرة القادمة من لندن فإذا بالابن البارّ يطلب أن يدفن فوق صدر أمه! وتنفَّسنا ألماً، وكبرت الدموع في أعيننا ومآقينا، وارتدَّتْ عيناي إلى حديقة الجاحظ حيث كان يمشي باكراً في صبيحة كل يوم حين يكون في الشام، وكنت مراهقة آنذاك ولكني خجلت من النزول إليه لأرافقه في نزهته وأقول له كم أحبه، وكل يوم كنت أقسم لنفسي بالنزول إليه في الغد ولكن جاء غد لا غد له ولن أغفر لنفسي ما حييت كارثة حرمان نفسي من النزول إليه ومرافقته والتحدّث إليه ولو بكلمة، ولعل لوعتي تصل إلى روحه فتتبخر بتعويذاتي وحبي كما تتبخر أرواحنا بمسك شعره الشامي.



الوطن

المشاركة في التعليق

اسمك
بريدك الإلكتروني
الدولة
مشاركتك